دخل البيت شارداً، يحمل ملفاً بين يديه، يقلب صفحاته بعينين زائغتين، غير عابئ بفنجان القهوة الذي اعتاد أن يحتسيه ساخناً.
أدركت أن شيئاً جللاً يشغله، فتدفقت التخمينات في رأسي قبل أن أجرؤ على السؤال:
– ما الذي يقلقك؟
أجاب على عجل:
– رسا الاختيار على المغرب.
ثم أضاف متردداً، كأنه يختبر وقع كلماته عليّ:
– ما رأيك؟ أقدّم ترشيحي ونرحل إلى إفريقيا؟
فهمت أنه يقصد الكاميرون. لم أكن أعرف عنها سوى الاسم، ولاعب الكرة روجيه ميلا، والحكّاء الساخر سعيدو، الذي يروي الأمثال الإفريقية بابتسامة عريضة تسبق ضحك الجمهور.
كيف أشارك في قرار مصيري وأنا لا أملك سوى هذه المعرفة الهشّة؟ بدت استشارته أقرب إلى التنفيس منها إلى المشاورة، كأنه يحاول الهروب من ثقل الاختيار.
التقت نظراتنا مجدداً، فسألته:
– لا أعرف… وأنت، ما رأيك؟
تردّد طويلاً قبل أن يقول:
– ستكون إقامة طويلة الأمد.
– تتحدث وكأنك مقبل على مأزق، ألم تعتد السفر بفرح خارج المغرب؟
– لا سبب للقلق، ولا للابتهاج.
أشاح بوجهه متصنعاً الهدوء، بينما كنت أرى الحيرة تعصف به في صمته.
حين تسرح عيناه في فضاء بعيد، أعلم أنه يزن الاحتمالات في حوار لا يُسمع، فيتكاثر الخوف من المجهول في داخلي أكثر.
قبل حزم الحقائب، لجأت إلى الإنترنت أفتش عن ملامح الكاميرون.
بلد استوائي مطير، تغطي الغابات والأحراش نصف مساحته، وتنساب أنهاره وبحيراته بلا نهاية. المطر غزير، والحرارة مرتفعة، والبعوض سيّد المساء. كائن صغير، لا يكتفي بالإزعاج، بل يهدد الحياة بنقل الأمراض.
هناك، لم تبقَ المعلومة مجرد أسطر مقروءة عن البعوض، بل صارت واقعاً يطاردني.
تنشط مساء، التصقت بزجاج نافذة غرفة النوم، تحدّق بي بهدوء، لا تعبأ بمنديل أهشها به. تتحدى محاولاتي لطردها ثم تعود، يلح أزيزها على خوض المعركة بعناد. كأنها ندُّ حقيقي يفرض حضوره، يتربص بي كما أتربص به.
أتذكر رجلاً أنيقًا في قاعة الانتظار بمطار «دوالا»، يصلح ياقة قميصه تارة ويصفع عنقه ويديه بحركات سريعة تارة أخرى. لم يكن الأمر تعبيرًا عن انفعال أو قلق، بل كانت تلك الحركات وسيلته لحماية جسده قبل أن تغرس البعوضة شوكتها.
ورغم تلك الهواجس، ثمة ما يجذب القلب.
نظرات دافئة، ضحكات مشعة، حكايات تتدفق بزخم الأساطير والرسائل الإنسانية.
يتولى الآباء تربية أبنائهم بحزم، يحصّنونهم من غواية الرقمنة، ويحمون براءة طفولتهم.
على تخوم المدن، تمتد ظلال الحلم المكسور، تعيد حركة «بوكو حرام» ترتيب الحياة، تجذب الشباب التائهين بين الانتماء والاغتراب، وبين طرق معتمة وإغراءات مراوغة.
رغم التباين الظاهر، ثمة أوجه شبه كثيرة بيننا: خصومات تنقلب بسرعة إلى عناق، احتفالات باليوم العالمي للمرأة، ورود حمراء في سان فالنتاين، وتأرجح أبدي بين التقاليد العريقة وتحولات عالم سريع.
أهداني صديق كاميروني كتاباً بعنوان «اليد المبسوطة على الكاميرون»، وقال بصوت خافت وهو يسحبه من مكتبته: «في شمال إفريقيا بنى الاستعمار الحجر، أما هنا فقد وطئت أقدامه الأرض من أجل الشجر.»
خرجت مهرولة، أسابق ظلي إلى المركز الثقافي الفرنسي، أبحث عن كتاب أو مجلة عن إفريقيا.
في الطريق، ساقني العطش إلى مقهى فندق «أكوابالاص». رمقت المسبح الأنيق ينعش أسراراً ممدّدة تحت شمس حارقة، فشعرت أنني تخلصت أنا أيضاً من حرقة السؤال.
في المركز، شدني إعلان عن فيلم وثائقي عن الأبارتايد. جلست في القاعة، المرأة البيضاء الوحيدة، أصغي إلى شهادات الضحايا بصعوبة، وسط همهمات غاضبة وأصوات «مزمزة» حادّة تنفجر حين يعجز المرء عن التعبير.
تنمحي الفجائع مع الزمن، لكنها لا تُنسى.
جرح الأبارتايد ما زال حياً في ذاكرة القارة السمراء.
خرجت مثقلة بالأصوات والصور، كأنني أحمل على كتفي تاريخاً لا يخصني وحدي.
أدركت أن إفريقيا ليست فضاء مختلفاً، بل ذاكرة مشتركة، وأن الترحال بين بلدانها يذيب الحدود الضيقة.
ذلك المساء، انتظرت عودته من العمل، ابتسمت وقلت له بهدوء:
– لم أندم.
نص .. الذاكرة المشتركة

الكاتب : عائشة حسمي
بتاريخ : 13/10/2025