مُعجم إدغار موران الأساسي

انتبه موران مبكرا إلى أن المجتمعات تعيش داخل المُتخيل نفسه الذي تُنتجه: يُصبح واقعها، الركيزة التي تُقيم عليها حياتها الجماعية والدينية والقانونية

التعقيد (complexité)

وُلِدَ هذا المفهوم المركزي في أعمال إدغار موران، من تمرد على الفكر الفاصل والمُخْتَزِل، الذي، ومنذ ديكارت، يعمل على دراسة الظواهر من خلال تقطيع وفصل المعارف إلى أجِزاء متناثرة. الأمر الذي يمنع من النظر إليها نظرة شمولية والتنبؤ بمآلاتها. من المعلوم أن هذا المنهج الذي تُلخصه دعوة ديكارت الشهيرة («أن نصير مالكين وسادة للطبيعة»)، قد تسبب في أضرار بليغة على الطبيعة والانسان من بعدها. من هنا تتضح استفادة إدغار موران من مدارس مهمة من قبيل»البِنائية» (جاستون باشلار، جون بياجي..). يقول أحد البِنائيين، وهو بول فاليري: «إن المرء أعقد بكثير من أفكاره.»
‹المنهج› المُناسب، في نظر إدغار موران، يجب أن يأخذ بعين الاعتبار تعقيد الواقع والناس، وانفتاحهما على عناصر المفاجأة واللايقين: إن قرارا مُتَّخَذًا في البداية قد يُخلف ردود فعل غير متوقعة قد تُؤثر على القرار نفسه. لقد استوعب صاحب البراديغم المفقود، مقولة باشلار («البسيط هو المُبَسَّط دائما») جيدا، وسعى إلى بناء معالم فكر مُعقد يقوم مقام الفكر المُبَسَّط السائد في الغرب منذ أكثر من أربعة قرون. تجدر الإشارة إلى أن مفهوم «التعقيد»، لا يجب أن يؤخذ بمعناه القدحي، أي»التَّعَقُّد».
هذا الفكر المُعقد يقوم على ثلاثة مبادئ:
– المبدأ التحاوري: يسمح، في نظر موران، بالجمع بين فِكرتين متناقضتين، محكوم عليهما بالصراع ومحاولة إبعاد إحداهما الأخرى، لكن يصعب فصلهما، لضرورتهما معا لفهم نفس الواقع.
– المبدأ الهولوغرامي:يُوضح أن الجزء يُوجد ضمن الكل، والكل يُوجد داخل الجزء، كما هو حال الإرث الجيني العام الذي يُوجد داخل كل خلية فردية.وهو ما يُعبر عنه باسكال، أحد أهم مراجع موران، بالقول:»أجد من المُستحيل إدراك الكل دون فهم الأجزاء، ولا إدراك كل واحد من الأجزاء دون معرفة الكل.»
– مبدأ الارتداد التنظيمي: يتعلق الأمر بِحلقة مُوَلِّدَة، حيث النتائج نفسها مُسَبِّبة ومُنتجة لما يُسَبِّبُهَا ويُنْتِجُها.باسكال مرة أخرى: «بما أن كل الأشياء مُسَبِّبَة ومَسَبَّبَة، مُسَاعِدَة ومُسَاعَدة، غير مُباشرة ومُباشرة، وبأنها ترتبط فيما بينها كلها عبر صلة طبيعية وغير محسوسة تربط الأشياء الأكثر تباعدا والأكثر اختلافا.»

الثقافة الجماهيرية (La culture de masse)

عند صدور كتاب إدغار موران، روح الوقت، كانت «الثقافة الجماهيرية» تحظى باهتمام قليل من طرف المثقفين الفرنسيين. يُحسب للكتاب تبديده لمجموعة من الكليشيهات. من هذه الكليشيهات أن الطابع الصناعي والتجاري للمنتوجات الثقافية الجماهيرية يحكم عليها بفقدان الروح والتحول إلى مجرد أحكام مُسبقة. لكن موران، ومن خلال دراسة مجموعة من أعمال هوليوود، استخلص أن المنطق الصناعي لا يُفقد هذه المنتوجات أصالتها وما تحتويه من إبداع.
من الكليشيهات التي كانت سائدة أيضا هي أن الثقافة الجماهيرية تنحصر فقط في الثقافة الشعبية، وهو ما يرد عليه إدغار موران بالقول إنها تنهل من الفولكلور والثقافات الشعبية، كما تنهل من الأعمال الكونية الكبرى التي تُقْبِلُ عليها النُّخب الثقافية. ولا أدلَّ على ذلك من تحول أعمال أدبية كبيرة إلى أفلام ومسلسلات مشهورة.
من الانتقادات الموجهة للثقافة الجماهرية، نجد ما تروجه مدرسة فرانكفورت حول أن الثقافة العالمة وحدها التي تُحَرِّر، في حين أن الثقافة الجماهيرية تشكل أداة في يد النظام الرأسمالي من أجل السيطرة عل المجتمع وتنميطه. أما رولان بارت فلا يرى فيها سوى أساطير صنعتها «الأيديولوجيا البرجوازية» من أجل قطع كل صلة للضمير المجتمعي بالواقع العيني.
يتفق موران مع جزء من ملاحظة بارت، لكنه لا يتفق مع الجزء الآخر: إذا كانت الثقافة الشعبية تتمتع فعلا بقوة مُدهشة على صنع الأساطير (علاقات حب سامية، نُجوم، سعادة بلا حدود…)، فإن هذه الأساطير ليست مُضَلِّلَة، بل تُعبر عن الواقع الاجتماعي وتحولاته.

السياسة الحضارية (politique de civilisation)

يتعلق الأمر بأطروحة مركزية في مُنْجَزِ إدغار موران. على خُطى جان جاك روسو، يعتقد موران أن الحضارة الغربية التي أنتجت الكثير من المُعضلات (تراجع التضامن، عزلة الأفراد، فقدان معنى الحياة، التفاوت الطبقي والاجتماعي، الخ.)، يجب أن تقترح الحلول أيضا من أجل تجاوز هذه المُعضلات.
وهكذا فقد كَتَبَ موران في كتابه السياسة الحضارية:»إن تَقَدُّمَاتِ حضارتنا تقود إلى تخلف فكري جديد، وإلى تخلف عاطفي جديد – لم تَعُدِ الكائنات البشرية بقادرة على إيجاد الجواب على حاجتها للتواصل الإنساني، للحب، للحياة الجماعية -، مثلما تقود إلى تخلف أخلاقي في تدهور المسؤولية والتضامن.»
يُعتبر هذا المفهوم عند موران تعميقا لأفكار إيفان أليتش الذي ظل يُحذر، خلال سنوات السبعينات، من بلوغ مجتمعاتنا لحظة حرجة أصبحت معها إنتاجيتها ذات نتائج عكسية: السرعة تُفقدنا الشعور بالزمن، الصناعة تُلوث، كثرة المدارس تُصيب بالغباء، الخ.
من الحلول والإجراءات التي يقترحها موران من أجل النهوض بهذه السياسية الحضارية، نجد:
تشجيع العيش الرغد عوض الوجود الرغد.
الحد من هيمنة الربح من خلال تشجيع اقتصاد جماعي.
الاعتراف بأن الحياة الحقيقية تكمن في التعبير عن الإمكانيات الخلاَّقة، في الصداقة وفي الحب.

العاقل المجنون (Sapiens demens)

العاقل المجنون مفهوم صَاغَهُ إدغار موران في كتابه البراديغم المفقود. وهو كتاب في الأنثروبولوجيا، يتعقب فيه موران مراحل ظهور الإنسان بالشكل الذي نعرفه عليه اليوم. في البدء كانت الفوضى المُدَمِّرَة (التي تشهد عليها التصرفات الطِّفْلِيَة)، والأحلام، والهذيان، والمس. وبالتالي فَقُدُرَات الإنسان الحالية، من نظام وعقلانية تقنية ومجتمعات مُستقرة، أي كل ما يُميز الإنسان العاقل، قد تأسست على خلفية من الضوضاء الصاخبة واللانظام، على جنون حقيقي أَوَّلِي. في الواقع، نحن إنسان عاقل مجنون، وليس فقط إنسان عاقل (Homo sapiens).
إن ادغار موران بعمله هذا، ينهض ضد بعض التيارات الإنسانوية التي تُحاول اختزال الإنسان في بعد واحد: العقلانية. وبذلك تكون أمور من قبيل اللاعقلانية والجنون والخُبل والهذيان مجرد حوادث سير في طريق الانسان العاقل. على العكس من ذلك يعتقد موران بتجاور هذين البعدين في الكائن الإنساني، فهما متناقضين ومتكاملين في نفس الوقت: وهكذا فيمكن للعقل نفسه أن يُصبح مجنونا وهاذيا كما هو الحال في بعض الأيدولوجيات، كما يُمكن للجنون والهذيان أن يُدخلا قوتهما الفوضوية على الذكاء العقلاني ويُنتجا الأعمال الفنية والأدبية الكبرى، بما في ذلك الأديان.

المُتخيل (Imaginaire)

الحلم، التطلع إلى حيوات أخرى وإلى عوالم أخرى، كلها أمور تُمثل بالنسبة لإدغار موران مُعطى أُنثروبولوجيا لا يُمكن اختزاله. لذلك ظل موران، عكس التيار السائد، متشبثا بمقاربة ديالكتيكية وتحاورية للمُتخيل والواقعي. رغم أن التمايز يبقى حاضرا بين هذا الثنائي، لا يُمكن للإنسان أن يعيش بواحد منهما فقط دون الآخر.
وهكذا، فمن المُمكن أن يتم نفي الواقع باسم اللاواقع، لكن طابعه الواقعي يظل سارية المفعول. كما أنه من الممكن أن يتم إقرار اللاواقع المُتخيل دون سلب الواقع حقوقه. هذا ما يبدو جليا في كتاب الإنسان والموت حيث يُلاحظ موران أن الموت يُقْبل دائما في كل الثقافات كحدث واقعي فظيع وصادم، ومع ذلك يتم نفيه داخل تصورات لاواقعية من قبيل الاعتقاد بعودة الأرواح.
انتبه موران مبكرا إلى أن المجتمعات تعيش داخل المُتخيل نفسه الذي تُنتجه: يُصبح واقعها، الركيزة التي تُقيم عليها حياتها الجماعية والدينية والقانونية. من هنا نفهم مُعارضة موارن للمقاربة الماركسية للأساطير والتمثلات الاجتماعية باعتبارها مجرد بنية فوقية ثانوية تقوم فوق بنية تحتية هي الأهم (الواقع: وسائل وعلاقات الإنتاج).

 

إدغار موران
في تواريخ بارزة

1921 :الولادة في الثامن من يوليوز بباريس
1941 : الدخول إلى المقاومة والانخراط في الحزب الشيوعي الفرنسي
1969 : الإقامة في لاهويا (كاليفورنيا) في معهد سالك للأبحاث البيولوجية
1970: مدير أبحاث داخل المركز الوطني للبحوث العلمية
1970 –2006: نشر كتاب المنهج بأجزائه الستة
2024: في عامه الثالث بعد المئة، يُواصل إدغار موران الكتابة والمشاركة في البرامج والندوات الثقافية والفكرية.

أهم كُتب
إدغار موران

الطريق. من أجل مستقبل الإنسانية(Fayard,2011) : في مواجهة اللايقين، يرسم إدغار موران معالم طريق مُنقذ للبشرية من أزماتها.
فلاسفتي (Editions Germina, 2011): في هذا الكتاب يُسلط موران الضوء على أهم الوجوه التي أنارت وغذت حياته وفِكْره.
البراديغم المفقود (Seuil, 1973) : في هذا النص، حيث يقترح موران تجاوزا للتقابل طبيعة/ثقافة من أجل فهم سوي للإنسان، تظهر لأول مرة أهم مفاهيم الفكر المُعقد.
المنهج (2006-1977 Seuil,)صرح فكري عملاق، يقترح فيه موران منهجا من أجل ربط المعارف داخل كُلٍّ جامع. يتكون من أجزاء ستة هي:طبيعة الطبيعة (1977)، حياة الحياة (1980)، معرفة المعرفة (1986)، الأفكار: مقامها، حياتها، عاداتها، تنظيمها (1991)، إنسانية الإنسانية. الهوية الإنسانية (2001)، علم الأخلاق (2006).
العام صفر لألمانيا (La cité universitaire, 1946) : بعد سنوات من المقاومة، شَدَّ موران الرحال نحو ألمانيا التي دمرتها الحرب. من هذه الرحلة خرج بكتاب يُبين فيه الأوضاع الحياتية الصعبة للشعب الألماني، مُستشرفا مُستقبله ومُستقبل أوروبا.
نقد ذاتي (Seuil, 1958): بعد طرده من الحزب الشيوعي سنة 1951 ، أَلَّف موران هذا الكتاب من أجل فضح أساليب التعامي الذاتي، والتشديد على ضرورة النقد والمراجعة الذاتيين.
العالم الحديث والمسألة اليهودية (Seuil, 2006) : يتوقف موران في هذا الكتاب عند الأهمية التي يكتسيها المارانوس أو ما يدعوهم باليهود-الأغيار في تاريخ الأفكار العالمي :مونتاني، اسبينوزا، ماركس، فرويد…
سياسة حضارية (Area, 1997) : كَتَبَهُ موران بشراكة مع المفكر سامي نعير، وفيه يتم التأكيد على ضرورة مُبَاشَرَةِ سياسة كوكبية في مواجهة حضارة في أزمة.
الإنسان والموت (Seuil, 1951): هو أول كتاب في الأنثروبولوجيا لإدغار موران، يتناول فيه بالدرس مختلف سُلوكيات الإنسان تجاه الموت منذ عصور ما قبل التاريخ حتى اليوم، مازجا بين الفلسفة وعلم الاجتماع والبيولوجيا والاثنولوجيا.
روح الوقت (Grasset, 1962) : كتاب مرجعي يدرس فيه موران مُختلف أوجه الثقافة الجماهيرية من منظور سوسيولوجي.

 

فلاسفة أثروا في مساره

أكثر من أي مُفكر آخر، أثث إدغار موران مكتبته بعدد هائل ومتنوع من الفلاسفة «مثل نحلة تُنتج العسل من كل الزهور.»1 ذلك أن موران هو مُنْتِجُ فِكر، الفِكر المُعقد. أقربهم إليه؟ أولئك الأقدر على التعبير عن تعقيدات وتناقضات الحياة والناس، بما في ذلك تعقيداته وتناقضاته هو نفسه: «وهكذا فقد كُنت مدفوعا إلى صياغة فكر قادر على الاعتراف بتناقضاتٍ ومجابهتها دون توقف، هناك حيث لا يرى الفكر «العادي» سوى بدائل، واكتشاف حقائقي عند مُفكرين يتغذون على التناقضات:هرقليطس وباسكال وهيجل وماركس».

هرقليطس
يعتبره موران، بجانب باسكال، الفيلسوف الأبلغ أثرا في مساره الفكري والحياتي. فيه وجد «التناقضات الأساسية التي يتعذر تخطيها»، والتي تغذى منها وأغنى بها مشروعه المُتمركز حول مفهوم التعقيد. مقولات هرقليطسية من قبيل «الخير والشر كلاهما واحد»، و»الطريق العلوي والطريق السفلي كلاهما واحد»، و»مُستيقظون، ينامون»، تحولت إلى ما يُشبه اللازمة في كُتبه ومقالاته وحواراته.
إن ما أبهر موران في هرقليطس، هو قدرته على الجمع بين فكرتين متضادتين، كان من المُفترض أن تُبعد إحداهما الأخرى. يتعلق الأمر بالمبدأ التحاوري، الركيزة الأساسية لفكر موران المُعقد.
لا يتذكر موران في أي وقت من شبابه اكتشف هرقليطس، قبل هيجل أم بعده؟ ومع ذلك فإنه يعترف قائلا: «يجب أن أقول إن تَحَاوُرِيَّتِي تظل أقرب إلى هرقليطس، وتختلف عن جدلية هيجل وماركس، التي ترى دائما إمكانية لتجاوز التناقضات.»

باسكال
صحيح أن موران قرأ باسكال مُبكرا، لكنه لم يكتشف إلا في وقت متأخر ما جعله أَمْيَلَ إلى باسكال من غيره: «لقد قرأت باسكال في وقت مبكر جدا، واليوم أفهم ما جعلني ويجعلني باسكاليا إلى الأبد: إنها الصلة والصراع المدهش والمتكامل بين الإيمان والعقل والشك؛ الصراع والتكامل اللذان كانا دائما خاصتي.».
إن عظمة باسكال تكمن، في نظر موران، في جعله من هذه الأضداد مصدرا خصبا، ذلك أن عند خصمنا قد يُوجد»جزء من الحقيقة أصبح مجنونا.» في كتابه العام صفر لألمانيا يتبنى إدغار موران هذه القناعة، ويُدافع، بعد انتهاء الحرب، عن الشعب الألماني ضد شيطنة مُعممة.
يرى سيد المنهج في إحساس باسكال الحاد بالتناقضات والمفارقات الإنسانية، بصمةأنثروبولوجيٍ عميق، شديد الوعي بتعقيدات الشرط البشري. تشهد على ذلك مقولات خاطفة من قبيل:»التفلسف الحقيقي يسخر من الفلسفة»، «إن البشر مجانين بالضرورة بحيثلا يفلتون من الجنون إلا بحركة مجنونة أخرى.» إدغار موران لم يقل غير هذا الأمر حين اعتبر الإنسان، في كتابه البراديغم المفقود، كائنا عاقلا ومجنونا في نفس الوقت (sapiens-demens).

هيجل
قرأ إدغار موران هيجل سنة 1942، في عز الحرب، قادما إليه من ماركس:»كان الأمر مُبهرا بالنسبة لي: اكتشفت فكرا يُجابه التناقضات ويقترح تجاوزها. اكتشفت أن التناقض يُشكل أساس الكائن والحياة والفكر»، ذلك أن موران نفسه كان يعيش مُمَزَّقًا داخل مجموعة من التناقضات: الإيمان، الشك، الأمل، اليأس. وإذا كان للبراكسيس الثوري (الماركسي) أهميته من أجل مغادرة سماء الأفكار ومجابهة واقع الحياة والموت الذي تفرضه الحرب، فإن هذه المخاطرة لم تكن ممكنة، في نظر موران، إلا باستدعاء هيجل وقوله في فينومينولوجي االروح:»فقط من خلال المُخاطرة بحياتنا نُحافظ على حُريتنا.»
على المستوى المعرفي، لا يخفي إدغار موران تلبية الديالكتيك الهيجلي آنذاك لتطلعاته المُراهقة إلى «جمع ووصل مختلف حقول العلم والمعرفة، وكذا ربط ما هو مُنفصل.» إننا هنا بالضبط في عمق ما نذر موران حياته لأجله:التعقيد. ذلك أن هيجل، في رأي موران، هو «مُفكر التعقيد» الذي ألهمه إلى اكتشاف محدودية العقل الإدراكي، وتجاوزه إلى عقل ديالكتيكي أرحب، قادر على الاغتناء بالتناقضات عوض التخلص منها: هنا فقط أمكن لموران الشاب أن يهنأ بِتَوَزُّعِهِ الفلسفي بين الأنوار والنزعة الرومانسية.

ماركس
إن ما جذب إدغار موران إلى ماركس هو تَمَثُّله لِـ»الماركسية كعِلمٍ إنساني أساسي وكشكل من المعرفة يسمح بخلق مُجتمع أفضل»، غير أن مركز ثقل ماركسية موران لم يكن هو الاقتصاد، بالرغم من دراسته للعلوم الاقتصادية وإيمانه بالدور التاريخي لِقِوى الإنتاجوصراع الطبقات، وإنما الأنثروبولوجيا:»قراءةمخطوطات44، وخاصة المخطوط الاقتصادي-الفلسفي الذي كان له تأثير عميق عليَّ، حَوَّل بسرعة مركز اهتمامي نحوالأنثروبولوجيا». فَبِوحي من هذا النص تَوَلَّد في عقل موران فِكْرُ أُنثروبولوجي قائم على وحدة الثُنائية الإنسانية، أي على «الاقتران التضادي والتكاملي للطبيعة والثقافة في كل واقع إنساني.»
إنه التطلع نفسه والطموح ذاته إلى فكر جامع ومُعقد حتى قبل أن يتضح المفهوم في تفكيره ويكتب فيه مؤلفاته المُهمة. يتحدث إدغار موران عن سر انخراطه في الماركسية قائلا:»كانت ماركسيتي في الحال مُنفتحة ودامِجة. فهي لم تصرفني عن مدارس فكرية أخرى. لقد كانت تُطابق رغبتي حينها بمعانقة كل شيء، وتطلعي إلى كُلِّية للمعرفة.» وذلك عكس الماركسية الرسمية التي كانت «حَصْرِيَّة ومُسْتَبْعِدة». هذا ما يفسر إبقاء موران على أجزاء من ماركس حتى بعد مراجعاته الكبيرة، خاصة تلك التي تطرق لها في كتاب نقد ذاتي.
ثم جاءت فكرة البراكسيس («الفلاسفة لم يقوموا سوى بتفسير العالم بطرق مُختلفة، في حين يتعين الآن تغييره») لتُعزز انخراط موران الشاب في المُقاومة والستالينية، وتضع حدا لوعيه الشقي:»يُبين ماركس الشاب أنه لا يُمكن حل المشاكل والتمزقات الفلسفية إلا في البراكسيس، الذي يجلب تجاوز الفلسفة.» هذا قبل أن يعي أن مفهوم البراكسيس، شأنه شأن المفاهيم الهجيلية، مفهوم مُضلل، يُتَرْجَمُ واقعيا بكلبية أخلاقية وضمور ذكائي.

1. هذا الاقتباس وغيره مما جاء في هذا الموضوع هو من كتاب إدغار موران،» فلاسفتي.


الكاتب : إعداد وترجمة: يوسف اسحيردة

  

بتاريخ : 06/09/2024