نص : اعترافات رجل ميّت!!!

 

لم أكن أفكر في أن جنازتي ستكون مهيبة وحاشدة، وما فاجأني هو أن يتقدّم موكب الجنازة المنافقون، تعرّفت على أسماء بعضهم. لكن آخر من توقّعتُ حضوره هو (جيم)، ولم يكتف بالحضور فقط، بل صلّى على روحي الطّاهرة بخشوع، وأذرف الدّموع.
كلّ من يموتون نصلّي على أرواحهم الطّاهرة، حتى لو كان الفقيد سكّيراً أو عربيداً نقف في خشوع أمام جثته المسجاة في كفن أبيض وندعو له بالمغفرة والتواب وحسن الخاتمة. في الموت هناك عدالة إلاهية، الكلّ يسكنك الجنة، لا أحد يتمنّى لك جهنّم. ليس حبّاً في عينيك أو إخلاصاً لروحك، فقط لأنّه يعرف أن نوبته قريبة، وعزرائيل يتربّص به، لذا يدّخر هذه الدعوات والصلوات القائمة إلى اليوم الذي يودَع داخل حفرته.
لم أتعرّف على كلّ المدعوّين إلى حفل جنازتي. هل جاؤوا للبحث عن صكوك الغفران أم لطلب الدعاء لهم، فإذا قام الميت بالدعاء للحي وطلب الرحمة له فعلى الأرجح يحصل المرء على خيرات وغنائم عدة في حياته. أمامي لائحة طويلة من المعزّين الباحثين عن الغنائم، لا أدري هل أجد الوقت الكافي للدعاء لهم واحداَ واحداً؟!
أمواجٌ المعزّين ضاقت بها المقبرة، منهم مَنْ جاؤوا بدون نوايا أو مصالح شخصية، ومنهم مَنْ جاؤوا ليوزّعوا الابتسامات والمجاملات والتّصريحات الصحفية ويدّعون بأنهم أصدقائي ويروون قصصاً وروايات خياليّة من علاقاتي بهم. تبّاً لو كان الأموات ينطقون سيخجل الأحياء من كذبهم، خصوصا وأنّي رجلٌ مهمّ ونجمٌ مشهورٌ. وبفضل هذه الشهرة تطوّع صحافي مغمور لكتاب سيرتي الذاتية، بالرغم من أنّني لا أشمّه، لكنّ هذا الصحافي هو «صيّاد» جنائز المشاهير، ينتظر وفاة أيّ نجم من النجوم، ليركب على جثته ويمتصّ رحيق شهرته، ويتطوّع لنشر كتاب رديء عن حياته، ومكتبته تعجّ بالكتب عن سير المشاهير، كلّ كتاب هو «ملحمة» من الكذب والنفاق.. يسبق الدّيدان في بداية «كرنفال» افتراس لحم جثتي. رأيتُ ذلك الصحافي في الصفوف الأمامية من جنازتي، عيناه تكادان تنفجران من فرط البكاء. أقترحُ حتى في جنائز المشاهير ينبغي توزيع «أوسكار» لأفضل ممثّل كذّاب!!
اللعنة.. الأموات تُسْحَب منهم كلّ الحواسّ للاحتجاج أو فضح أمثال هؤلاء المنافقين. وما أثار غضبي هو نشر خبر تعزيتي بجريدة صفراء مديرها شخصيّاً كان يتبنّى حملة عدائية ضد الأفلام السينمائية الناجحة التي قمت بإخراجها.
هذه ليست جنازة عادية، بل هي فيلم يفوق الخيال، أنا هو المخرج والبطل. كلّ تلك الشخصيّات أنا من يحرّكها وفق سيناريو محبك. أنا الميّت الملفوف داخل كتّان أبيض أقوم بتصوير هذه الجنازة بجزئياتها وتفاصيلها، ألخّص لكم ما معنى أن تكون ميتاً، معناه أنّك تعيش أصدق لحظة في وجودك وأنتَ في مواجهة زمرة من الأحياء المنافقين والكاذبين.


الكاتب : توفيق مصباح

  

بتاريخ : 23/06/2023