نبضات : سـنـوات عـبد الــمـومـن الــمـشـتـعـلـة 3

لذكرى قدور التاقي: صديقي ورفيقي

وإني لأحْسَبُ رَيْبَ الزمــا /// نِ يتركني جسداً باليا
سأنشر ذكرَكَ لا نــاســيـاً /// جميلَ الصفاءِ ولا قاليا
وقد كنتُ أنشرُهُ ضاحكــاً /// فقدْ صرتُ أنشرهُ باكيا
( عبد السلام بنُ رغْبانْ المعروف ب: ديك الجن )
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ

هي أسئلة حائرة وواخزةٌ وموجِعة أطرحها عزاءً وسلوى لنفسي قبل أن تكون عزاءً لأصدقائي وصديقاتي الذين شاركوني حبَّ وحلم ووهم وطموح المرحلة، وجمال وعنفوان تاريخية السنوات الأولى من السبعينات الرائية المرئية، العجيبة الرطيبة، الغضة المهيبة العصية على الفناء والنسيان؛ وكيف تنسى وتفنى وهي ما حقق للبلاد ما هي فيه بشكل أو بآخر، إذْ كان لها ما بعدها، أعني أن الصراعات الضارية، والمعارك المحتدمة مع قوى الشر والطغيان، والجبابرة الذين « هرفوا» قصعة الوطن، وعكفوا يمتصون ضَرْعه، ويشربون رحيقه، هي ما ساهم في فتح كوة بل فجوة أمام الضوء القادم الذي تكاثر وتناثر حتى أفضى إلى ما يمكن تسميته اليوم ب» الانتقال الديموقراطي «، وتحقيق نزر يسير من مطالب نُفيَ وسُجِنَ واختطف من أجلها شرفاء وشريفات البلاد.
وكان غرامي بالسينما بلا حدود، غرام هجَّجَني وجنَّنني. كانت معشوقتي الثالثة بعد الأنثى والكتاب. وقد بلغ من غرامي بها أنني كنت أتسلل ليلا من قاعة النوم بالداخلية، حافيا والحذاء في يدي مُحاذرا أن يضبطني الحارس المرحوم سي عمر، لأنزوي ـ بعد قليل وأنا ألهث ـ بأحد أركان سينما « باريس «، متنعما بمقعد جلدي أحمرَ وثير، وبفيلم سياسي مثير.
فالمرحلة أمْلَتْ إيديولوجيا وسوسيولوجيا، أن تعرض أفلام مندرجة شكلا ومضمونا في حرائق ومطالب ذاك الشرط التاريخي لجهة استتباب الحقوق المبدئية والعيش الكريم، ووجوب إشاعة الديموقراطية والعدالة الاجتماعية؛ ومنخرطة في إبستيم زمنية الحركات التحررية المشتعلة في جهات المعمور.
وهكذا، توالت أفلام ـ هيهات للنسيان أن يطمسها ويفنيها. يمكن أن اذكر منها: ( الرئيس)، الديكتاتور ـ زِدْ ـ جميعنا في حرية مؤقتة ـ جوْ هيلْ ـ ساكو وفنزيتي ـ فراشات ـ اعترافات عميد شرطة أمام وكيل الجمهورية الخ.. الخ ( هي أفلام ناطقة بالفرنسية بطبيعة الحال).
فضلا عن أفلام الحب الفرنسية والأمريكية الرفيعة لا المصرية الرومانسية الفجة والمبتذلة والمكرورة ذات البعد النمطي الواحد، والتيمة المستهلكة، ما عدا النزر القليل. وعندما تضطرني الظروف، ويرغمني خواء الجيب على الإقامة في الداخلية خلال نهاية الأسبوع، أهتبل الفرصة، يوم الأحد، لأنزل ضيفا عاشقا مفتونا، على الأفلام الهندية بسينما « النصر «، التي كان يجذبني إليها، ويوقعني في غرامها، ترجماتها المكتوبة أسفل الشاشة، بشعرية عربية بديعة أعترف أنها غدت مخيالي، وزينت ـ إلى حد ما ـ لغتي، وزركشت أسلوبي وصوري. ومن ثَمَّ، صرت مأنوسا معروفا، متداول الوجه والصوت واللسان، لدى فتيات الشبابيك، و» الجلاَّساتْ «. بل كنت أحظى ـ بين الفينة والأخرى ـ بتذاكر مجانية، أو عبر توسط توسلي منهن للبوّاب حتى يسمح لي بولوج القاعة الغارقة في ظلام رهيب حيث لا صوت ولا نأمة، ولا نسمة، ولا نغمة إلا ما كان من أصوات الممثلين والممثلات، وأمواج ضوء مرتعشة تتلوى كالحيات، وتتراقص مثل شلالات دقيقة على السحنات، وبين الكراسي، تشق أمامي دُكْنَةَ الممر، وتنيره لأضع اليد المدودة المتخبطة على كرسي فارغ أنْدَفِنُ فيه قرابة ساعتين ماتعتين مفيدتين بما لا يقاس.
ولكم ضبطني حارس الداخلية، عائدا في منتصف الليل، متشعبطا وملتصقا متسلقا كدُوَيْبَة أو كقُرّاد بالجدار، محاولا ألاَّ أُحْدِثَ ما يثير الانتباه أو يوقظ النائمين السادرين في أحلامهم أو كوابيسهم وشخيرهم. ولكم هددني وتوعدني بالطرد من الداخلية إنْ هو ضبطني متلبسا ب» جريرتي « في المرة المقبلة. وكان يجدني فاعلا، غير مبالٍ بوعيده وتهديده، لينسى في الغد الموالي، أو يتظاهر بالنسيان لأنه كان حنونا طيبا في دخيلته، ومتعاطفا معي بشكل خاص، وإنْ بدا للآخرين عنيفا وفظا غليظا.
هي ذي السنوات الثلاث الاستثنائيات العظيمات في حياتي، عظيمات في السلب وفي الإيجاب، في السراء والضراء لأنها بَرَتْني إبراءً، وصنعتني صنعا، وسَيَّسَتْني وأدلجتني، وفتحت عيني أكثر على كبار الروائيين العالميين كفلوبيرْ، وبلزاك، وبروستْ، وستندالْ، وفرنسوا مورياكْ، وأناتولْ فرانسْ، وفكتور هيغو، وإرنست همنغواي، ووليام فولكنر، إلى جانب روائيين عرب لا يقلون عنهم كعْبا ولا إبداعا مثل نجيب محفوظ، وجمال الغيطاني، وعبد الرحمان منيف، ومحمد زفزاف، وصنع الله إبراهيم، وجبرا إبراهيم جبرا، وآخرين.
غير أن الذي شحذ وعيي، ونَمَّرَني أكثر، كانت بدائع ألبير كامو، والفكر الوجودي السارتري حيث كانت سلسلة « دروب الحرية»، و( الكلمات )، و ( الغثيان )، و ( الجدار )، وملفات مجلة ( الآداب البيروتية ) المكرسة للوجودية، متاحةً، وطوع التداول واليد. وكان الفكر الماركسي، على رغم اطلاعي السريع غير العميق ـ فترتئذ ـ على شذرات منه متفرقات هنا وهناك، ومترجمة ـ في الغالب ـ ترجمة رديئة وموظفة لأن مترجميها كانوا يهدفون أساسا إلى زعزعة العقائد، والتشكيك في نجاعة الدين وخلاصه باعتباره مسؤولا عن استعباد واستغلال الطبقات الفقيرة والأميين، وفي مقدمتهم: العمال والفلاحون؛ كانت تلك السلسلة والملفات، وذاك الفكر ـ إذنْ ـ إنجيلَنا وكتابَنا الذي نَرْجِمُ ونُرِجَمُ به.
كنا نداور في ما بيننا هذه الأفكارَ، ونعلن انتسابنا إليها، والتصديق لما بين يديها. بلْ، أنا واحدٌ من بين مَنْ كان يقدم عروضا في المادية الجدلية بالثانوية بكثير من المكر والادعاء داخل أقسام متى فرغت بمعرفة الإدارة والساهرين على سيرها العام، تفاديا لاحتجاجنا بدعوى التضييق على حريتنا. ولئن سألتني عن قيمة تلك العروض المعرفية، ومدى فهمنا للمادية الجدلية، ودفاعنا عن أطاريحها، وآراء ومواقف كاتبيها مثل ماركس وإنجلز، ولينين، وماوتسي تونغ، فإن جوابي هو: لا شيءَ، لا شيء على الأرجح. إذْ كنا نسلخ الترجمة سلخا، ونقتطعها من سياقها، ونُتَبِّلُها ببعض تخيلاتنا ورغائبنا محاولين التأثير في زملائنا وزميلاتنا التلاميذ الذين كانوا سريعي التصديق، مع استثناء فرقة غاضبة كانت تقف لنا بالمرصاد، وتتصدى لنا سائلة ومتشككة في معلوماتنا، وقدراتنا المحدودة على استيعاب المادية الجدلية الماركسية العميقة والدسمة، ومتهمة إيانا بالإلحاد والزندقة، وأكل رمضان، والتعاطي للنبيذ والبيرة، وزيارة حي المومسات بانتظام.؟ا
عنيفةً وغير رحيمةٍ كانت معاركُنا مع هذه الفرقة « المؤمنة « التي كانت تتصدى للفرقة « الضالة «. ولا أنكر أننا أفدنا من بعضنا بعضا. فكلانا كان يعود، بعد انتهاء المعركة الكلامية، والسجال السفسطائي، إلى الكتب مستشيرا مستطلعا، ومستقرئاً ليتخذ ما طالعه وتَشَرَّبَهُ، سلاحا معرفيا وإيديولوجيا يدافع به عن خندقه، ويُصَلِّب به عودَهُ وتمترسه وراء أفكار جديدة يريدها أن تكون أكثر انسجاما، وأشد شوكةً ووَقْعاً لتَتْفيه الخصم، وتجريده من سلاحه.
ولربما كان لانخراطي الحزبي المبكر والمنظم على يد أستاذي أحمد لطافي سالم، يد طولى في تعميق أفكاري بإنصاتي الدؤوب إلى المناضلين التحرريين الاشتراكيين داخل مقر الاتحاد المغربي للشغل، أو بمقهى « فرنسا»، أو مقهى « كولومبو «، وهم يناقشون ويستبسلون في إيراد ما قرأوا لدعم أطروحاتهم، وتصليب مواقفهم، والدفاع عن وجهات نظرهم. لقد كنت تحرريا اشتراكيا، فأول عهدي بالنضال الحزبي كان في حزب المرحوم القائد علي يعته ( حزب التحرر والاشتراكية )، قبل أن يصبح حزب ( التقدم والاشتراكية ).
على أنني سأخلع معطفي الحزبي هذا آنَ حلولي بجامعة ظهر المهراس بفاس، وأنضم إلى حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. وكنت شاهدا على ميلاد التسمية في العام 1975 بقاعة الأفراح بالدار البيضاء. وحظيت بالجلوس إلى جانب القائد عبد الرحيم بوعبيد، والشهيد عمر بنجلون، والمناضل محمد اليازغي، وقادة آخرين أعتز بجلوسي إليهم، ومعرفتي بهم.
سنوات سمانٌ، سنوات مشتعلة بكل تأكيد سياسيا ونضاليا، وتعليميا، وغراميا، وثقافيا، وشعريا.
لكني أقول على لسان الشاعر لامارتينْ، ت. الشاعرعلي محمود طه:
ليتَ شعري أهكذا نمــــضــي /// في عُبابٍ إلى شواطيءَ غُمْضِ؟
ونخوضُ الزمانَ في جُنْح ليلٍ /// أبديٍّ يُضْني النفوسَ وَيُنْضي
وضفافُ الحياة ترمقها العـيْــ /// ـنُ فبعضٌ يمر في إِثْرِ بعضِ
ودون أن نملكَ الرجوعَ إلى ما /// فاتَ منها، ولا الرُّسُوَّ بأرضِ


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 17/09/2021