يعود الفضل في تقديم أجمل تأويل لإشكال العلاقة بين الحلم والتّضحية في الإسلام إلى المتصوّف الأندلسيّ ابن عربيّ (القرن الثّاني عشر). فقد أدرج هذا الإشكال في إطار نظريّته عن “حضرة الخيال”.
انطلق ابن عربيّ من جواب الابن : “يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ” ليُخضع مسألة التّضحية بأكملها إلى رهان تأويل الحلم، فهو يقول : “والولد عين أبيه. فما رأى [الوالد] يذبح سوى نفسه.”وفداه بذبح عظيم“فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان. وظهر بصورة ولد، بل بحكم ولد من هو عين الوالد.” وهكذا، فإنّ موضوع الحرمان الذي يخضع إليه الأب من حيث ماهيّته، وعن طريق الابن، هو الطّفل. ولا شكّ أنّ هذا التّأويل الذي قدّمه ابن عربيّ يندرج في إطار تقليد عريق في التّصوّف يقوم على اعتبار “التّضحية الكبرى” تضحية بالنّفس. والنّفس هي la psyché، وهي الجزء الحيوانيّ الفاني من الرّوح، وهي التي تظهر في صورة الحمل الوديع المقدّم قربانا، وعلى هذا النّحو يسلم الغنوصيّ نفسه إلى الفناء في الإلهيّ.
إلاّ أنّ طرافة ابن عربيّ تكمن في النّظريّة التي قدّمها في “الفصّ” المتعلّق بإسحاق. فهي من أرقى وألطف النّظريّات المؤوّلة للحلم المتعلّق بما يعتمل في الأب من شوق إلى قتل الطّفل، وللمرور من الفعل الخياليّ إلى الواقع :
واستغراق المتصوفة في الذهنية التي يمكن توصيفها بالمبالغة أدت بهم إلى حتمية اللجوء للإشارة بل أيضا لتشفير النصوص الصوفية ذاتها ، فهم عادة يستخدمون بوعي شديد تقنيات الإيحاء بالمعنى والاكتفاء بالنهايات المغلقة التي قد لا تتطلب تأويلا خاصا بمعنى آخر احتكار نهايات القول وترك فرصة التأويل لإحداثيات النص السردية التي تسبق النهاية . ولربما حجة المتصوفة في ذلك الإبهام مفادها ستر المعرفة والحقيقة عمن ليس أهلا لها . في حين أن بعض أهل الاستشراق ادعوا أن التجاء المتصوفة إلى استخدام الإشارة في العبارة والمعنى يرجع إلى تحاشيهم اللعنف اللغوي لدى الفقهاء إذ يرى أقطاب التصوف أن قطاعا كبيرا من هؤلاء الفقهاء يتربصون بكل لفظة قد تحتمل دلالات مغايرة للمعنى الذي أراده القطب الصوفي .
وهذه التقنية الإشارية نجم عنها ما عرف بالتفسير الصوفي الإشاري كما ورد بموسوعة التصوف الإسلامي (2009) والذي يعني تأويل الآيات القرآنية الكريمة على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات خفية تظهر لأرباب السلوك ، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة ، ويشير الدكتور جودة المهدي إلى أن حجة الإسلام الشيخ أبا حامد الغزالي احتج بالتفسير الإشاري الفيضي قائلا : ” فإن كان التأويل مسموعا كالتنزيل ومحفوظا مثله فما معنى تخصيصه بذلك ؟ ” . أي أن تخصيص حبر الأمة بتعليم التأويل دليل على خصوصية التأويل المفاض على القلب لخواص الأمة ، وذلك في مقابلة التفسير الظاهر المتداول بالسماع لعموم علمائها .
والتأويل الإشاري المعني بالسطور السالفة قوامه المعرفة الصوفية التي تعتمد وترتكز على أساس رصين أكد عليه الدكتور محفوظ عزام حينما رصد أساس المعرفة وصفاتها عند الصوفية في ” الميثاق ” الوارد في قوله تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ) ( الأعراف : 172 ) . وهذه المعرفة المقصودة هي التي تتصل بالتجربة أكثر من اتصالها بجوانب أخرى . وأبو القاسم الجنيد بن محمد الجنيد يقول في تأويله للآية الكريمة السابقة أن الله أخبر جل ذكره أنه خاطبهم وهم غير موجودين إلا بوجوده لهم ، إذ كانوا واجدين للحق من غير وجودهم لأنفسهم ، فكان الحق بالحق في ذلك موجودا بالمعنى الذي لا يعلمه غيره ، ولا يجده سواه ، فكان واجدا محيطا شاهدا عليهم .
ويمكن اعتماد فعل التأويل هذا كمرتبة أعلى من التفسير الظاهري المباشر ، وهذا يتوافق مع ما ذهب إليه ابن رشد في كونه ـ التأويل ـ فعلا معرفيا ينقل الإنسان من رتبة العامة إلى رتبة العلماء وبذلك فابن رشد باتجاهه صوب التأويل يسعى لتكوين وتأسيس السلطة العلمية للعلماء في مجتمعات العامة ، بخلاف الفقيه ابن حزم الذي لا يرتضي بالتأويل سبيلا بل يسير في كنف التفسير الظاهري المباشر الذي يرفض توزيع النص القرآني إلى ظاهر وباطن ، وهو يرى أيضا أن النص وحدة لغوية متكاملة وثابتة يفسر بعضها بعضا دون اللجوء إلى التأويل .
وإذا كنا نرصد في سطورنا هذه التقنية الصوفية لاستخدام الإشارات والتأويلات الخاصة بهم ، فمن الضرورة وبالغ الأمانة أن نرجع صعوبة الخطاب الصوفي سواء على مستويات الفهم والإدراك والتحليل إلى عدم اتساع اللغة المتداولة لتعبيرات الصوفيين أنفسهم ، بجانب ثمة عوامل أخرى يمكن إرجاعها إلى أن التصوف نفسه يمثل حركة ثقافية بالإضافة إلى كونها حركة تجديدية كما قلنا ، وبالتالي فهي ثقافة ضد الثقافة الجمعية التقليدية التي تحظى برضا كبير من العامة وفقا لرضا فقهاء العصر أنفسهم .
لكننا أمام خطاب متعدد الاتجاهات ،كونه يعتمد اعتمادا رئيسا على تقنية الرمز الذي يعد أحد هذه الجوانب الأكثر حضوراً في نصوص المتصوفة ، بل إن الرمز يمثل أحد أبرز السمات المميزة للتصوف الإسلامي ، ولطالما عبَّر الصوفيون عن أذواقهم وتجاربهم الروحية عن طريق التلميح دون التصريح ، والإشارة دون ذكر العبارة ، أو استخدام لغة مغايرة لما يستعمله العوام من مفردات كاشفة ، وأحياناً كثيرة يلجأ الصوفي إلى استعمال اللغة الرمزية الأكثر خصوصية هرباً من الفهم الضيق وفقر التأوي الذي يعاني منه بعض متلقي النص الصوفي ، وكانت مشكلة المتصوفة أن نصوصهم تتطلب قدراً عالياً من امتلاك اللغة ودلالة مفرداتها لدى المريدين والمتلقيين من ناحية ، وامتلاكهم ذائقة تمكنهم من الإحساس بالنص وصاحبه من ناحية أخرى . وربما أصاب مؤرخو التصوف الإسلامي حينما أشاروا إلى أن استخدام الصوفي للغة الرمزية جاء مناسباً للتعبير عن المواجيد والأحوال والمقامات التي لا تناسبها لغة اعتيادية كالجذب والاصطلاء والمحبة والوجد المطلق والفناء ، في نفس الوقت الذي أشاروا فيه إلى أن استعمال الرمز قُصِدَ به الإشارة إلى حقائق روحية ، وهذه اللغة الرمزية قد نالت من الصوفيين كثيراً حتى ألصق ببعضهم تهم الزندقة والخروج عن الدين .
ورمزية الصوفية تمثل دعوة للتحرر والخلاص ـ عادة ـ من الواقع الثقافي ، لذا فالخطاب الصوفي جدلية قائمة بين الواقع والتأويل اللانهائي له ، وهذه الجدلية هي الاستثناء الذي سمح للخطاب ـ نفسه ـ أن يجعل من التجربة الصوفية لأصحابها لتصبح خطابا جمعيا في نفس الوقت . ولذلك فإنه من قبيل الخطأ أن تتم قراءة نصوص الصوفية وفق سياقات مرجعية أو تاريخية فهذا محض خطأ لا يعتريه الصواب أبدا ، لاعتماد النصوص على إشارات ولغة رمزية قد تستشرف مستقبلا أو تتناول قضية معرفية متنقلة بين الماضي الضارب في القدم والحاضر الآني ، لذلك نصوص الصوفية رغم قدمها فإنها تعد نصوصا معاصرة ترفض أدلجة الامتدادات التاريخية ، فضلا عن هذه الرمزية واللغة الإشارية ، فمن العبث ممارسة حيلة الإسقاط الأيديولوجي على النصوص الصوفية ، فالصوفي عكس الأديب ، لا يبحث عن أسلوب أو طريقة أو كيفية لإرضاء ذوق الجمهور .

