مولاي المهدي العلوي، الملك الحسن الثاني ودي كويلار.. كيف أربك المغرب مخططات الجزائر في الأمم المتحدة حول قضية الصحراء! 2/2

حظيت قضية الصحراء بالأولوية لدى مولاي المهدي. وكانت سفرياته الخارجية، التي مثل فيها حزب الاتحاد الاشتراكي، سواء في اجتماع اتحاد المحامين العرب، أو في  الحقوقيين العرب، أو أثناء زيارته إلى بعض الدول الأوروبية، كما أولى اهتماما حصريا لها حين عينه الملك الحسن الثاني ممثلا دائما للمملكة في الأمم المتحدة.
ومما يحكيه الراحل مولاي المهدي العلوي في كتابه «أحداث ومواقف» أنه قطعه رحلته إلى الأردن للمشاركة في أعمال المجلس الوطني الفلسطيني المنعقدة شهر نوفمبر 1984، ليلتحق بالوفد المتجه إلى نيويورك برئاسة أحمد رضا اكديرة، المساعد الأقرب للملك الراحل الحسن الثاني، وأحد مستشاريه الخُلص، للمشاركة في أشغال الدورة 39 للجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان يضم ما يزيد عن 150 شخصية منها ممثلون عن الطيف السياسي بأكمله، وشخصيات تمثل أعيان ووجهاء وشيوخ القبائل الصحراوية.
وقال مولاي المهدي: «عند وصولنا إلى نيويورك عقدنا أول اجتماع تنسيقي بفندق الإقامة، استمعنا فيه لتوجيهات المستشار رضا اكديرة، الذي تولى تلاوة وثيقة خاصة بقضية الصحراء سيتم توزيعها على أعضاء اللجنة باسم المغرب، وكان قد تم توزعيها لأول مرة علينا للاطلاع على مضامينها وإبداء الرأي حولها.
بعد قراءة أولية، طلبت الكلمة للإدلاء بملاحظاتي بشأن الوثيقة التي كانت تغيب عنها الروح المغربية. وقد علمتُ فيما بعد أنه قد عُهد لخبراء أجانب بصياغتها، وطُلب منا إجراء الاتصالات مع أعضاء اللجنة، كل بطريقته، لإطلاعهم على الوثيقة وإقناعهم بتبنيها، لاسيما ممثلو الدول الصديقة للمغرب.
في حقيقة الأمر، كان ذلك أول عهدي بنيويورك وبمبنى الأمم المتحدة. فقد كنت، كما هو الشأن بالنسبة لزملاء آخرين، كمن ركب متاهة وطُلب منه البحث عن نقطة الوصول. ذلك أنه لم تكن لي أية معرفة مسبقة بتقاليد الاشتغال في الأمم المتحدة وبكواليسها، كما لم تكن لي أية صلة بأي سفير أو موظف، سواء من العرب أو من الأفارقة أو من غيرهم.
وبينما كنت متجها إلى القاعة التي تحتضن اجتماعات اللجنة الرابعة، إذا بي ألمح من بعيد وجها ينبعث من بين الجدران لشخص تأكدت، كلما كان يدنو مني أكثر، بأنني أعرفه جيدا. نعم كان هذا الشخص أحد الأصدقاء من قيادات حزب البعث العربي السوري، الذي كنت قد تعرفت عليه خلال زيارتي لدمشق، فسألته عن سبب وجوده في هذا المكان، فأخبرني بأنه التحق، قبل مدة، للعمل في الأمانة العامة لهيئة الأمم المتحدة.
تمسكت بالرجل، كما يفعل «الغريق» الذي يتمسك بقشة طلبا للنجاة، لأطلعه بنوع من «الكبرياء» على مضمون الوثيقة وما أنا عازم عليه، مع حرصي الظاهر على أن أمنحه الانطباع بأنني على بيِّنة من أمري، فما كان منه إلا أن بادرني بالسؤال مستغربا عما إذا كانت تلك أول مرة يُقدم فيها المغرب على عمل من هذا النوع في إحدى هيئات الأمم المتحدة!؟
أمعنت النظر في عيني مخاطبي، وسحبته جانبا، حتى أمنحه الفرصة للاسترسال، ليخبرني بنبرة حازمة أن تقاليد العمل في المنظمة الأممية تقتضي أن تُطرح كل وثيقة بهذه الأهمية للدراسة مباشرة بعد انتهاء أشغال الدورة السابقة، ليطلع عليها الأصدقاء الرؤساء ووزراء الخارجية، وتكون موضوع مشاورات، قبل عرضها على الاجتماع الرسمي. لأن طرحها بهذه الكيفية سيكون بمثابة هدية لأعداء المغرب، بما أن لهم الحق في طلب إجراء تعديلات جوهرية على مضامينها بما يخدم مصالحهم، لاسيما وأن الجزائر كانت تتوفر، حينئذ، على أغلبية مريحة داخل اللجنة الرابعة. وستكون النتيجة في النهاية هي مصادقة اللجنة على وثيقة باسم المغرب، لكنها تُعارض، في الوقت نفسه، مصالحه العُليا.
شكرتُ صديقي السوري بحرارة على ما أسداه لي من نصائح، وعُدتُ أدراجي إلى الفندق، لألتحق بأعضاء الوفد الذين كانوا قد بدؤوا يصلون إلى قاعة الاجتماع المقرر مع أعضاء الوفد الرسمي برئاسة السيد رضا اكديرة، لتقويم العمل الذي طُلب من كل عضو القيام به، وتقرير الخطوات التالية.
كنت أول من تناول الكلمة، فأخبرتُ الجميع بما دار بيني وبين صديقي السوري، واقترحتُ ألا يُقدم المغرب هذه الوثيقة التي تهم القضية الوطنية الأولى حتى لا نقع في الخطأ الذي تنتظره الجزائر، وكل من يدور في فلكها من الدول المعادية لمصالح المغرب.
ثارت ثائرة المستشار الملكي، وألقى باللائمة على السفير الممثل الدائم للمغرب حينها بنيويورك، وعلى أعضاء البعثة المغربية، لما اعتبره عدم الجدية في العمل، بما أن الإلمام بتقاليد العمل الدبلوماسي يكون من صميم اختصاصات الخارجية وموظفيها بكل مستوياتهم، وهو ما يفسر الارتباك الذي طبع علاقة البعثة الدائمة مع اللجنة الرابعة، حسب ما ترسخ من قناعة لدى المستشار، مما حذا به إلى استبعاد طرح الوثيقة المغربية في هذه الظروف كما طلبت.
حضرنا أطوار اجتماعات اللجنة الرابعة المقررة في تلك السنة، وتابعنا مداخلات الوفود التي احتفت بأطروحة الجزائر المناهضة للوحدة الترابية للمغرب، في غياب أي رد أو موقف صريح يدافع عن حق المغرب في حماية وحدة أراضيه.
في الاجتماع الأخير للوفد المغربي، انتبه المستشار الملكي رضا اكديرة إلى أن غالبية البلدان التي صوتت مع الجزائر هي بلدان من العالم الثالث، في حين بقيت الدول الكبرى والدول دائمة العضوية في مجلس الأمن على موقفها المتوازن، مما يُشجع المغرب على بذل جهود مضاعفة، في المستقبل، لإعادة الأمور إلى نصابها مع هذه الدول.
أبلغنا ونحن في طريق العودة إلى الدار البيضاء، بأن طائرتنا ستحط بمطار فاس – سايس، لنتجه بعدها رأسا إلى القصر الملكي بفاس، حيث كان الملك الراحل الحسن الثاني قد قرر الاجتماع بأعضاء الوفد في الساعة الحادية عشرة من يوم وصولنا.
في القاعة الكبرى للقصر الملكي، تجمع الحاضرون في انتظار قدوم الملك، الذي يبدو أنه كان قد اجتمع بمستشاره رضا اكديرة، قبل استقبالنا، ليعرف منه تفاصيل ما جرى في نيويورك.
أمرني الملك، رحمه الله، عندما رآني بمجرد دخوله إلى القاعة بأن أجلس أمامه، قبل أن يشرع في الحديث عما بلغه من مستشاره عن تطورات ملف وحدتنا الترابية في ضوء نتائج اجتماعات اللجنة الرابعة ذلك العام، وموقف القوى العظمى من أطروحة الجزائر، وكذا موقف أصدقاء المغرب، الذي لم يكن بالقوة والتأثير اللازمين.
كنتُ أصغي باهتمام لكلام المغفور له الحسن الثاني، وكانت تجول في خاطري هواجس بشأن ما علي فعله أو قوله في حضرة الملك، وما إذا كان عليَّ أن أتكلم أصلا، أو أستأذن جلالته في الحديث وأكتفي بترديد ما قلته في نيويورك، فقررت أن أقول ما سبق لي قوله بكيفية أخرى.
كُنت أول وآخر من تحدث في ذلك اللقاء بعد جلالة الملك. قلت لجلالته بوضوح: إن المغرب لم يكن مؤازرا في اجتماعات اللجنة الرابعة بأي أحد من أصدقائه. بل كان يتسابق الجميع لكسب ود الجزائر، وأردفت: ما آلمني يا جلالة الملك هو مواقف كل من تونس ومصر والسنغال.
وبالحديث عن السنغال، ذكرتُ للحسن الثاني، رحمه الله، أنني كنت قبل شهرين من ذلك الاجتماع في دكار للمشاركة في أشغال اجتماع الأممية الاشتراكية الإفريقية، التي أسسها الرئيس ليوبولد سيدار سينغور، ويرأسها، رئيس الدولة، في ذلك الوقت، السيد عبدو ضيوف. وفي قاعة الاستراحة، استفردتُ بوزير الخارجية السنغالي لأسأله عن الوضعية في البلاد بعد استلام «عبدو ضيوف» الحكم خلفا لسنغور، فقال لي بتلقائية إن الأمر لم يستتب لعبدو ضيوف إلا بعد أن أدى الصلاة مع جلالة الملك في فاس.
وأضفت قائلا لجلالته: إن هذا الوزير، الذي يدعي صداقته لجلالتكم، هو نفسه من أعطى تعليماته لسفيره في نيويورك للتصويت لصالح الأطروحة الجزائرية.
غضب الملك لما سمع، وأعرب عن اعتقاده بأن المسؤولين في الخارجية لم يأخذوا على عاتقهم الدفاع عن قضية الوحدة الترابية لبلادهم بروح وطنية ونضالية. وأكد انشغاله الكبير بهذه الوضعية المقلقة التي توجد عليها الدبلوماسية المغربية، التي تعتمد على موظفين لا يهتمون إلا بمصالحهم الشخصية بمجرد مغادرتهم لمكاتبهم، تاركين الحبل على الغارب!! كما قال.
وعن تعيينه من طرف الملك الراحل الحسن الثاني، قال مولاي المهدي: « اتصل بي إدريس البصري وزير الداخلية، آنئذ، وطلب مني الالتحاق بمراكش لاستلام أوراق اعتمادي سفيرا لبلادي في هيئة الأمم المتحدة، من يدي جلالة الملك، الذي استقبلني بحضور وزير الشؤون الخارجية والتعاون والحاجب الملكي وعدد من المسؤولين الآخرين. خاطبني جلالته بأن عليَّ أن أجتهد في خدمة بلدي، وفي الدفاع عن قضيته الأولى، وأن «الخط الهاتفي لجلالته مفتوح أمام اتصالاتي في أي وقت وحين».
وأنا أستعد للسفر إلى نيويورك، دُعيت مرة أخرى إلى مراكش لحضور الاحتفالات المخلدة لعيد العرش (3 مارس)، فاستقبلني جلالة الملك على انفراد، بعد اجتماعه بالسيد ميشيل جوبير، فزودني بنصائحه وتوجيهاته التي تهم عملي في نيويورك، وسألني عما إذا كنت على معرفة مُسبقة بالسيد جوبير، فأجبته بنعم. فقال لي: «أدعه إذن للغذاء معك».
وبالفعل، دعوت السيد جوبير للغذاء في مقر إقامتنا بأحد فنادق مراكش، وتحدثنا طويلا في عدد من القضايا التي تستأثر باهتمامي الشخصي، وفي طليعتها قضية الصحراء، وطلبت نصائحه في ما أنا مُقبل عليه من أمور تهم العمل السياسي والدبلوماسي، فأكد لي على أهمية الاجتهاد والمثابرة والمبادرة والتواصل النافع مع الإدارة. كما يتعين ربط علاقات مميزة بالإعلام أيضا، كلما كان ذلك مفيدا. وأضاف: «لقد وقع عليك اختيار جلالة الملك، وهو يعرف جيدا ما يفعل».
كنت أستمع بإمعان شديد لنصائح صديقي المُجَرِّب، وعملتُ لاحقا بها، فكنت أرسل تقارير إلى الديوان الملكي، وبعد ذلك بنصف ساعة أرسل نسخا منها لإدارتي بوزارة الشؤون الخارجية والتعاون. بيد أني لا أذكر أنني توصلت منها بأي جواب، لا بالإيجاب ولا بالسلب، إلى أن غادرت نيويورك.
تزامنت المرة الثالثة التي استقبلني فيها جلالة الملك مع تعيين الجنرال «والترز» مندوبا للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، وكان مسؤولا عن جهاز المخابرات. طلب مني الحسن الثاني، رحمه الله، كما في المرة السابقة، أن أدعوه للغذاء، لأستطلع معلوماته، وأستفيد من وجهات نظره في القضايا التي تهم بلادي، وفي طليعتها، بطبيعة الحال، قضية الصحراء.
اكتشفت أن للرجل إلماما واسعا بعدد من القضايا، ووقفت على مقدراته الكبيرة وكفاءته، وهو الذي كان يتقن الحديث بعدة لغات ولهجات أمريكية وأوروبية وإفريقية، فكان بمثابة كنز معلومات بالنسبة لي، فكنت أحرص، طيلة مقامي في أمريكا، على اللقاء به ودعوته، كلما كان ذلك مُتاحا، وكان بدوره  يستجيب لكل طلباتي.
وفي إحدى المرات، علمتُ أنه يقوم برحلة إلى عدد من الدول العربية والإفريقية بمناسبة العطلة السنوية، فطلبت لقاءه عند عودته لأعرف انطباعاته عن الوضع في منطقتنا، وتحديدا العلاقة بين الجزائر والمغرب، وموقع قضية الصحراء من ذلك، فكان ردُّه صريحا بأن للجزائر خطها ومسارها الواضح في ذلك، وهي لا تريد أن ينعم المغرب بالاستقرار في أرضه وصحرائه. وأضاف: «القرار في الجزائر ليس بيد الرئيس الشاذلي بن جديد بل هو بيد ضباط تيندوف».
كانت أيامي الأولى في نيويورك مليئة بالحركة، أفقيا مع الأمين العام للأمم المتحدة في ذلك الوقت، السيد بيريس دي كويلار، وعموديا مع ممثلي الدول الشقيقة والصديقة، لأضع خارطة طريق لحركتي في دهاليز المنظمة الأممية. كنت، للحقيقة، متهيبا من صعوبة ما ينتظرني من تحديات كبرى، نتيجة التراكمات والعمل الكبير الذي يقوم به أعداء وحدتنا الترابية لغلق المنافذ أمام كل محاولاتنا لتحصين مكتسباتنا، وكسب المزيد من الأصدقاء لقضيتنا العادلة.
بعد تحليلي للوضع داخل المنظمة، ترسخت لديَّ قناعة بأن قضية وحدتنا الترابية لن تكون موضع اهتمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أو اللجنة الرابعة، فبالأحرى مجلس الأمن بالطريقة التي نريدها كمسؤولين مغاربة، لاسيما إذا تأملنا الحصيلة المتواضعة لتدخلات هذه الهيئات في العديد من بؤر الصراع حول العالم، بما يزكي الانطباع السائد بأن طريقة عمل المنظمة لن تساعدها على حل أي مشكلة على المستوى الدولي. ولذلك، وأمام هذه الوضعية، وجدتُ نفسي أمام خيارين أولهما، وكان الأقرب إلى نفسي، التركيز على شخص الأمين العام واستطلاع موقفه، وإقناعه باتخاذ مبادرات إزاء قضية الوحدة الترابية لبلادي، وليس أقلها شأنا وضع ملف الصحراء أمام أنظار الأمم المتحدة، لاسيما بعد توتر علاقتنا مع منظمة الوحدة الإفريقية التي باتت طرفا في الصراع وليست حكما، بعد قبولها بعضوية الدولة الوهمية. أما الخيار الآخر، فيتمثل في اتباع المساطر وطرح المبادرات الأحادية وإقناع الدول بتبنيها، وهذا الخيار يحمل الكثير من المخاطر بسبب اختلال التوازن، حينئذ، داخل هيئات المنظمة الأممية لصالح غريمتنا الجزائر.
وللمضي قُدما في تنفيذ اختياري الأول، كان لابد لي من إجراء مسح شامل لمواقف الدول الأعضاء من قضية وحدتنا الترابية بمساعدة فريق من الدبلوماسيين المغاربة المقتدرين، الذين ساعدوني على الالتقاء بأكثر من 135 سفيرا وممثلا دوليا، خلال فترة أعتبرها قياسية بمعايير العمل داخل المنظمة، مما منحني الفرصة لأطلع هؤلاء على موقف بلادي، وعلى الخلفية التاريخية للملف، وحقيقة ارتباط الصحراء بالمغرب من خلال الوثائق والصور التي كنت أحملها إلى نظرائي.
في أحد الأيام، بينما كنتُ منهمكا في العمل بمكتبي بمقر البعثة، إذا بقصاصة لوكالة المغرب العربي للأنباء تقول بانتهاء المغرب من تشييد الجدار الرملي العازل لحماية حدوده من الاختراقات التي كانت تنفذها عصابات البوليساريو المسلحة، فتركتُ كل ما في يدي وطلبت من مساعدتي أن تصلني بمكتب الأمين العام لأطلب مُقابلته على وجه السرعة.
لم يتردد السيد دي كويلار في التجاوب مع طلبي، فاستقبلني في اليوم نفسه. أطلعته على مضمون القصاصة، وأعربتُ له عن شعوري بالخوف إزاء هذه الوضعية الجديدة، التي سيكون معها موقع القوات المغربية على بعد أقل من بضعة كيلومترات من موقع الطرف الآخر، مما سيرفع من احتمالات نشوب المواجهة الحربية، لاسيما في حال تهور أحد أفراد الجيش من الجانب الجزائري، فيكون الرد، وربما الاشتباك، لا قدر الله.
قلت للأمين العام إن نتائج المعركة المحتملة ستكون كارثية على البلدين، وعلى البلدان المجاورة، ذلك أنها يمكن أن تقع على بعد أقل من ساعة من الطيران عن أوروبا، مما يعني أنها ستكون أخطر من تلك المعركة المحتدمة بين الجيشين العراقي والإيراني على بعد آلاف الكيلومترات، ومع ذلك لم يسلم العالم من شرها، وسيستمر جزء كبير من البشرية في تجرع آثارها وانعكاساتها المدمرة.
طلبتُ من الأمين العام أن تتحرك المنظمة للحيلولة دون نشوب حرب بين المغرب والجزائر، واتخاذ كل المبادرات الممكنة لتفادي كل ما من شأنه أن يُعمق مأساة إخواننا الصحراويين المحتجزين في المخيمات على الأرض الجزائرية، وتمكينهم من العودة إلى أحضان عائلاتهم في المغرب على بُعد خطوات من الحدود.
بعد أسبوعين تقريبا، أخبرني دي كوبلار بأنه يعتزم طرح مبادرات تقوم على إجراء مفاوضات مباشرة بين المغرب والبوليساريو، باعتبارهما طرفا النزاع، على الرغم من قناعته الراسخة بأن للجزائر دورا مهما في التأثير على الانفصاليين، ثم أطلعني، فيما بعد، على مشروع رسالة موجهة، في هذا الشأن، إلى جلالة الملك الحسن الثاني، تحمل صيغة «مفاوضات مباشرة»، فطلبت منه أن ينقلها إلى صيغة «مفاوضات غير مباشرة» حتى يقبل بلدي بها، فكان لي منه ذلك.
نقلت مضمون الوثيقة لجلالة الملك، الذي أمرني بالالتحاق به في إقليم الرشيدية، الذي كان يزوره حينها، كما نقلت إليه طلب الأمين العام طلب بتعيين من يمثل المملكة، في حال قبولها بمبدأ إجراء المفاوضات مع الطرف الآخر.
قبِل الملك، رحمه الله، مبادرة الأمم المتحدة بحسن نية، وقرر أن ينتدب شخصا من ثُقاته ليُفاوض باسم المغرب في مرتبة وزير، ليقينه بأن هذا الممثل لن يغير حرفا مما سيقوله باسم الملك للأمين العام في حضوري بصفتي ممثلا للمملكة في الأمم المتحدة، وحتى تبقى المسافة بيني وبين الأمين العام محترمة، وهذا من شأنه أن يساعد في توطيد الموقف المغربي وتعزيزه كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
التحق بي ممثل جلالة الملك، بعد هذا اللقاء بشهرين، وكان هو السيد عباس القيسي الأمين العام للحكومة آنذاك، فعقدنا أول اجتماع مع الأمين العام لوضع الضوابط الإدارية والقانونية للمفاوضات المرتقبة، والتعرف على شخصية ممثل المملكة، الذي لم يتحدث كثيرا في ذلك الاجتماع، بل اكتفى بقراءة فقرة من ورقة وضعها أمامه، مفادها أن المغرب منفتح على كل المبادرات التي من شأنها أن تساعده على إنهاء النزاع المفتعل حول جزء من أراضيه، وأنه مستعد للتعاون مع الأمم المتحدة لإنجاح مساعيها في هذا الشأن.
اقترحت على السيد بيريز دي كويلار زيارة المغرب في مستهل رحلته الإفريقية التي كان يعتزم القيام بها في شهر يوليو 1985 للمشاركة في اجتماعات منظمة الوحدة الإفريقية بأديس أبابا، فأجابني بأن لديه التزامات في بعض بلدان أوروبا، ومنها سيكون ممكنا ترتيب لقاء مع الملك قبل متابعة الرحلة إلى إفريقيا.
وصلت إلى المغرب، بعد مغادرة الأمين العام في رحلته الأوروبية التي تبدأ من جنيف، فأطلعت السيد عبد اللطيف الفيلالي، رحمه الله، وزير الشؤون الخارجية والتعاون آنذاك، على برنامج الأمين العام للأمم المتحدة في المغرب الذي كنت قد توصلتُ به، وكان برنامجا ضاغطا يبدأ بوصوله في الحادية عشرة ليلا، ثم ينتهي بالمغادرة في منتصف النهار من اليوم الموالي.
في اليوم الموالي، أخبري الوزير الفيلالي أن الملك لم يقبل بهذا الترتيب، فما كان مني إلا أن طلبتُ من الوزير الإذن بمقابلة الأمين العام في جنيف، حيث كان يوجد في ذلك الوقت، لأخبره بموقف المغرب من البرنامج، على أن يساعدني سفير المملكة المغربية في سويسرا في ترتيب موعد لي مع السيد الأمين العام.
في المطار، أخبرني ممثل السفارة بأن الأمين العام غادر إلى إيطاليا، فحجزت تذكرتي على الطائرة المتوجهة إلى روما رأسا، وطلبت منه أن يخبر سفيرنا هُناك بأنني أحمل رسالة من جلالة الملك إلى السيد الأمين العام، وأن يسعى لترتيب لقاء لي معه، متى كان ذلك مُمكنا.
مرة أخرى، أخبري سفير المملكة المغربية في روما بأنه علم أن الأمين العام يوجد في لوبليانا بيوغوسلافيا، وأن عليَّ أن أنتظر عودته إلى إيطاليا بعد ترك توصية مستعجلة في الفندق الذي يقيم به في روما.
اتصل بي الأمين العام عند عودته في المساء إلى روما بالهاتف في بيت السفير، فأخبرته بموضوع رسالة جلالة الملك، فدعاني للقائه في صباح اليوم الموالي على مائدة الإفطار ليعرفني، بالمناسبة، على ابنته التي تعيش في البرتغال.
بدا الأمين العام في جناحه في الفندق منشرحا، وكان ما يزال في ملابس الاستراحة رفقة ابنته، فأطلعته على الغرض من زيارتي، وعلى الخصوص على حيثيات برنامج زيارته للمغرب، فوافقني على أنه برنامج غير مناسب، مما حذا به إلى أن طلب من رئيس ديوانه مراجعة برنامج الزيارة، وتمكينه من الوقت الكافي لزيارة المغرب، وبعدها يعود إلى أوروبا على متن الطائرة الخاصة التي وضعها رهن إشارته السيد فليكس هوفيت بوانيي، رئيس ساحل العاج.
سارت الأمور كما جرى الترتيب لها بحضوري، وبدل أن يمكث السيد الأمين العام في المغرب يوما واحدا، التقى جلالة الملك مرتين في قصر الصخيرات، ودعاه جلالته لعشاء في يوم وصوله إلى البلاد بعد مباحثات أجراها معه رأسا لرأس. تميزت مأدبة العشاء بتقديم أصناف من المقبلات الشعبية في البيرو، كانت بمثابة مفاجأة من جلالة الملك لضيفه الكبير، ثم بعدها نظمنا له زيارة إلى جامع القرويين في فاس، ومنها تابع وجهته.
أربك نجاح زيارة الأمين العام للأمم المتحدة للمغرب مخططات الدبلوماسية الجزائرية التي تابعت الرحلة عن كثب، ووضعت السيناريوهات المحتملة لسير المفاوضات غير المباشرة عند انطلاقها، في ضوء نتائج الزيارة، التي فتحت أمام المغرب مجالا للتواصل مع شركائه ليشرح مواقفه، مما قربه أكثر من مصادر القرار وجعله يكسب المسافات أمام أعداء وحدته الترابية».


بتاريخ : 11/07/2025