نسخة بعيدة عن الأصل

ـ «جبتى ليّ ولدي في صندوق، ياك»
أخرجتها من جوفها حارقة، ممدودة الأحرف. اللغة من كانت تعوي وهي تُغادر صدرها.
الآهات، اللوعة والخذلان كلها أفردت لهم مكانا في غياهب أعماقها حتى هذه اللحظة التي أعادوه في تابوت.
حتما تُعاتب ولدها الأصغر لمَ فرّطَ في أخيه، وترك الموت يصطاده.
ـ «قول ليَّ ولا تكذب، قتلوه «
ـ لا آمى، حسن كان مريضا
كيف له أن يشرح لقلب مجروح ولأم مكلومة أن بكرها مات كمدا على ما آلت إليه نقابته وعلى الأيام التي أدارت له وجهها ونبذته.
حسن شُعلة مُتقدة في القسم والتنظيم، أعطى بدون حدود، حتى اكتشف متأخرا أنه يدور في حلقة مُفرغة بئيسة، دون بيت ولا زوجة، لم يندم لأنه آمن أن قدره حُسم يوم اختار الاصطفاف في ما اختاره. حتى المدينة التي عشقها وأعطاها كل شيء بخلت عليه بجنازة وقبر.
هل يُخبر أمه الثمانينية التي صار الخرف جليسها كيف عثر على أخيه، وكم بذل من جهد.
في لحظة خذلان أو مُحاسبة وتقييم لكل هذه السنوات العجاف التي طحنته، قرّر ما بدا له صوابا.
بعد تقاعده وفك الارتباط بالثانوية التي كان يشتغل بها، اعتزل الجميع واختفى بمحض إرادته، ذاب وسط المدينة الشبح.
بعد انقطاع أخباره وبإلحاح من أمه قام بالبحث عنه. ذهب الى شقته، أخبره حارس العمارة أنه تركها أكثر من ثلاثة أشهر، حمل حاجياته القليلة ورحل، حاول معرفة وجهته لكنه لم يخلف وراءه أي علامة أو أثر، قطع كل الخيوط الواصلة وعبث بالمعالم حتى لا يُكشف أثره، حتى الحانة التي كان يرتادها ذهب إليها فقالوا له ما قاله حارس العمارة، أكثر من ثلاثة أشهر لم تطأ رجله المكان. بحث في الحانات المجاورة، سأل كل الندماء المشتركين ومن كان يُفترض أن يعرفوا عنه شيئا، لكن لا خبر.
ماذا عساه يقول للوالدة التي تنتظر هناك في مدشرها أن تحضن أطياف من رحلوا، تتسقط أخبارهم، مع حلول كل عيد أو عطلة، تتوقع أن يطرق بابها الغائبون.
حملتهم في رحمها سبعتهم، وكابرت حتى شبوا، فطاروا مثل فراخ الحجل، وتركوها فريسة للحنين وترقب زيارات متباعدة.
لا بد أن يجده فإلحاح العجوز عبث بصبره.
رابط لأكثر من أسبوع يتعقب خيطا واهيا من حانة الى أخرى، يجلس منزويا يرصد الداخلين والمغادرين، يُمنّي النفس أن يُطل برأسه، مُتأكدا من شغفه بهذه الأمكنة لأنها ملاذه وسلوته.
بحاستها شمّت شيئا ما، هي التي بادرته عندما طالعها وجهه الموزع على لفيف كل هذه الحانات. وضعت طبقها الدومي الذي كانت تُغطيه بمنديل مطرز، هو مطعمها المتنقل الذى تطوف به الليل بطوله على نُدماء الحانات به بيض مسلوق وتشكيلة متنوعة من الفطائر المنزلية على الطاولة التي صفّ عليها قنانيه:
ـ واش أنت من موالين الوقت، على من تبحث؟
ابتلع ريقه من حجم المفاجأة ونبس في هدوء:
ـ أختي شامة، كيف لم أفكر فيك، شوفي أنا كنبحث على خويا، يُشبهني كثيرا، أكبر منى وأصلع، أنت تطوفين كل الحانات، الى جبتي ليّ اخبارو بحلاوتك.
تواعدا على اللقاء بنفس المكان بعد أسبوع.
مرّت عليه الأيام ثقيلة، مُبلبلا، هائم النظرات، ينتظر مُرغما اليوم المعلوم، هي أمله الوحيد بعدما جرّب مسارات مُتعددة كلها موصدة.
وكأنه يستعجل حصول أمر جلل، أتى الى المكان قبل غروب الشمس، جلس في ركن يسمح له بمراقبة الوالجين دون إثارة الانتباه.
في ساعتها المعلومة دخلت شامة بجلابتها الداكنة ونقاب البوسليم الأسود يغطى نصف وجهها، حضورها يولّد انطباعا لامرأة خمسينية قوية الشكيمة، تجر وراءها مسؤولية أفواه تنتظرها بالبيت. قصدته مباشرة قبل أن تطوف بطبقها على الطاولات وابتسامة نصر تعلو مُحياها، قبل أن ينبس بأي كلمة بادرته:
ـ وجدته، يُشبهك تماما.
تهلل وجهه
ـ أين.. أين؟
ـ مايمكنش تطيح عليه، صعيب هاذ خوك، باغى التيقار.
ـ فين لقيتيه؟
ـ تمشي لبار….راه صغير، تدخل طول حتى الراس وتدور على اليسار، توجد مائدة وحيدة، يشغلها بمفرده، نفحها ما تواعدا عليه وغادر جدلا.
ـ «أميمتي ولدك وجدته، غدا أنا عنده»
وكأني في مهمة سرية ومُلزم باتخاذ احتياطات إضافية، ألج المكان، الإضاءة شبه مُعتمة، نُدماء متفرقون على طاولات قليلة، مباشرة سلكت المسار الذى حددته لي شامة.
عندما وقفت مُحييا بصوتي الجهوري. لم يتحرك ظلّت ملامحه كما هيّ وإن أفرج رُغما عنه عن ابتسامة مُتحفظة. ماسكا كتابا بين يديه مُتمما فعل القراءة.
جلبت كرسيا وجلست محاذيا له، بعد لحظات مديدة أنزل الكتاب ونطق:
ـ كيفاش لقيتيني؟
ـ هو الحظ.
طلب لي مشروبا، ومارس عليّ عادته الأثيرة في التعتيم، استبد بي فضول عارم لمعرفة كل شيء، لكنه كان مُقترا وبخيلا في الإفصاح عن سبب عزلته والانزواء بعيدا عن الجميع.
هي نكسته وفجيعته التي لا يُريد لأحد أن يستغلها ليشمت فيه ويقول له: «ماذا جنيت بعد كل هذا؟»
وفى نفس الآن لا يروم الدفاع عن خياراته وتبرير ما يجري. يجلس هنا مثل جنرال هُزم في حرب لم يجر حسابات دقيقة لاحتمالية فشلها.
يُمسك كتابه بأناقة مُنغمسا في قراءته غير حافل بما يقع خارج هذه الحانة، يلجها كقاطن أبدي. كرونولوجيا يومه بسيطة استوعب تتاليها الُندل المرابطون هنا، يحرصون على تقديم خدماتهم بدون ضجيج أو بهرجة، يتناول وجباته على نفس الطاولة وعندما يقترب الليل من منتصفه يُحضرون له سيارة أجرة لتوصله، لم يشأ الخوض معه في سر اختفائه، تذرع بالمرض ورغبته العارمة في تغيير المكان والوجوه المؤثثة له، حتى مأواه الجديد رفض الإفصاح عنه، قال لي:
ـ «إلا توحشتيني أنا هنا»
ماذا عساني أقول لك أمي، لم أُشدد عليه الخناق مخافة أن يفلت مني مرّة أخرى، وقد أفشل في العثور عليه من جديد، رغم المكابرة ابنك مريض، إيقاع حركاته بطىء جدا وشحوب جلي يسمه. حالته غير مُطمئنة بتاتا.
خانه جسده رغم أن اعتداده بنفسه لم يخب، في أعماقه يرفض أن يعرف معارفه السابقون ما آلت إاليه حالته، لذلك تجنب الجميع وانزوى هنا.
وأنا أُغادر زودت المشرف على البار برقم هاتفى.
وضعه الصحي مقلق.
انغمست في مجرى نهري الصغير حتى رنّ الهاتف يُخبرني فيه صاحب البار بضرورة القدوم بسرعة.
توقعت الأسوأ، قبل أن ألج أخبرني النادل أنهم يخافون أن يموت هنا، وجدته جالسا في نفس المكان ذابلا أكثر من اللازم، تعلو وجهه صُفرة خرقومية، ومع ذلك يُكابر، اقتربت منه، بادرني:
ـ تحفظ وصيتي جيدا، من مات الأول يدفنه الآخر جنب الوالد الذي بذل كل شيء من أجل تدريسنا.
ـ نعل الشيطان باقي العمر آخويا.
لكن في الأصل لا لم يبق منه الكثير حيث ذهبت به مباشرة الى المستشفى، أودعته هناك وأنا أُفكر في هذا الحمل الإضافي الذي ألزمني به. نفر من المدينة حيا وميتا.
نداء العودة الى الجذور تلبسه وهو يستشعر دنو ساعته، نحمل أقدارنا فوق أكتافنا، وها أنا أحمل قدري وقدر أخي الذي أودعني وصيته.
في الصباح أسرعت الخطى للاطمئنان عليه، بوصولي وجدت غرفته فارغة، توقعت الأسوأ، وفعلا كان، أخذوني إلى ثلاجة الموتى وهناك وجدته مُسجى مثل مومياء ذابلة.
عندما فرغنا من الدفن وعُدنا إلى البيت، انفردت بي الوالدة، شدّت على يدي:
ـ «شوف الله يرضى عليك، أنا بغيتك تقلب على بنات خوك.
فغرت فمي دهشا، هل هي هلوسات الخرف وألم الفقد وتهيؤات الليالي الطويلة الباردة؟
ـ أمي، حسن لم يسبق له أن تزوج .
ـ إيه عارفة، ولكن رابحة لي كانت كتجى عندو تطبخ وتكنس وتصبن.
ـ أمي هاديك مساعدة فقط.
ـ سير قلب على بنات خوك، أنا بغيت نشمو ريحتو……..


الكاتب : أحمد شكر

  

بتاريخ : 12/07/2024