مُومَأَةُ أوَّلِ أيامِ الحشر.. !

ربما أنْشَبتْ شمس الضلالة رُموشَها في طين الخَلْق والحَمَإ ومُشْطَها في القِباب الخُضْر التي مَزَّعَتْ ظلّها. ربما في نشيد الريح.. وريش الشجر المتسامق تكوَّر نهدُها وضيءَ السطوع كلبنِ التين المُفَدَّى، وفضةِ الخلخال الملتهب في كَعْب أَخيلَ أو بَخْتَةَ، له وَسواسٌ زَجِلٌ فاتكُ الأنين، وناقوسٌ مُتبتلٌ يذرف جمراً.. ينثر تَمْراً على المدثرين بتراب القبور: أصدقائي النبلاء من الشحاذين وخنافسِ بنطلونات «أقدام الفيلة»، الذين لِطول ما هَطَلوا جَفُّوا.. وبانتْ نُيوبُهُم نَخِرَةً من التبغ الغزير والسّْكورْبيتْ. رُبَّما تَعِبَ الموتى من شمسٍ سقيمة لم تعد تنفع بلادهم وضحكتهم المحبوسة قبل عديد السنين المتفرقات على أعمالٍ انْقَصفَتْ في المَناحَة والعويل !.
كم بَكَوْا بلاداً مُتَهدلة الأَطْباءِ..مبعوجة الجبين ومعصوبة يتناوب عليها سدوميون ومُتَحلِّبو ريقٍ، أباريقهم منفرطة وعودهم يابس.. مبعثرون في الهجير والظلال.. يبكون ذبائحهم التي رَكَلَها البَعْلُ، ومسح بها تُبّانَ حائضٍ دائمة النزيف كما لو أن وَعْلاً فَضَّ سَدَّادَتَها بقرنه المقدس.
فاحتْ جيوبهم بالقطران وماء الموتى المُتَبقَّى في المواعين بعد الغسل.. أقصد جيوب أنوفهم المحمرة كإسْتِ قرود البابوانْ كأنما تلهبت بالأرجوان على نار بركان كنعان أو فيزوف !.
هَلُمّوا يا شُعْتَ الرؤوس. كمقابض المناجل الخاسرة تبدون، وتبدو سَوْءاتُكُم في مرآة الكهف الوسيعة الغامقة ليست هي بل مضاعفها الصقيل. قبِّلوا جبينَ أفلاطونَ.
هلمّوا نَتَقَفَّ سويّاً، مرصوفين مثل حجارة الأهرام، أو عبيدِ البواخر المُصَفَّدين إلى العالم الحر، رَسْماً يتمنعُ في السراب منذ الخليقة الأولى والصلصال الظالم، نشيد نحاس فادح الحمرة في الريح التي تهب من الجهات الست، ورعدا، في الغابات الغامضة.
فُوحُوا.. انتشروا كالكذب الصُّراح دونكم الشقوقُ.. دونكم أخاديدُ تقود إلى اللُّمَع الهُمَع.. دونكم طبولٌ ورقصٌ وزِنى !لا تبكوا. البلاد التي وَسِعَتْكُم صفْعاً، وسعتموها وَطْءاً ومُواقَعَةً. البلاد التي علقت زعانفَ أحلامها على دُرَرٍ وصُرَرٍ من الجلد الممتاز من أجلكم أنتم – ومن لها غيركم يا نواطيرَ الهزائم وعَسَسَ المواخير الفاشية- علقتموها أجراسا وقلادات لكلاب متهارشة، وديَكَةٍ تَتَسافدُ منذ الطوفان !.
البلاد التي من مهبلها الضاج بالصلوات، خرجتم عرايا، أقفاؤكم ناصعة، وأدباركم واجفة من اغتصاب يتلامَعُ، لم تعطكم قُطْناً.. علمتكم كيف تَنْدِفونَهُ، عاندتم.. فَفَزَّرْتُمْ رَحِمَها.
لا تبكوا إذن، بابُ السماءِ أخرسُ، والقنافذُ تَسُدُّ المنافذَ.
إنّي أرسمُ بالزُّناة بلاداً بَتولاً.
إني أعبر بالرُّماة جبلا عُريانَ مرصعا بالغربانِ..
وفي الفذافذ أضرب ركزا.. ركزا.. وأردح ردحا عَلَّ الذكرى تنبجس وارفةً بالنساء زينةِ الدنيا.. ومعطوبي الحروب حطب الضغينة والغلايين.
إني أحملكم في القلب وأمشي مُطْفَأ العينين.
أتعكز على الحكمة الشائهة والوقار الكاذب.. أجمعكم في يوم الغبن والتغابن وأمسح الشوك من على رؤوسكم أرفع لكم إسفنجا وخَلاًّ مُرّاً وَحِصْرِماً وحشراتٍ لامعةً. أبوسكم أبوس أكثركم سحرا وثرثرة حتى ينخرسَ، ثم أقودكم إلى المراعي وفي يدي النجومُ.. وفمي التعازيمُ.
صَلُّوا شكراً للأبالسة ذوي الذيول الطويلة ! صَلّوا للمجاذيب مِلْحِا للاَّمَعْنى في الكينونة. صَلُّوا للمُمَزَّعين على الطرقات والأرصفة كخِرقِ الحيض أو رايات العار.
صَلُّوا لبلاءٍ مُعَمَّمٍ يغني فوق رؤوسنا من دهر وسبع حجات وتميمة زائدة. صلوا للرمل الحارق في جفوننا، للكاكْتِسِ الواقف على رِجْلٍ واحدة في الفيافي مُسَبِّحاً بسنابك الغزاة، وعطر الذهب الأسود.
صلُّوا نِياماً وزَحْفاً.. لِدُوا زعفرانَ الأفقِ.. خَضِّبوهُ بطهركم أيها الفُسَّاقُ.. زَغْلِلوهُ بحِنَّاء الحَنّون، واهتفوا وأنتم تقفزون كمهرجي السيرك: لك أسبلنا العيونَ.. لك شَخَصْنا بالنفوس والأولاد والمصائر. لك نحن ـ طيّعينَ لَيّنين كالخاتم طائفين خانعين ـ أَدِرْنا، نُلاِبِسُك، نَلْبِسُك كالغيم. شُكَّنا بالرموشِ الوَطْفاء، وسيوف الهند والسَّمْهري. لاَ أُشْرِكُ بي شيئا.. لاَ أُشْرِكُ معي مدائنَ وأهِلَّةً، ولا أقماراً أُكوِّرُها لكِ أقراطا ليستظل بها عنقك الأملودُ يا بلادي..عنقك المائلُ يمينا كل قرن بالملمتر كمنارة بيزا. مأهولٌ بألواحي الطينية حيث انكتب الوجود، وانْسَطَرَ الوَرَقُ.. وَحَنَّ الوُرْقُ، وتمددت بساطر الخطوط والغدوات.
مخفور بأجدادي الأوغاريتيين العظامِ.. أمواهُ نُصوصِهم فُصوصٌ موقَدَةٌ وبِذارٌ في رَحِمِ الكون، ودمٌ مُغَرِّدٌ كالأنْساغ في شجرات العرش.
أقول: اللَّهم مُدَّ لهم في النداء، فيصطفقُ جناحان لامرئيان، ويلهج اللسان بالترديد: قدَحُهُم مُعَلّى، ودمهم مُدَلّى في السنابل والذرَّات:
شجرٌ على يدي غِراسُهُم
وفيضٌ من نطفة البدء والتكوين.
كرومُهم والدوالي
أفْقٌ مشتعلٌ بالنبيذ والشعير.
رائحة الماعز في المطر والرذاذ،
معارجُ إلى التَّقْدِماتِ
والنساءُ مدهوناتٌ بالزيتون والفيْجَنِ
ومخضوباتٌ بالأرجوانِ
يفتكنَ بذائدي الذُّبابِ عن الحياض
ويَنْشَبِكْنَ بالمحاربين النِّحافِ
على سُرُرِ العشب النديِّ،
والخرائط اللاذعة
مشتعلات بالشهوة،
فترتخي اليعاسيبُ في مرايا النهايات
وشظايا العظايا !.
…………………..
سادتي الخصيان .. يا سادتي الخصيانْ،
طوبى للزُّؤانْ.
ما تَحْفِنونَ نُخالةً وتخالون رُغْفانْ.
لكن، في منتصف الوقت يتأبدُ الغِرْبانْ.
أخبرني شيخي.. شيخُ العميانْ
وكان على باب قرطبةَ
وحيدا عُرْيانْ
يأكل الصّبارَ
وَيَفْقأُ الصِّئْبانْ،
أَخْبَرَني أنَّ العيشَ فَتْنانْ.
ثم اختفى في الجَفْرِ مَوْتوراً غَرْثانْ.
سادتي:
أُكَلِّمُكُمْ فأتدحرجْ
أكلمكم فأتلجلجْ
يُصيبني العيُّ وأرْتَجّْ،
أبحثُ عن معنى أبلجْ ! عن فَيْءٍ تحت شجر النارنجْ.. عن فجٍّ سحيقٍ بين جبلين مُبْتَردَيْنِ بأطياف ثلجْ.. مسعورين بالوهجِ في بطن الكوسجْ.
إليَّ تُعْزَى تخاريمُ الوقتِ.. تصاويرُ الأفلاكِ الشمطاءِ.. غبارُ عرباتٍ مُحَمَّلَةٍ بأطنان الخيشِ والوَخْمِ.
وإليَّ يُعْزَى اللهاثُ وقافلة القَوَّادين عندما يؤْسَرُ الضجيجُ في آخِرةِ الليلِ.
لا شَريكَ لي في مَسَرَّاتِ الخُدْروفِ
لا شريكَ لي في تَبْكيتِ النفسِ مُذْ قُذِفْتُ.
لا شريكَ لي في العُواءِ العالي الذي تَنْفَطِرُ له الغيومُ..
في العُرْيِ القاسي ..
في اللذاذةِ القاصمة القاسيةِ،
في تلوين البؤس، وقلبِ الجواربِ
وتقشيرِ رَبَّاتِ الحِجالِ !.
لا شريكَ لي .. لا شريكَ.
ولي أنْ أُحاذِرَ السَّمَنْدلَ حتى لا يذْبَحَني على حجر من نار. لي ارْتِحالُ العين بين كأسين مُسْكِرَتَيْنِ مُكْسَرَتَيْنِ.. وكؤوسٍ طائرةٍ دمعها مُوارٌ،
وَدَمُكُم مُعَلَّبٌ في المقبرة البحرية، مقبرةِ رِهاناتي على البوغازِ يغفو، ومقبرة بولْ فاليري المُتَلأْلِئةِ.
لُوذُوا بي يا صِحابي الأحادبَ مُضْحِكي سلطانَ الخساراتِ المُشَرَّدَ بين موائد السكارى وأبواب المساجد الصدئة في صباحات الأعياد.
تعالوا إلى كلمةِ سَواءْ:
وَهَيّا إلى الموت جميعا حتى تَنْتَبِهُوا !!


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 29/12/2023