عند وصولك إلى محطة القطار مراكش تكاد لا تصدق أنها المدينة الأقرب من محيط الزلزال الذي هز قلوب المغاربة قبل ساكنة المنطقة، إذ تجد الحياة تمارس بشكل طبيعي والسياح الأجانب يتجولون هنا وهناك حتى أن محور الحديث بين المراكشيين لم يعد هو الزلزال اللهم إذا سألت أحدهم ليعود بك إلى ليلة الفاجعة وأحاسيسه حينها، من المحطة إلى تحناوت بإقليم الحوز أول المناطق المتضررة حوالي 35 كيلومتر، لم تستغرق الطريق أكثر من النصف ساعة ترافقك فيها شاحنات وسيارات مليئة بالمؤن والمواد الغذائية تسير بسرعة كأنها تسابق الزمن لتصل إلى وجهتها.
بداية الألم…
هنا تحناوت أول قبلة للمناطق المنكوبة أسر تفترش الخيام لتبدأ بنسج ذكريات جديدة خارج أسوار بيوتها التي امتزج طوبها مع تراب الأرض، ملامح مستسلمة لقضاء الله أطفال يلوحون لك باستغراب وفرحة مستأنسين برواج ما عهدوه قبلا، رواج ألهاهم عن التعلق في بقايا ليلة ضنكا التهمت الروح قبل الجسد، نساء ورجال يبتسمون لك رغم الألم ابتسامات ترحب بك من تاحناوت حتى ثلاث نيعقوب بؤرة الزلزال، ما إن تمر بإسني، مولاي إبراهيم، ستي فاطمة، ويرغان، وإيجوكاك، وغيرها من المناطق المنكوبة، حتى تختلط عندك الأحاسيس، بين مشاعر حزن لعائلات فقدت منازلها واتخذت من السماء غطاء لها وأطفال يبحثون هنا وهناك عن بقايا طفولتهم بدأوا موسهم الدراسي بعيدا هن كراسي مدراسهم التي لم يبقى منها سوى أسوار حروف الأبجدية ونساء يمسحن دموعهن بوشاح أخفى التراب زخرفته الجميلة، وبين فرحة تزرعها روح أهل المنطقة الطيبة في نفوس المارة بترحابهم وحسن ضيافتهم رغم ما ألمَّ بهم من ألم إذ تلمس معنى التفاؤل والرضى الحقيقي بقضاء الله وقدره دون تحسر على ما فُقد.
عزة نفس ونفوس طيبة تفكر لغيرها وترضى بقضاءها…
سرعان ما ينزاح عن عاتقك همُّ الحياة وثقلها وتصغر في عينك ما كنت تعتقد أنها مشاكل معقدة، وتشفى ببلسم كلمات تعلق في الذهن يرددها على مسامعك من هم في أمس الحاجة للمواساة، تعتقد أنك هنا للتخفيف عنهم فيحدث العكس عندما تسمع أحد المنكوبين ممن فقدوا كل شيء بمفهومنا العادي وهو يصدح بقول «الحمد لله الذي سيعوضنا فكما قضى هذا الأمر سيأمر بخير منه كل أمور الله جيدة»، وآخر وهو يعبر عن سعادته كون أن هذا الزلزال لم يصب غيرهم من سكان المدن قائلا :» سعيد لأن ما حدث حدث في منطقتنا ولم يصب أهل المدينة لأننا ما كنا سنستطيع مساعدتهم»، لتستغرب كيف لهم أن يفكروا بغيرهم في عز أزمة أجمع العالم على شدتها، ناهيك عن عزة نفس لن يُرى مثلها فرُغم حاجتهم لأبسط الأشياء تجدهم يتعففون ويترفعون عن سؤال الغير وإذا ما حاولت تقديم يد العون أو مساعدتهم يخبرونك أن غيرهم قد يكون أكثر حاجة منهم إليها، ومن الكرم وحسن الضيافة لهم النصيب الأكبر يجودون بالموجود وتأبى عاداتهم وثقافتهم إلا أن تشاركهم طعامهم ومجلسهم.
الوجه الجميل للكارثة روح التامغرابيت التي خففت ألم المنكوبين…
من قال أن الفواجع والكوارث كلها شر، فظلام زلزال الحوز أنارت حِلكتُه روحُ التامغرابيت التي كسرت قوتها اعتقاد من يشككون في روابط المغاربة وتآزرهم، فمن كل المدن حج المغاربة إلى ثلاث نيعقوب بؤرة الزلزال والقرى المجاورة لها لتقديم يد المساعدة إذ ترافقك إلى تلك المناطق عشرات إن لم تكن المئات من السيارات والشاحنات المحملة بما قد تحتاجه ساكنة المنطقة غير مبالين ببعد المسافة أو مشقة طريقها التي تستغرق قرابة الست ساعات وأكثر لضيق الطريق وكثرة الوافدين المصطفين كسلسلة قوية ينشدون قصيدة الوطنية بعطائهم وتلاحمهم وأصوات محركاتهم كسمفونية يريح لحنها مسامعك، قادمين من شمال المغرب وجنوبه حاملين معهم حب المغاربة الذين أرسلوا دمهم ودعواتهم قبل مساعداتهم، وتشاهد صور جميلة خففت من هول ما حدث وأنعشت قلوب من بكوا لفراق أحبائهم وضياع مساكنهم.. هؤلاء الذين عبروا عن امتنانهم لكل الحب الذي أحاطهم به إخوانهم المغاربة صغيرهم قبل كبيرهم..، لن تجد في طريقك مكانا لم توضع به كميات كبيرة من المساعدات لكي يسهل على من احتاجها الوصول إليها، أشخاص يحملون مختلف المواد الاستهلاكية والأغطية وغيرها يوزعونها هنا وهناك تشعر بقربهم منك منذ أول لقاء يمثلون أحد أوجه المغرب الجميل وجه يظهر في المحن والأزمات.
ووسط إقليم الحوز وتحت سماء لا تخلو من المروحيات العسكرية، هنا رجال ونساء من خدام الوطن الأوفياء الشجعان ممن لبوا نداء الأخوة والإنسانية قبل الواجب، تجد أمامك العشرات من عناصر القوات المسلحة الملكية والقوات المساعدة وأفراد الدرك والوقاية المدنية يوزعون الخيم والمساعدات ويبحثون وسط الأنقاض عن ناجين ويسعفون المصابين وينظمون سير شاحنات التضامن باذلين قصارى جهدهم كخلية نحل لتجاوز هذه الأزمة بأقل الأضرار، سيارات الإسعاف تحاول إيجاد طريق لها في تلك المقاطع الجبلية الوعرة الضيقة والإزدحام الخانق الذي تحاول عناصر القوات المساعدة تدبيره لتسهيل مرورها ومرور باقي المركبات دون حوادث أو فوضى كما لا تخلو الطريق من الجرافات والمعدات التي تمهد الطريق للمارة لوصول المساعدات وفك العزلة عن المناطق المتضررة وإزالة الأحجار التي خلفتها الإنهيارات الصخرية، فإلى جانب المواطنات والمواطنين تحركت السلطات المغربية بمختلف إمكانياتها البشرية واللوجيستية واحترافيتها لإغاثة ضحايا الزلزال في مشهد أبهر العالم عامة وكل من زار المناطق المنكوبة من صحفيين وأجانب خاصة، أجانب من مختلف الجنسيات منهم من تواجدوا بالمغرب تزامنا مع الزلزال واخرون دفعهم حب المغرب والمغاربة إلى المجيء وتقديم يد العون معتبرين أن ما يربطهم بالمغرب ليس السياحة فقط.
ثلاث نيعقوب بؤرة الزلزال رائحة الموت وحياة تولد…
استغرق الأمر ساعات كثيرة بالسيارة للوصول إلى مركز الهزة الأرضية «ثلاث نيعقوب» وهي المسافة التي كانت لا تتطلب سوى الساعة والنصف حتى الساعتين إلا أن انهيار العديد من الطرق التي تؤدي إليها وكثرة السيارات والشاحنات المتجهة إلى هناك زاد من صعوبة الوصول، هنا تجد منازل قد هدمت وذكريات غاصت تحت التراب، دمار فوق الوصف رائحة الموت تفوح من مختلف الجوانب أسر اتخذت من الخيام بيوتا مؤقتة لها وهي تبكي موتاها في صمت، مشاهد تتكرر في معظم المناطق المنكوبة، حكايات تتشابه ألم واحد مزقت حدته شريط حياة، وسط هذه اللحن الحزين أسدل الليل ستاره لتنير نجوم السماء هذه البقعة المنكوبة التي تفصلك عن مناطق أكثر تضررا، هنالكم من قرر المبيت وسط هذا العزاء ليواسي أهالي المنطقة واخرون جاءوا لتوزيع المساعدات لكنهم فضلوا البقاء والاستمرار في مد يد العون والتوجه نحو «إيغيل» الأكثر تضررا لما لا إلى أبعد منها إن استطاعوا، في طريق عودتك تجد أن مركبات وشاحنات التضامن لا زالت تشق طريقها نحو بؤر الزلزال مصابيحها تضيء لك الطريق لترى أن المغاربة