في قلب الدار البيضاء النابض، يمتد شارع محمد الخامس كشريان يحمل بين طياته تاريخا عريقا يختزن فصولا طويلة من ذاكرة المدينة الحديثة، فعلى جنباته، تنتصب شامخة عمارات تعود إلى بدايات القرن العشرين مصممة بطراز الأرت ديكو المتميز الملفت للنظر رغم مظاهر الإهمال التي بدأت تظهر عليها بفعل عوادي الزمن ولامبالاة البشر، بجوارها يقف “مارشي سنطرال” منكسرا تحت وطأة الإهمال، هناك حيث تلاقت يوما الحداثة المعمارية مع الحركية الاقتصادية، تتراءى اليوم ملامح تدهور يُقلق البيضاويين ويحرج الزائرين.
“هذا الشارع كان وجه المدينة، وها هو اليوم يئن تحت الفوضى”، تقول فاطمة، سيدة ستينية من سكان شارع محمد الخامس ( المحطة سابقا “Boulevard de la Gare” )، وهي تشير إلى الأرصفة التي غمرتها الأوساخ واحتلها باعة يعرضون كل شيء على الأرض، من الملابس والأحذية الرياضية والحقائب النسائية رخيصة الثمن إلى الكتب والمجلات إلى جانب عربات بعض الفواكه الموسمية كالبطيخ الأحمر الذي أصبح يباع، في ثقافة غريبة على البيضاويين، قطعا فردية ملوثة بدخان “السناكات” القريبة والغبار والروائح الكريهة المنتشرة.
شارع محمد الخامس الذي يعد من أبرز الشوارع التي شُيّدت خلال الحقبة الاستعمارية، يصل ساحة الأمم المتحدة والمدينة القديمة بمحطة الدار البيضاء المسافرين، وهو من أهم شوارع مدينة الدار البيضاء، يمتد على مساحة أكثر من 2 كلم، من ساحة الأمم المتحدة القريبة من باب مراكش إلى محطة الدار البيضاء المسافرين، ويوجد به السوق المركزي وتحف معمارية بنيت في بداية القرن العشرين، ويضم العديد من البنايات ذات طابع “الآرت ديكو”، إلى جانب مسار “الترامواي” الذي كان من المفروض أن يعيد الحياة إليه، لكن يبدو أن هذا الشريان يعاني اختناقا لا علاقة له بحركة المرور، بل بتراكم الإهمال والتسيّب.
بالشارع، يقبع “مارشي سنطرال” أو السوق المركزي، أحد أقدم الأسواق بالمدينة، ورغم أهميته التجارية وموقعه الاستراتيجي، فإن السوق لم يسلم بدوره من التراجع، إذ تستوقف المار من هناك مظاهر الإهمال البادية عليه بشكل واضح، فالنفايات والأوساخ تتراكم بجنباته ناهيك عن الروائح التي تزكم الأنوف، إذ يعمد الكثير من المارة إلى إفراغ مثانتهم على أعمدته وحيطانه وقرب مكبات الأزبال القريبة منه وفي الأزقة الخلفية، خصوصا في الليل والساعات الأولى للصباح، في منظر بشع ومخجل يدعو إلى التساؤل حول سلامة المنتجات المعروضة في حوانيته خصوصا تلك الموجودة خارجه.
داخل السوق، قد لا تجد النظام الذي يرتبط في الأذهان بكلمة “مركزي”. أكوام من النفايات، وبنية تحتية متآكلة، وروائح تثير الغثيان وتدعو هي الأخرى إلى طرح أسئلة النظافة وسلامة المنتجات التي تباع داخله . يقول أحد الباعة في السوق، وقد طلب عدم ذكر اسمه: “نحن نشتغل هنا رغم كل الظروف بدون بنية تحتية مناسبة، وكلنا خائفون من أن نُطرد فجأة كما تم طرد باقي التجار من الأسواق الأخرى “.
إضافة إلى كل البشاعة المحيطة بالسوق يبرز معطى آخر ارتبط بشارع محمد الخامس وبالسوق المركزي على وجه الخصوص هو الانتشار المفجع للمشردين والمتسولين، الذين حول بعضهم الأرصفة إلى مأوى، واتخذوا من أقواس السوق وحيطانه وأبواب دكاكينه المغلق بعضها وتحت الأعمدة الكهربائية مستقرا لهم، يفترشون فيه الأرض ليناموا غير عابئين بما يدور حولهم ومن يمر قربهم، ويحتدم الأمر عند نزول الظلام حيث يتحول الشارع إلى مستقبل للكثير من الظواهر المشينة، أصوات صراخ، مشاحنات ليلية، ووجوه منهكة تنام على أرصفة تغمرها القمامة. كما تتحول بعض الأزقة الجانبية إلى مراحيض عمومية، الأمر الذي يفسر الروائح الكريهة التي تستقبل الزوار قبل السكان.
شارع محمد الخامس وسوقه المركزي من المعالم التاريخية المميزة للدار البيضاء لذا فإن أعدادا من السياح سواء المغاربة أو الأجانب الذين يحلون بالدار البيضاء ينتابهم الفضول لزيارتهما، لما يتوفر عليه الشارع من بنايات وإقامات وممرات تاريخية التي تجمع في بنائها وفنونها المعمارية بين الطابع الإسلامي المغربي والطابع الأوروبي القديم خاصة الفرنسي منها والإيطالي، لكنهم يصدمون بمظاهر عدم الاهتمام واللامبالاة المحيطة بهما، والتي تغرقهما في بحر النسيان وكأنهما فقدا قيمتهما الرمزية والحضارية في ذاكرة المدينة، رغم ما يحمله شارع محمد الخامس من إرث عمراني كولونيالي فريد، وما يمثله السوق المركزي من نبض شعبي واقتصادي متجذر في تاريخ المدينة، ” جئت إلى مدينة الدار البيضاء في زيارة عمل واستغللت الفرصة لزيارة بعض معالمها السياحية، ولكني صدمت بما يعرفه هذا الشارع خصوصا بمحيط السوق المركزي من عدم اهتمام وروائح كريهة تدفع أي زائر إلى الهروب وعدم التفكير في الرجوع …”، يقول أحد السياح الأجانب وملامح الاشمئزاز بادية عليه.
وتزداد خيبة الزوار حين يصطدمون بغياب أي مبادرات جادة لإعادة الاعتبار لهذين المعلمين، سواء من حيث الترميم المعماري أو التنشيط الثقافي والتجاري، في وقت تتسابق فيه مدن أخرى داخل المغرب وخارجه على صيانة ذاكرتها العمرانية وتوظيفها في تنمية السياحة والثقافة، ويعتقد عدد من الفاعلين الجمعويين أن الإشكال لا يتعلق فقط بالنظافة أو التشرد، بل بغياب رؤية حقيقية لإعادة الاعتبار للوسط الحضري للعاصمة الاقتصادية. بعض الأصوات تقترح تحويل “مارشي سنطرال” إلى فضاء ثقافي وسياحي، كما وقع في مدن عالمية عديدة، مع الحفاظ على نشاطه التجاري، لكن بأسلوب عصري ومنظم، ورغم أن سلطات البيضاء كانت قد أعلنت عن إطلاق مشروع تجديد شامل للسوق المركزي، وتشمل الأشغال تحديث المحلات التجارية وتوحيد تصميمها المعماري بما ينسجم مع الطابع العصري للمدينة، مع الحفاظ على البعد التراثي للمكان بقيمة 60 مليون درهم، إلا أن إعادة التأهيل لا تزال متوقفة إلى حد الآن مما يثير قلق التجار .
إن الشارع والسوق لا يمثلان فقط فضاءين للتجول أو التبضع، بل هما ركيزتان من ركائز هوية الدار البيضاء التي لطالما تغنّى بها البيضاويون وافتخروا بها. لذلك، فإن إعادة الحياة إليهما، من خلال برامج تهيئة حقيقية ومحترمة لتاريخهما، مع احترام والمحافظة على مصالح التجار أصبحت ضرورة حضرية وثقافية لا تحتمل التأجيل، والسؤال الذي يردده الجميع هو: من يحمي هذه الذاكرة الجماعية من التآكل؟ أين المجلس الجماعي؟ أين ولاية جهة الدار البيضاء-سطات؟ أين مديرية الثقافة؟ وهل يتطلب الأمر كارثة صحية أو حادثا خطيرا لتحرك الجهات المسؤولة؟
من قلب الدار البيضاء: شارع محمد الخامس ومارشي سنطرال بين ماض مجيد وواقع مزر

الكاتب : إعداد : خديجة مشتري
بتاريخ : 23/07/2025