نرجس أوفيد:
تكتمل صورة نرجس الشعبية الأسطورية بالصوغ الشعري الذي قدمه لها الشاعر الروماني أوفيد في كتاب مسخ الكائنات.
ولعل أهم ما يميز الصوغ الشعري لهذه الصورة ذلك التماثل التقابلي المولد للألم والاستحالة، ويمكن تمثله من خلال الجمل التالية:
– على لسان نرجس: ما أرغبه يوجد بداخلي: فمن كثرة ما ملكت لا أملك شيئا.
– وصار يتملى المفاتن التي تفتنه بذاته.
– وإلى ذاته يوجه تضرعاته؛ فهو نفسه العاشق والمعشوق.
– لا يبحث ع
أحد سواه، والنيران التي يضرمها ترعى جسده. لقد راهن الشاعر على أن تصير الكلمات في قصيدته مثل نرجس، عاشقة لذاتها إلى حد تصير معه المسوخات المحمولة بالكلمة ماثلة مرئية للعين.
وقد صار الكتاب بهذه الخاصية مصدر إلهام لرسامي عصر النهضة الذي تنافسوا في ترجمة قصص الكتاب البصرية إلى لوحات سما كثير منها إلى درجة الجمالية الكلاسيكية وصار تمثيلا لها…
نرجس التوأم:
يرى بوزانياس، وهو كاتب يوناني رحالة عاش في القرن الثاني الميلادي، أن الرواية الشائعة للقصة تبدو ساذجة، ويفضل رواية أخرى غير مشهورة ولكنها متداولة:
«كانت لنرسيس أخت توأم، نسخة منه تقريبا في القسمات، وجدائل الشعر وحتى في الثياب. وخرجا ذات يوم للصيد، وكان نرسيس يعشقها، ولكن الفتاة تموت في حادث مفاجئ؛ وهكذا صار نرسيس يلوذ ببركة الماء ليتملى صورتها. كان يعرف أنه لا يرى في البركة الصافية إلا صورته، لكنه كان يجد في هذه الصورة مواساة لفقده توأمه المعشوق.»
تفتح هذه الصيغة من القصة أفقَ التلقي على موضوعتين: موضوعة زنا المحارم، وموضوعة الازدواجية الجنسية: أنثى وذكر.. وقد تم تصوير نرجس عند بركة الماء في بعض الرسوم القديمة بملامح أنثوية.
يضعنا بوزانياس بروايته الجديدة بعيدا عن قصة العاشق المتوله بذاته، كاشف النزعة النرجسية لدى السيكولوجيين فيما بعد، وقريبا من قصص التوائم حيث يمتلك كل توأم هوية زوج… وإذ ينظر نرجس في الماء كل حين فإنما يحاول إعادة بناء هذه الهوية الضائعة.
الحاجة إلى الصورة كبديل عن الغائب، وترميم هوية مشروخة موضوع قديم ومتداول. حين قتل Remus أخاه التوأم Romulus فقدت روما سلامها؛ ونشبت حروب كثيرة مما دفع روموليس إلى طلب العون من كاهنة ديلفي التي أشارت عليه: «إذا لم تُعد أخاك على العرش معك، لن تهدأ ثائرة الشعب ولن تعود الحرب إلى جحرها.» وكذلك صنع روموليس: أمر بصنع صورة للقتيل وأجلس الصورة معه على العرش فعادت الفتنة إلى جحرها.
نرجس المتنبي:
يقول أبو الطيب المتنبي:
شآميةٌ طال ما خلوتُ بها
تُبصر في ناظري محيّاها
فقبَّلَتْ ناظري تغالطني
وإنما قبّلتْ بهِ فاها
فليْتها لا تزال آويةً
وليتَه لا يزال مأواها
تَمْثُل حبيبة المتنبي أمامه وتتملى وجهه، ثم تتوقف عند عينيه. وفي لحظة تدني شفتيها، وتقبل عينه. الشاعر، بدل أن يذوب في، ومع القبلة يرى أنها قبلة مخاتلة، فما قبّلت في الحقيقة إلا فاها في مرآة عينه.
سوء فهم منتج لأثر شعري أم حقيقة عارية؟ أم هي نرجسية أنثوية لا يحدسها إلا شاعر ممرورٌ لا يترك شاذة ولا فاذة إلا شعر بها، مستبطنا ما وراء الحب، غيرَ مستطعِمٍ سطحَه العذب اللامبالي؟ وبدل أن ينتشي، كعاشق مغمور، بمعشوق، ينتشي، كعاشق ممرور، بمخاتَلة أو مغالَطة. ولكن هذه المِرّة الملوِّحة من ضفاف المعنى مِرَّة عشق رغم ذلك، لذلك ينصاع الشاعر انصياع العاشق ويتمنى مع المغالطة، لو أن العاشقة أو قُبلتَها أو هما معا يظلان مقيمين في ناظره المرآة، وهي على كل حال أمنية تُنذِر بِبَيْنٍ وفرقة، وتستشرف المعنى نفسه في أغنية محمد عبد الوهاب: بلاش تبوسني في عنيّا ذي البوسة في العين تفرّق…
نرجس في الحيوان والطبيعة:
«رغم أن الأمثلة نادرة، إلا أن سُعار الأفراس يعتبر داء معروفا: ومصدره أن رؤية الأفراس صورتها في الماء تصيبها بوَلَهٍ ملغز يجعلها تنسى كل طعام وتهلك من الوهن. ونعرف أنها تحت سطوة الهذيان إذ تعدو عبر المراعي كما لو أنها مطاردة من قبل طاووس؛ وحين تجيل نظرها في كل جانب تبدو وكأنها تبحث عن شيء وترغب فيه. ويتبدد هذا الجنوح من مخيلتها بأن نقصّ عَرف الفرس في شكل غير منتظم ونقودها إلى الماء: هناك، ولرؤية مظهرها المتحول، تفقد ذكرى الصورة السابقة، وتطيب.» وكما تسحر المرآة، فإنها أيضا قد تبطل السحر. ومما شاع كدواء للبَرَد المفسد للزرع أن: «بعض الناس إذ يرون النّوَّة دانية يعرضون لها مرآة تعكسها، فإما أن لا تروقها صورتها، وإما، نظرا لأنها وجدت نفسها مضاعفة بصورة أبهى، تخلي مكانها لأخرى، وتغير مسارها».