نظرات في التصوف موت المتأله – 2 – نظرات في التصوف موت المتأله

الحلّاج شخصية إشكالية قدمت ملحمة مأساوية تحيلنا لرؤية غياب العدل قبل المأساة وأثناءها، كما أنها تطرح فهما مغايرا في مسائل عديدة استعصت على الفهم التقليدي ـ الذي يأخذ بظاهر الأمور دون القدرة على النفاذ إلى سرهاـ في معادلة ظالمة تضع منْ لديه القدرة على الطيران في علياء المعرفة، بموازاة منْ لا يمكنه إلا أن يكون زاحفا، بل ترجّح الثاني على الأوّل.

 

يقدّم كتاب (هكذا تكلم الحلّاج – النصوص الصوفية الكاملة) دراسة وتحقيق قاسم محمد عباس الذي صدر مؤخرا عن دار المدى للثقافة والنشر، تثقيفا لبعض المفاهيم الدقيقة التي تعتمد تجربة وفكر الحلّاج وأبعاد عقيدته وعرض فكر الحلّاج كما هو باعتباره حلقة لا تنفصل بأي حال عن حلقات الروحانية الإسلامية لغرض إلحاقها بروحانيات سابقة عليها، فمنطلق الكتاب مرتبط بنقد جهود الاستشراق الذي توجّه مباشرة إلى النص الصوفي، وتحديدا جهود لويس ماسنيون ومن دار في فلك أطروحته، حيث إنّها أثّرت إلى حدّ بعيد في تفاصيل تلقّي الإسلام وروحانيته لدى الفكر الغربي، كما إنه استثنى جهود الباحثين العرب بسبب أنها استجابت للموقف الاستشراقي وتأثرت به، وتوزعت طبقا لمواقف الاستشراق ذاته.
كما ألقى الضوء على آراء رينولد نيكلسون وتعليقاته على وجهة نظر فون كريمر وبيّن اللُبس الذي وقع فيه وخلطه بين نظرية فلسفية مثل وحدة الوجود التي نسبها للحلاج والتي ظهرت بعده بوقت طويل وتصور صوفي مثل وحدة الشهود لنتبيّن أنّ كريمر لم يتوفر على رؤية صوفية تميّز المسافة الدقيقة التي تفصل بين المذهبين. وهناك أيضا من نظر إلى الحلّاج باعتباره نصرانيا من الداخل، وهذا جزء من رؤية ماسنيون المرتبطة إلى حدّ ما بموقف ماكس هرتون، الذي قدّم اعتراضات منطقية على محاولة ماسينون. وقد كتب ماكس هرتون مقالتين مهمتين في عامي 1927 و1928 واندفع في إحداها إلى إثبات الأصل الهندي لتصوف الحلّاج، وحاول في المقالة الثانية أن يؤكد أطروحته الأولى عبر بحث المصطلحات الصوفية الفارسية بحثا فيلولوجيا لينتهي إلى أنّ التصوف الإسلامي هو مذهب الفيدانتا، وحسّم مرجعيته البرهمانية، وتعامل مع الحلّاج كمفكر برهماني، ليتوسع في ما بعد في مفهوم نفي العالم، ونظرية المايا كونهما ركنين أساسيين يقوم عليهما تصوف الحلّاج، إذ يؤكد هرتون أن الأمر: (لا يتعلق بإثبات تلاقٍ أو توازٍ بين ثقافتين، آو باستيعاب خارجي مادي، بل إن الأمر هو فعليا وبمعنى دقيق تطابق فكري من الأصل إلى الفرع، فتجربة الحلّاج هي تجربة ممثلة لتجربة الكل الآسيوية). مبررا تصوره عبر محاور تشكل في نتائجها أدلة تعلل منطلقه، فمفهوم طبقات الوجود يعد الحجة الأساسية لإسناده تصوره، بفهم أنه إذا كانت الطبقة الأولى من الوجود والطبقة الثانية موجودتين، فإن الشخصية الإنسانية ذاتها يتوجب أن تكون دالّة عليهما. ويراد بالطبقتين: الطبقة الطبيعية والطبقة ما بعد الطبيعية، حيث ينبغي أن تكون الطبقة الأخيرة في حالة تطابق مع الذات الأصلية بتصور أنه لا شيء يشاركها الوجود الحقيقي. يشير الكاتب إلى أنه في الفترة التي عاشها الحلّاج كانت عقيدة التوحيد تناقش من قبل الجماعات الدينية جميعها، ولاسيّما المعتزلة الذين كانت طروحاتهم حول التوحيد تهيمن على كل المدارس، حتى سُمّوا بأهل التوحيد، فقد تناولوا هذا الموضوع عبر منهجهم العقلي الذي أدى إلى استنتاجات معقدة اعترض عليها المتصوفة، بسبب أنّهم يعتقدون من غير الممكن تعريف توحيد الله، فلهذا تناول الحلّاج التوحيد الذي يلغي كلّ موجود آخر، التوحيد الذي يتصور العالم كله وجودا واحدا، وهذا الموقف كما يتضح يعارض التأويل المسيحي، وهذا ما أشّره هرتون على ماسنيون في ما بعد وهو اعتراض مضموني واضح الأبعاد أعاق محاولة ماسنيون. يقول الكاتب في قراءته التأملية لموت المتأله: إن أي محاولة لتوثيق حياة الحلّاج تعني القيام بتوثيق فكري لتاريخ الولاية الصوفية وتلمّس الجذر الأول للفكر الصوفي الإسلامي بسبب أنّ المراجعة التاريخية لحياة الحلّاج إنما تعني استحضار ما هو عقائدي وتاريخي وسياسي متعلق بمحاكمة الولاية الصوفية، أو مقاضاة الشخصية المتألهة في الإسلام بفهم أنها تدل على الشاهد الفاعل على الحقيقة في الإلهيات الإسلامية التي ظهرت في شخصية صوفية توفر لها أن تزجّ الفكر الإسلامي في معركة فكرية/ روحية أدت نتائجها إلى زعزعة العالم الإسلامي والأهم من ذلك هو أن منعطفات هذه الحياة ما زالت مطروحة بحدة إلى الآن أمام ما يمكن أن نسميه بـ (موقع التناقض) في الفكر الإسلامي. فعلى سبيل المثال كان الحلّاج يرى الحجّ في حدّ ذاته رمز اتّحاد البشرية مع لله، رغم عدم انفصال البشرية عنه، وعدم اتصالها به لكن بمجرد تحول هذا الرمز إلى حقيقة في التصور الحلّاجي لم يعد هناك أي معنى لشد الرحال إلى الكعبة، قائلا:
للناس حجّ ولي حجٌّ إلى سكني
تهدى الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي
تطوف بالبيت قوم لا بجارحة
بالله طافوا فأغناهم عن الحــــرم
كما اعتقد الحلّاج أن الصيغة الجامدة للشريعة هي مكر إلهي يستدعي فهم أن جوهر الدين شيء يمكن امتلاكه من خلال هذه النصوص، وهي فكرة كان البسطامي لامس أقصى نتائجها كما يقول لويس كارديه، ويُلخص هذا الموقف بتحطيم الشريعة عن طريق الإيمان، لأنه بتجاوز الشريعة إلى نقيضها سيؤكد دور الشريعة الحقيقي بفهم الوصول إلى حقيقة الشريعة وليس تحطيمها:
لست بالتوحيد ألــــهو
غير أني عنه أســـهو
كيف أسهو كيف ألـــهو
وصحيح أنني هــــو
وفي نطاق مادة الكتاب يؤكد الكاتب إن فكرة جمع كل ما تركه الحلّاج من نتاج في كتاب واحد كانت بالنسبة له أشبه بالحلم الذي يصعب تحقيقه. فقد ترك الحلّاج تفسيرا نادرا للقرآن ومجموعة كبيرة من الأقوال والمرويات، قد تفوق في أهميتها ما نشر من نتاجه. فالتفسير الذي تركه الحلّاج يتضمن مواقفه المتناثرة في الطواسين ويشكل هذا التفسير حلقة مهمة ومؤثرة في تاريخ التفسير الباطني، بسبب إنه سابق على تفسير القشيري ومن تبعه في هذا الاتجاه من التفسير. وهو من جهة أخرى يسلط الضوء على جانب مهم من فكر الحلّاج وعقيدته الصوفية، ومن هنا تأثر فهم تصوف الحلّاج كثيرا بغياب هذا النص الأساسي الذي قد يستكمل لنا ما نقص من مشروعه الصوفي، ثم أضاف الكاتب (المرويات) التي تعد من النصوص النادرة في التصوف الإسلامي قاطبة، بسبب أنه لم يسبق لصوفي آخر أن كتب مثل هذه المرويات، التي هي عبارة عن مجموعة من الأحاديث القدسية كتبها الحلّاج لتلاميذه وهو في السجن، وهي أحاديث تقترب في بنيتها وأسلوبها من الأحاديث القدسية إلا أن الإسناد فيها مجموعة من الظواهر الطبيعية والأماكن المقدسة والأزمنة والمفاهيم وأسماء الملائكة وحتى الظواهر الجغرافية والطيور والحواس والأهلة وأسماء الشهر وغيرها. وهذه المرويات تجربة صوفية غريبة عبّر عنها الحلّاج بمجموعة من الأحاديث القدسية تفارق الحديث النبوي على مستوى الإسناد، وتختلف في بنيتها وأسلوبها تفكيرها عن الحديث الشائع في متنه وسنده، لذا سماها الكاتب بالمرويات مفارقة لمصطلح الحديث الذي تشترك معه على مستوى وجود متن وسند. ثُم نصل إلى الجزء الأكبر والأوسع وهو الشذرات التي وصل عددها إلى 241 شذرة تعد من أجمل الكتابات الصوفية وأكثرها التماعا في تاريخ الأدبيات الصوفية، وهذه الشذرات تستكمل لنا الصورة النهائية لتصوف الحلّاج وتجربته وشخصيته، بسبب أنها تتضمن مراسلات الحلّاج الشخصية، ومواقفه من التوحيد والشريعة والتصوف ومعظم مراحل الطريق الصوفي من أحوال ومقامات، فضلا عن الكثير من الآراء حول إشكاليات أساسية في الفكر الإسلامي في مجال الكلام والفلسفة والعقائد. ويأتي ترتيب كتاب (هكذا تكلم الحلّاج –النصوص الصوفية الكاملة) بالشكل التالي:
1- التفسير.
2- الطواسين.
3- بستان المعرفة.
4- الأقوال:نصوص الولاية.
5- المرويات.
6- الديوان.
ولا بدّ في الختام الإشارة إلى أنّ الهوامش التحقيقية عن الأقوال والديوان والتفسير تمّ إبعادها – كما ذكر الكاتب – بسبب حجمها الذي سيضاعف حجم الكتاب من جهة ويتعب القارئ ويشغله عن الاهتمام بالنص من جهة أخرى خاصة أن الديوان قد أُشبع تحقيقا.


الكاتب : محسن حربي

  

بتاريخ : 16/06/2020