يعود الفضل في تقديم أجمل تأويل لإشكال العلاقة بين الحلم والتّضحية في الإسلام إلى المتصوّف الأندلسيّ ابن عربيّ (القرن الثّاني عشر). فقد أدرج هذا الإشكال في إطار نظريّته عن “حضرة الخيال”.
انطلق ابن عربيّ من جواب الابن : “يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ” ليُخضع مسألة التّضحية بأكملها إلى رهان تأويل الحلم، فهو يقول : “والولد عين أبيه. فما رأى [الوالد] يذبح سوى نفسه.”وفداه بذبح عظيم“فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان. وظهر بصورة ولد، بل بحكم ولد من هو عين الوالد.” وهكذا، فإنّ موضوع الحرمان الذي يخضع إليه الأب من حيث ماهيّته، وعن طريق الابن، هو الطّفل. ولا شكّ أنّ هذا التّأويل الذي قدّمه ابن عربيّ يندرج في إطار تقليد عريق في التّصوّف يقوم على اعتبار “التّضحية الكبرى” تضحية بالنّفس. والنّفس هي la psyché، وهي الجزء الحيوانيّ الفاني من الرّوح، وهي التي تظهر في صورة الحمل الوديع المقدّم قربانا، وعلى هذا النّحو يسلم الغنوصيّ نفسه إلى الفناء في الإلهيّ.
إلاّ أنّ طرافة ابن عربيّ تكمن في النّظريّة التي قدّمها في “الفصّ” المتعلّق بإسحاق. فهي من أرقى وألطف النّظريّات المؤوّلة للحلم المتعلّق بما يعتمل في الأب من شوق إلى قتل الطّفل، وللمرور من الفعل الخياليّ إلى الواقع :
ترجع أهمية كتاب «لطائف الإشارات» إلى ثلاثة عوامل رئيسية:
أولا: أنه من الناحية الموضوعية يعالج قضية هامة وهى تفسير القرآن الكريم على طريقة أرباب المجاهدات والأحوال، وهذا منهج في التفسير نادر في المكتبة العربية، فأنت تستطيع أن تجد عددا غير قليل من التفاسير التي تتناول النص القرآنى فى ضوء اللغة العربية أو الإعراب أو البلاغة أو الفقه أو أسباب النزول أو التشريع أو القصص والأخبار أو نحو ذلك مما هو مألوف ومعروف منذ نزل القرآن ومنذ ظهرت الاتجاهات المختلفة فى دراسته، ويمكن أن تجد عدة مصنفات لعدة شخصيات فى كل لون من هذه الألوان بحيث يغنيك واحد أو اثنان منها عمّا سواهما.
فإذا بحثت عن التفسير الصوفي ألفيته- على العكس من ذلك- نادرا، وألفيت الإنتاج فيه غير شاف، فإمّا أن يكون مقتضبا «كتفسير القرآن العظيم» لسهل بن عبد الله التستري (المتوفى سنة 283 هـ) وقد طبعته السعادة فى عام 1908 م فيما لا يزيد على مائتى صفحة، ويستطيع القارئ أن يتصور كيف يمكن لمائتى صفحة أن تعنى بدراسة القرآن على نحو مرض.
وإمّا أن يكون مطعونا فيه كما هو الشأن فى «حقائق التفسير» لأبى عبد الرحمن السّلمى (المتوفى سنة 412 هـ) الذي يقول فى وصفه- ونحن نقتطف منه هذه الفقرة لنوضّح ما قلناه آنفا عن ندرة التفسير الصوفي: «لمّا رأيت المتوسمين بعلوم الظاهر قد سبقوا فى أنواع فرائد القرآن من قراءات وتفاسير ومشكلات وأحكام وإعراب ولغة ومجمل ومفضّل، وناسخ، ومنسوخ، ولم يشتغل أحد منهم بفهم الخطاب على لسان الحقيقة إلا آيات متفرقة أحببت أن أجمع حروفا أستحسنها من ذلك وأضمّ أقوال مشايخ أهل الحقيقة إلى ذلك وأرتبه على السور حسب وسعى وطاقتى» [حقائق التفسير للسلمى مخطوطة 150 تفسير دار الكتب ص 221] .
وعند ما ظهر حقائق التفسير، أحدث ضجة كبرى، فقد لقى معارضات شديدة من معاصريه وممن أتوا بعده، فانّهم بالابتداع والتحريف والقرمطة والتشيع ووضع الأحاديث على الصوفية يقول ابن الصلاح: (وجدت عن الإمام الواحدي أنه قد صنّف أبو عبد الرحمن السلمى حقائق التفسير، فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر) وقال الذهبي فى «تذكرته» : أتى السّلمى فى «حقائقه» بمصائب وتأويلات للباطنية نسأل الله العافية تذكرة الحفاظ ج 3 ص 249.
ووصفه ابن تيمية بالكذب: (منهاج السنة ج 4 ص 155) .
وعدّ السيوطي تفسيره ضمن التفاسير المبتدعة معللا لذلك بقوله: «…. وإنما أوردته فى هذا القسم لأنه غير محمود (طبقات المفسرين للسيوطى ط ليدن سنة 1839 ص 31) .
أما إخوان الصفا الذين يحشرهم جولد تسيهر ضمن مفسرى الصوفية فى كتابه (مذاهب التفسير الإسلامى) ، فهم أولا غير صوفية وإنما هم جماعة من المشتغلين بالفلسفة ذوى أغراض بعيدة خبيثة، ضمت صفوفهم لفيفا من الناس مختلفى النزعات والثقافات حتى كان من بينهم ملاحدة، فإحالتهم على الصوفية تجن على الحقيقة وعلى التاريخ وعلى التصوف، ولسنا نبرىء جولد تسيهر من ذلك- مع تقديرنا لكتابه القيّم.
وحتى القرن الخامس الهجري لا نجد كما يقول صاحب (تاريخ أدبيات در ايران) : «أهمّ من حقائق السلمى ولطائف الإشارات للقشيرى وتفسير سورة الإخلاص للغزالى» [تاريخ أدبيات در ايران للدكتور ذبيح الله صفا (مكتوب بالفارسية) فصل التفسير صفحة 256، 257 .
وبعد ذلك بنحو قرن نلتقى بتفسير ابن عربى الذي هو قبل كل شىء مطعون فى نسبته إليه، وفى ذلك يقول الشيخ محمد عبده (اشتبه على الناس فيه كلام الباطنية بكلام الصوفية، وينسبونه للشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى، وإنما هو للقاشانى الباطني الشهير) ويضيف الأستاذ الإمام (وفيه من النزعات ما يتبرأ منه دين الله وكتابه العزيز) تفسير المنار ج 1 ص 18) .