« الخمر شعر في زجاجة »
لويس ستيفنسون
” حانة المحو” ، هو عنوان المجموعة التي صدرت عن منشورات ديهيا ببركان ، وضمن إصدارات اتحاد كتاب المغرب ، فرع بني ملال الفقيه بن صالح . تزين غلافه لوحة للتشكيلية العراقية نادية فليح ، وتؤثثها ثمانية قصائد ، توحدها تشكلات البنية الشعرية التي تشتغل على شعرية مكابدة المحو في لذة الاكتشاف المركب ، حيث القصائد تمسح كي تعلن الميلاد ، تهدم كي تشيد ، تنسى كي تتذكر ، وتنفي كي تثبت
ولعل أول ما يلفت انتباه القارئ المقبل على الديوان ـ دلالة العنوان الذي اختاره الشاعر صالح لبريني لمنجزه الشعري ، باعتباره عتبة أولى ، ومرآة مصغرة لكل النسيج النصي و نصا محوريا بتعبير رولان بارت ،
وعليه ، نكون أمام « حانة المحو « عنوانا مربكا ومزعجا لأول وهلة ، إذ لا علاقة تجمع بين الحانة والمحو كفعل للكتابة ، له علاقة بمفهوم ماديةِ الكتابة، وبالممارسة التي تتم داخل القصيدة من تشطيب ، بيد أن حانة «صالح لبريني» ليست هنا بمعنى نشوة وأهواء شخصية ويومية ، إنها في المقام الأول « حانة القصيدة « التي تستقطر بلاغة دوالي المعنى كي تكتب شعرا من حيث هو قول في شأن الشعر ، بعد إعادة كتابته ، بالتشطيب والمحو ، و أليس « الشعراء أباريق مقدسة تحوي خمرة أسطورية تحيل المعلم تلميذا مريدا « كما يرى « هولدرلين « ؟
إذن ، تجتمع في قصائد حانة صالح لبريني أسرار القصيدة وفتنة السكر بالمعنى ، وهكذا ، تعدو الحانة نفيا وإبعادا ، والقصيدة ضيفة لديها :
« من ينفيني إلى حانة المحو
لأعلن وصايا شعري « ص65
حانة بهذا المعنى ، مكان مناسب للبوح بحقيقة المحجوب لمواجهة الإقصاء والإبعاد ، ومكان منه يأتي الكلام الشعري متموجا ، غامضا ، موحيا ، يخترق التكرار والتشبه ، ولا يتم هذا إلا من مقام شبيه بالسكر ، لأن « السكران هو الذي ينطق بكل مكتوم « حسب الحسين ابن منصور الحلاج .
وتعود الحانة مرة أخرى ، لتبلغ مستوى اللجوء الشعري والملاذ :
من قال لي: « إن البحر مركب جنوني
إن الشعر حانة ملاذي «
تلك هي تاريخانية القول الشعري يطلب اللجوء إليه سكنا كما الحانة ، كلما جارت الوقت وتلاطمت بالشاعر أمواجه وبجنون لا تشتهيه رياحه ، وبذلك تكون القصيدة حانة ، والحانة قصيدة ، وكلاهما مكان وملاذ وهروب من كل ما يوحي بالزمن الأحدب .
هذا الهوس بالقصيدة يبلغ لدى الشاعر مداه وتصبح بذلك القول الشعري هوية وانتماء إلى سقوف المجاز :
« ولا رجاء لي في العراء
إلا حروفي
كلماتي
قصائدي
فلمن….؟
لغير الحرف أعن انتمائي « ص 20
بهكذا انتماء ، تغدو القصيدة في هذا الشاهد النصي من قصيدة « دهشة القصيد» ، وطنا بديلا للشاعر عن وطن حاف يأكله التصلب والتكلس والعراء من أي حضن أو ملجأ حميمي .
في ديوان « حانة المحو « يرسي الشاعر تصورا عن القصيدة في مواجهتها للأصل بعيدا عن كل يقين ، ولنا في البدء ، أن نقرأ وجوه هذه القصيدة التي يتوخاها الشاعر انتماء وملاذا ، فهي قصيدة « أسئلة صاعقة ، حلم مسروق ، محو ، كشف ، طفولة ، خلوة .. «، ويمكن أن نعضد هذا باختراق الشك لجدران السكينة والاطمئنان فتجتاح الأسئلة عوالم الشاعر وسقوف مجازاته من قبيل:
« فأراني منكفئا على جرح الحرف
مطوقا بالأسئلة « ص56
« وحرفي وطن يعانق هبيد النشيد
حرفي طفل يتجيش أرق السؤال « ص10
ونقرأ أيضا من قصيدة « «
« النار تورق في الحنايا
وردة الأسئلة « ص 65
هكذا يحاصر الشاعر عوالمه بالقلق والضجر , والسؤال المستفز ليجترح لشعائر خلقه الشعري أفقا آخر جديدا للإنبات والاستئناف والكشف :
« وفي صواعق السؤال
استظل جهالتي
اعتلي معارج عماي
احمل صلبان بوحي
علني أكتشف ما تطبن في « ص24
يتعزز السؤال في هذا الشاهد بالكشف العارف بالذات التي تبتهج وتحتفي بقصيدة مهووسة ببداية متجددة دوما ومنسجمة مع رهان المنجز عند الشاعر
كما لا تخلو قصائد «حانة المحو» من لحظات انتقاد لمكونات المشهد الشعري الموغل في التقليد والقدامة ، والكافر بالحداثة ، ومن ثمة اتخاذ موقف ومسافة منه ، ثم الإعلان عن تجاوزه في الشعر وبه :
« فما يجديني من حروف تعشق
وصايا الدمن ..؟
ومن قصيدة تتحصن بتميمة القدامى ؟؟؟
ولشعري حنين للمجهول « ص68
يتساءل الشاعر هاهنا ، عما ينفعه ويفتح شهية قصائده للتورط في الوصايا والقوالب الجاهزة الميراث والوراثة» الدمن ، تميمة القدامى « ، ومعناه الشعري لا ينأى عن اقتحام المحجوب والغامض والملتبس عن قصد وعمد وسبق إصرار لتحاكي بها الحاجة المندلعة في الذات والواقع إلى ما لا يتكرر ولا يتشبه .
كما يتسلل الشعر عوالم حميمية ، حيث يمتزج الحرف بالاشتهاء والقول بالشبق :
«» لاوطن سبيني
إلا قصيدا في وجه سميرة
والسميرة امرأة جذلى
أشعلت في الأقاصي أسرار القصيد» ص32
فكيف يمحو ويكتب صالح لبريني قصيدته .. هل تولد من حالة وجع أم من حالة ؟
بداءة ، دعونا نتفق أن القصيدة لعنة جميلة ، هي أعلى درجات التورط في الوجع وأرق السؤال وصواعقه ، ولأنها كذلك ، كان لا بد للشاعر أن يكون بروميتيوسيا ، يقبض على النار ، كي يكتب قصائد كالقناديل ، ولعل العبارات التي تتسلل لقصائد « حانة المحو» من قبيل :
« جرح القصيد ، لوعة القصيدة ، القصيدة حرقتي ، لهيب العبارة ، مواجع قصيدي ، التفاعيل تعصفني قصيدة ، القصيدة حرقتي … « ، ليست كلاما للتطريز والتزويق والافتعال ، وإنما هي الكلمات المفاتيح لولوج سيرة مخاضات خلق وولادة القصيدة لدى صالح لبريني
فالخلق تارة حارقا كاويا على امتداد عناد الشاعر الذي يرفض مهادنة دياجير الماضي :
« قلت القصيدة حرقتي
قالت الدواة : خذ من الحبر عناده
ورقش البياض بوشم مداده « ص 60
وتارة أخرى تورط في النزيف :
أيتها الضاد تميمتي
أنت البدء والتكوين
متورطا في الشعر
فأراني منكفئا على جرح الحرف «ص 56
فالحرف هنا جريح ،والذات المبدعة جريحة ، كحالة شعرية مرتبطة بأرق السؤال والتأسيس لشيء جديد نابع من قلق الشاعر في مسعى بيته الرمزي .
ولا يكتمل الإنصات عن « حانة المحو» دون الإشارة إلى أن ثمة تشكيل جمالي يرين على فضاء هذا الديوان الشعري ويلون استقباله وتلقيه ، وتجعل من نصوصه أشبه ما تكون ب» عرس العين «على قول الشاعر عبدالله راجع .
من هنا يبدو صالح لبريني كاشفا لأوراقه البصرية التي تقوم على لعبة الانزياح :
« جذر أني أستوطن حرفا
ح
ر
ف
ا « ص 7
يختار الشاعر في هذا الشاهد النصي الانتهاك من خلال ما يمكن تسميته بتقنية التجزيء وفق حروف متقطعة ، تحاكي تمزقات الشاعر بسبب وجع الكتابة على شاكلة كلمة «حروف « المكتوبة بشكل مبعثر لتتجاوز بذلك الكلمة فاعليتها الشعرية الى فاعلية بصرية والتي من شأنها تدعيم الواقع النصي .
وهذا التشكيل للكلمة ، من شأنه إزعاج القارئ بكتابة لم يألفها في قراءاته ، وهذا ما أضفى على التعبير لونا من ألوان الخرق والاستثناء المقلق ، ومن ثمة تأسيس لغة ذات حساسية شعرية جديدة التي تتساوق ونفسية الشاعر والرسالة التي يود تداولها .
ومن أبعاد هذا التشكيل الجمالي للقصائد تقنية الحذف دور الحذف في تماسك النص، ودور الحذف في قيمة النص من حيث الصياغة التركيبية :
« يدميني صبار الهوان
يمزقني هذا الوهن المجلل
وجه المواسم
( ……. )
هو ذا أنا
« صالح بن محمد « ص 25
للحذف هاهنا أهمية في إبراز دور المتلقي فالشاعر يحثه على القيام بعمليات ذهنية تعمل على بعث الخيال وتنشيط الإيحاء ، إذ إن قيمة الحذف فيما يتيحه للمتلقي من التفكير في المحذوف
ولا أملك في خاتمة هذا الإنصات لديوان “ حانة المحو” ، سوى القول إن “ صالح لبريني “ ، يكتب قصيدة ، ترفض ،تتشظى ، تبدل ، تخوض ، وتبدع بالكفر ،إنها سقوف من مجاز تخرج بالمعرفة من اليقين ، كي تنشئ حانتها الشعرية ، وهكذا هو الشعر في نظر نيتشه خلاص من الكفر المعرفي ، و لحظة هدم من أجل بناءٍ أفضل ،كيي يكتب قصيدة لم تنكتب بعد.
انا المنفي في حضرة اللوح
أتقرى فوضاي
أتهجى شغبي
أمحو لوحي
اغرق في نهر الطفولة
فتركبني وسوسة الحكايا
19
« وفي رأسي يورق اليتم
فألوذ حرفي
وفي جوفي أحضن خوفي
أنا المنفي في حضرة اللوح»