نصان سرديان

 

سفر بلا تذكرة

على متن القطار ، كان يستلٌ – بين الحين والآخر – صورتها القديمة ، من بين دفتي الكتاب . يتفرّس بأناة جسدها المرمريّ ؛ فيطالعه وجه دائري متلألئ كالبدر . ظفيرتان مجدولتان بعناية ؛ تنسدلان على الكتفين العريضتين ، كأنما ستائر حريرية مدلاة على أطراف بوابة قصر . نحرٌ قمحيّ تتراقص شعيراته الخفيفة بغنج، كسنابل ذهبية ناضجة .
ومن داخل المحجرين الفسيحين، تطل عينان عسليّتان يشعّ منهما وهج ونضارة …نهدان بارزان، كأنما خيمتان بدويتان متجاورتان فوق هضبة .. أشاح بوجهه ثم تنهّد عميقا، واصطكّت أسنانه على نحو لاإرادي. تدفقت الذكريات عبر وتينه، فامتلأ بُطيْن القلب شوقا.
مررّ أصابعه فوق حاجبيها الكثيفين وشفتيها المكتنزتين، ثم لثم الصورة بشفتيه المرتعشتين .. دسّ الصورة في مكانها بدُربة غريبة. ارتفع وجيب قلبه فجأة. وضع كفه تحت صدغه، ثم مال إلى جهة النافذة . أحس بخذر لذيذ يسيح، من كل مسام جسمه. فاعتراه ارتخاء عضوي .. أغمض عينيه قليلاً، لاستجداء ذكرى عذبة تروي ظمأ الفراق .لكن أمله قد خاب، بمجرد ما اكتشف متأخرا نضوب النبع.
أعاد فتح عينيه المضخمتين بندى الحنين، وبدأ يتأمل انسيابية مشاهد الحقول عبر النافذة . وبينما رقد معظم من في المقصورة ، بدا غير معني بتلك القيلولة. استشعر طنين صنوجه الداخلية يتصاعد ؛ من بين نتوءات النفس المتنائية . وإذ امتزج ذلك الأخير بصرير سكة القطار الحاد ، طفقت الأرض تميد تحت قدميه المرتعشتين. شعر بهما تغوصان شيئا فشيئا داخل الطمي . لقد بات الآن في أمس الحاجة إلى رؤية حبيبته حتى يستعيد توازنه الباطني….
* توضيب بصري لابد منه :
كل تشابه بين الأسماء والأحداث هو محض صدفة وحسب . ومن كان يرى غير ذلك ، فالأمر لا يغدو سوى مجرد تهيؤات وهلوسة ليس إلا .

مقبرة في هيأة مدينة !!!

ران عليهما كمد بالغ، وهما يحدجان بذهول لافت، المارة المكدودين على قارعة الطريق المطوقة بأشجار النخيل .. نزّت الروائح الزنخة من فضلات طيور أبي قردان ، التي اتخذت من الأشجار مأواها الدائم .. خلال الظهيرة تصهر أشعة الشمس الحارقة هذه المدينة على نحو هستيري ..وإذ تذوي المساحات الخضراء تحت وطأة الحرارة والإهمال المفرط ، يدغم جوّ جنائزي أرجاء المدينة .
بصوت متهدّج قال خالد:» أي لعنة أصابت هذه المدينة غير السعيدة ؟ « .. ثم أردف باحتدام : «أي عار هذا الذي طال المدينة بعدما صارت أماني الساكنة مجرد حديقة خضراء تصلح لتزجية الوقت ولعب الأطفال و بضعة أشجار وارفة الظلال !!
انعقف عنق محمد إلى الوراء ثم اندلقت القهوة دفعة واحدة عبر حنجرته الممددة .. تنحنح قليلا ثم انطلقت كلماته كسهام صقيلة: اسمع يا صديقي « هذه المدينة مقبرة كبيرة مترامية الأطراف .. إنها تضجّ بالكثير من الجثث التي عافتها الغربان ! ولا أعتقد بأن صرختك قد تجد آذانا صاغية .. لأن من بين هؤلاء الأموات من استحسن وضعية الرقاد تلك ..
وإلى جانب تلك الجثث الملقاة، ثمة عدد كبير من ماسحي الأحذية .. ولعل وظيفة هؤلاء هي تلميع أحذية حفّاري القبور بعد كل عملية ردم جماعي … إنهم يتهافتون بقهرية طافحة على مسح جزمات الحفارين الصفيقين !!
– هل فهمت الحكاية الآن ؟ ..
– أظنني فهمت درجة تعقيد حبكتها السردية ..
ثم أطبق الصمت من جديد ….


الكاتب : يوسف عيادي

  

بتاريخ : 31/08/2024