ناقشتها أطروحة للدكتوراه بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة: الكتابة عن الذات وإعادة بناء الذاكرة في سياق الإنصاف والمصالحة بالمغرب

ناقش مركز الدراسات في الدكتوراه بجامعة شعيب الدكالي بالجديدة ،اللسانيات وبلاغة الخطاب مؤخرا، أطروحة الطالب ابراهيم العدراوي والتي قاربت، حجاجيا، موضوع “الكتابة عن الذات وإعادة بناء الذاكرة في سياق الإنصاف والمصالحة بالمغرب”.
الباحث ابراهيم العدراوي انطلق في مقاربته من كون أن التّاريخ الرّاهن يشهد اهتماما متزايدا بالذّاكرة، بوصفها مطلبا اجتماعيا وإنسانيا، يؤسس لمستقبل يسمح للأفراد والمجتمعات بإمكانيات العيش المشترك. وقد صاحب هذا الاهتمامَ بالذاكرة، في نهاية القرن العشرين، تعدّدُ إشكالات استحضار الماضي، والبحث عن الحقيقة، ومدى إمكانية تحقيق الإنصاف والمصالحة، والتأسيس المدني لذاكرة عادلة. وتبرز أهمية دراسة الذاكرة في أنها تَطول اليوم مسائل تتعلَّق بالهويات والسلطة والقومية والتاريخ، وهذا ما يجسّده الانتشار الكبير للمذكرات الشخصية، واليوميات، والسيرة الذاتية، والحوارات الصحفية وغيرها، فضلا عما قدّمه الأكاديميون والعلماء والشخصيات العامة من ذكريات وأسرار واعترافات وشهادات في وسائل الإعلام، رغبة في كشف الحقائق، وتجلية الأحداث المثيرة للجدل، لاسيما عن تاريخ، مازالت تداعياته مؤثرة.
وفي هذا السياق، شهد المغرب تحولات سياسية مهمّة في تاريخه الرّاهن، كان من أهمها إنشاء “هيئة الإنصاف والمصالحة”، بوصفها آلية من آليات العدالة الانتقالية، وقد واكب هذا الحدث جدل سياسي وحقوقي، لأسباب متعددة، من أهمها “أنّ المرحلة التاريخية التي انكبت عليها الهيئة كاختصاص زمني، تمتد من 1956 إلى 1999. وتعدّ من أطول المراحل في تاريخ عمل لجان الحقيقة والمصالحة…” ، وبموازاة هذا الجدل ظهرت مجموعة من الكتابات التي تسرد تجاربها الفردية في علاقة بهذا التاريخ الراهن. وإذا كانت مجموعة من الدّراسات الأكاديمية، لاسيما في المجالين القانوني والتّاريخي، قد ناقشت إشكالات هذه المرحلة، فإن دراسة هذه الكتابات في المجال الأدبي ظلّت بعيدة عن هذا النقاش. ويرجع هذا إلى سببين رئيسين: أوّلهما، أنّ هذه الكتابات اتخذت أشكالا خطابية غير تقليدية، تتجاوز الأشكال “المعترف بأدبيتها”. وثانيهما، حاجة الدّراسات الأدبية إلى الانفتاح على الدراسات المتعددة التي تتقاسم معها الموضوع نفسه، وهذا ما يقتضي الاستفادة ممّا راكمته البحوث الفلسفية والتاريخية والدراسات النقدية للخطاب في مجالات الكتابة عن الذات والذّاكرة.
الأطروحة أشارت الى أن الكتابات عن الذات في سياق الإنصاف المصالحة بالمغرب، اتخذت طابعا مرجعيا واضحا، واتجهت إلى الشهادة على وقائع وأحداث ماضية، انطلاقا من الذاكرة الفردية، ولا يخفى البعد الترافعي فيها، فهي تسعى إلى نقل تجربة عاشتها الذات في سياق سياسي واجتماعي مضطرب، وتهدف إلى الإقناع بعدم تكرار ما حدث مرة أخرى.
تتحدد إشكالية هذا البحث في: البعد الحجاجي في الكتابة عن الذات وإعادة بناء الذاكرة في سياق “الإنصاف والمصالحة” بالمغرب. وتتأسس هذه الإشكالية على مفهومين رئيسين هما: الكتابة عن الذات، وإعادة بناء الذاكرة. ولدراسة هذه الإشكالية، ننطلق من سؤال مركزي: -هل يمكن أن تكون الكتابة عن الذات، في سياق الإنصاف والمصالحة في المغرب، خطابا حجاجيا يروم الإقناع والتأثير؟ وقد توقف الباحث عند أبرز المقومات الحجاجية التي انطلق منها المؤلفون للإسهام في بناء ذاكرة جماعية، وعند الأساليب الحجاجية والبلاغية التي توسلوا بها من أجل إقناع القارئ بفحوى “الحقيقة” التي ينقلونها في خطاباتهم، انطلاقا من مجموعة من الأسئلة، أهمها:
-هل يمكن أن تكون هذه الكتابات، بتنوع أشكالها، أدبا للشّهادة؟
-كيف تستحضر الكتابةُ عن الذات، بأشكالها الخطابية المتعددة، الماضيَ، انطلاقا من السّياق؟ وما مدى قوة استحضار الوقائع في الحجاج؟ وكيف يختلف أسلوب التعبير عن هذه الوقائع من كاتب لآخر؟
-إلى أي حدّ يقدمّ هذا النوع من الكتابة معرفة جديدة عن الذاكرة الجماعية؟ وما علاقة هذه المعرفة بالأطر الاجتماعية للذّاكرة؟ وكيف تؤثر هذه المعرفة الجديدة في الذاكرة الجمعية للمتلقي، وتدفعه إلى الاقتناع بها؟
-هل يمكن أن يكون “تقاطع الذّاكرات الفردية” مدخلا إلى الكشف عن الحقيقة، بوصفها إعادة بناء للمشترك في الذاكرة الجمعية؟
-كيف تقدّم الذات إيتوسها في الخطاب في علاقتها بالآخر، وبالأحداث التي كانت شاهدة عليها؟ وما هي النماذج التي بنتها؟ وكيف بنت الذات النماذج الإيجابية للآخر وعكس النماذج التي ترى أنها كانت سببا في هدر القيم الإنسانية؟
-كيف تتوسل الذات بأساليب بلاغية من أجل تشييد القيم أو نقضها؟ وهل يمكن أن يؤدي تغير القيم إلى إعادة مراجعة الماضي في الشهادات؟ وكيف يُبنى سلّم القيم في استراتيجيات خطاب الذاكرة؟
-هل تختلف الأساليب والتقنيات الحجاجية التي توسلت بها الذوات من أجل المرافعة عن مواقفها، والدفاع عن وجهات نظرها؟ وما حدود تأثير الأساليب اللغوية والوصف المؤثر والصورة والرمز… في إثارة عاطفة المتلقي؟
وأمام قلة الدراسات الحجاجية التي ترتبط ارتباطا وثيقا بموضوع بحثنا ومنهجه، فقد وقف الطالب على مجموعة من الدراسات الحجاجية العربية للكتابة عن الذات، وأهمها:
– دراسة عبد الله صولة: “كتاب “الأيام” لطه حسين خطابا حجاجيا”
-دراسة فوزي علي علي صويلح: “تقنيات الحجاج في سيرة عباس محمود العقاد مقاربة تداولية”.
-“بلاغة السيرة الذاتية”، وهو كتاب جماعي، أعدّه محمد مشبال ونسّقه
-مقالة الطاهري عبد اللطيف، “الإيتوس في شهادة عبد الله العروي “المغرب والحسن الثاني
ولفت العدراوي الى أن هذه الدراسات تبرز تحولا منهجيا، في دراسة هذا النوع من الكتابة، ورغبةً في التأسيس لقراءة جديدة للكتابة عن الذات من منظور جديد، يتجاوز إشكالات التجنيس والأدبية التي شغلت النقد الغربي والعربي مدة طويلة. غير أن هذه الدراسات تتسم بالجزئية، إمّا في مستوى اختيار الفصل بين مكونات الإقناع الثلاثة: الإيتوس، واللوغوس، والباتوس، في دراسة الكتابة عن الذات وسياق هذه الكتابة التاريخي والاجتماعي، وإمّا في اقتصارها على السيرة الذاتية، في حين أن الكتابة عن الذات أكثر امتدادا، وارتباطا بسياق إنتاجها من جهة، وسياق التجربة التي عاشتها الذات، من جهة أخرى، مشيرا إلى أن بحثه يتقاطع مع الدراسات السابقة الذكر في مستوى الجنس الأدبي المتعلق بالكتابة عن الذات، وفي مستوى المنهج المتبع في الدراسة، وهو الحجاج، على اختلاف مدارسه واتجاهاته.
تفرعت إشكالية البحث إلى ثلاثة مستويات: مستوى الإيتوس في الكتابة عن الذات، وفرضية اتجاهها نحو الشهادة على التجربة، ومستوى استحضار الوقائع وإعادة بنائها عبر الذاكرة، وفرضية إعادة البناء التي تحكم عملية التذكر، ومستوى الترافع في سياق العدالة الانتقالية، وفرضية اشتغال الباتوس من أجل التأثير في المخاطب، ودفعه إلى الانتصار للقيم الإنسانية.وهذا التركيب في المستويات يجعل أطروحة البحث تتقاطع مع دراسات سابقة عليها، سواء في المستوى النظري، أم في مستوى المتن، ساعية في ذلك الى تحقيق إضافة تقدمّ رؤية جديدة في دراسة البعد الحجاجي في الكتابة عن الذات، وتحليلا إجرائيا لآليات اشتغال الذاكرة، بوصفها رهانا اجتماعيا وتاريخيا.


بتاريخ : 19/12/2022