أثناء إخراجه لفيلم ‘ضوء الشتاء’، كان بيرغمان يتدخل بحسم في كل المراحل. لقد كتب سيناريوه الخاص، وقام باختيار بعض الممثلين وتدريبهم، وراقب المونطاج والميكساج، واشتغل عن قرب مع التقنيين السينمائيين. لقد مارس أيضا أعلى مستوى من التحكم في اختيار فضاءات التصوير والأكسسوارات والماكياج. حتى تلك العناصر في الفيلم التي لم يتمكن من إبداعها بنفسه – كموسيقى باخ – تملَّكها من أجل غاية خاصة. لم يكن بيرغمان في أي لحظة من لحظات الإنتاج مرغما على تغيير تصميمه الإبداعي. لتوضيح التوازن الذي حققه بيرغمان بين التحكم والتعاون، يقارنه ليفينغسطون برئيس مشروع البناء. وكما هو الشأن بالنسبة لرئيس الأشغال الذي يتحدث إلى فريقه عن تصميم البناء، ثم يكلف كل واحد بإنجاز مهامه تحت إدارته، يقتسم بيرغمان رؤيته الفنيه مع مساعديه من أجل تقييد وتنسيق أدوارهم الخاصة11.
حين يدعي ليفيىغستون وجود مؤلف وحيد عند بيرغمان، فإنه لا يغفل وجود عدد من الأشخاص الموهوبين المشتغلين في الفيلم نفسه. غير أن ما يقصده هو أن المساعدين الآخرين اشتغلوا لصناعة فيلم بيرغمان، لإنجاز رؤيته الفنية. يقصد، بعبارة أخرى، أن المساهمة الفنية في مشروع، لا تجعل صاحبها مؤلفا مشتركا، ما لم يمارس تحكما حاسما في العملية الإبداعية، وما لم يكن مسؤولا عنها12. ومع ذلك، فهذا التمييز بين المساهم الفني غير المتحكم وبين المؤلف لا يحظى باعتراف الجميع. فـ غوت، على الخصوص، يعتبر ‘كل شخص قام بإحداث تغيير فني هام على العمل’ مستحقا بالمشاركة في ملكيته. في التشكيل، من الشائع الآن وصف العمل، ليس فقط بالإشارة إلى الفنان، رامبدنت مثلا، بل بالإشارة إلى محترف الفنان أيضا. وبالرغم من وجود التعاون في العديد من الفنون، فإن غوت يذهب إلى التركيز على أن الآثار الفنية للتعاون في الفيلم أكثر بروزا13.
لنقارن بين الفيلم وبين الهندسة المعمارية: حين نقول إن البناية من إبداع فرانك غهري، فإننا نعني أن غهري هو المؤلف الوحيد، وإن لم يساهم في إنجاز البناية الحقيقية. البناء ليس مؤلفا مشتركا لأن عمله يقتصر فقط على إنجاز تصميم غهري. وحين يحدد المهندس الأبعاد الدقيقة لبنايته، والمعدات الدقيقة التي ستستعمل في بنائها، يترك الفيلم أن يترك لمساعديه إمكانية اتخاذ قرار كيفية تنفيذ المهام الموكولة إليهم. هناك فقط بعدان ممكنان للتغيرات في الكيفية التي تنجز بها المهام؛ و لا يمكن عمليا، لشخص وحيد أن يعطي تعليمات إخراجية دقيقة كفاية للتلاؤم مع كل التغيرات الممكنة. تتضح هذه النقطة جيدا في أداء الممثلين: مهما كان عدد التعليمات الإخراجية، فإنه لا يستطيع التحكم بدقة في الكيفية التي ينطق بها الممثل حواره، والفروق الدقيقة للانفعال والمعنى الذي تحمله. لا يمكن للمخرج ببساطة أن يحرك الممثلين كالدمى من أجل تحقيق رؤيته الفنية، بل يمكن لأداء الممثل أن يساهم بقوة في القيمة الجمالية للفيلم، ولنأحذ مثلا الأداء المميز لـ دانيال داي لويس في فيلم « سيكون هناك دم» (2008). يستنتج غوت أن بعض الممثلين، على الأقل، مؤلفون مشتركون إلى جانب المخرج14.
في المقابل، لا يصدق نفس الشيء على ممثل المسرح. يشير غوت إلى فرق أنطولوجي جوهري بين الفيلم، كفن تسجيلي سمعي بصري، وبين المسرح كفن أدبي، وهذا يفسر لماذا لا يكون الممثل المسرحي عادة مؤلفا مشتركا للمسرحية التي يمثل فيها. ما دامت المسرحية تكتسب فرديتها من النص المسرحي، فإن الكاتب المسرحي يحدد دقائق الشخصيات قبل أن تجسّد من طرف مختلف الممثلين. لا شك أن التجسيد الأول لشخصية عطيل من طرف الممثل الشهير لعصر النهضة، ريتشارد بورباج، يختلف كثيرا عن التجسيد الشهير في بداية القرن العشرين من طرف بول روبسون. لكن يبقى أن كلا الممثليْن قاما بتجسيد نفس الشخصية من مسرحية شكسبير. في المقابل، لا يمكن أن تحدد شخصية الفيلم، كليا، من طرف كاتب السيناريو أو المخرج قبل أن يتم تجسيدها من طرف الممثل على الكاميرا. يرجع هذا إلى أن الأداء المسجل جزء مما يجعل من الفيلم فيلما؛ أي سلسلة من الصور المتحركة، مصحوبة بالأصوات (في الغالب). ما دام الفيلم لا يمكن أن ينجز، بل إنه يتضمن بالأحرى إنجازات مسجلة؛ وما دام الممثلون يقدمون إنجازات تصير، بعد التسجيل، جزءا من الفيلم كموضوع للتذوق الجمالي، فإن غوت يدافع على أن الممثلين نوع من المتعاونين في الفيلم، الجديرين بالمطالبة بصفة المؤلف.
في الوقت الذي يذهب غوت إلى اعتبار مؤلف الفيلم أي شخص يلعب في إنتاج الفيلم دورا مؤثرا جماليا، يقتصر ليفينغسطون فقط على اعتبار مؤلف الفيلم شخصا، يجعل الفيلم حاملا مباشرا وشخصيا للتعبير. يعني هذا، إجمالا، أن غوت سيعتبر عددا أكبر من الأفلام الجماعية الصنع مؤلفةً، بخلاف ليفينغسطون. لكن الأفلام ذات المؤلف الواحد الفعلي ستكون عنده أقل بكثير مما هي عند ليفينغسطون.
في حالة إنتاج فيلم الأستوديو واسع النطاق، بل وحتى في حالة الإنتاج التجريبي أو الهاوي أو المستقل ضيق النطاق، يمكن للفرد التخلي عن محاولة تحديد مؤلف فعلي وفردي للفيلم، ويعمل، بدلا من ذلك، على بناء مؤلف يساعد على التأويل. لكن هل يمكننا فعل هذا؟ هل يمكن أن نبني، بوضوح ونفعية، مؤلفا وحيدا لفيلم منتج بتعاون كامل، بالطريقة التي اقترحها نيهاماس لبناء مؤلف وحيد للعمل الأدبي؟ للإجابة على هذا السؤال علينا تقويم الشكل الذي اتخذته الاستراتيجية البنائية في نظرية الفيلم. ثم ننظر في بعض الاعتراضات العامة على الاستراتيجية البنائية.
في نهاية الستينات من القرن العشرين، وتحت تأثير ليفي ستراوس، الأنثربولوجي البنيوي الفرنسي، طوّر مجموعة من منظري الفيلم البريطانيين مقاربة جديدة لتأويل الفيلم، أطلق عليها المؤلف البنيوي. يعتبر المؤلف في هذه المقاربة منتوجا ومجالا للتحليل البنيوي في نفس الآن. في نموذج ليفي ستراوس يقوم التحليل البنيوي على رصد التعبيرات الثقافية المركبة للثنائيات الضدية المتنوعة التي تُبنين تفكيرنا. تطبيقا لهذا النموذج على الفيلم، حاول أصحاب مفهوم «المؤلف البنيوي» تحديد عناصر الثنائيات الأساس التي تميز جسم العمل، وتتعقب تطور تعبيره. الطريقة التي يدخل بها «المؤلف البنيوي» إلى هذه المقاربة تتمثل في كونه مصدرا لبنية التفكير المعبر عنها في بنية مجموعة معينة من الأفلام. وتبعا لواحد من رواد المؤلف البنيوي، بيتر وولن، يتحدد المؤلف في ‘ اللاوعي الفيلمي’ أو في التعبير عنه في البنية التيماتية الثنائية للفيلم. وإذن، فالتقابلات الأساسية بين الحديقة والبرية، وبين الطبيعة والثقافة التي تميز الأفلام المنجزة من طرف جون فورد، هي التي تنسب إليه صفة المؤلف، أي إلى العقل المبدع وليس إلى الشخص الفعلي، فورد، ما دامت علاقته مع الفيلم تتم عبر وساطة أعمال متعاونين آخرين15.
إن مقاربة المؤلف البنيوي، حسب وولن، تقوي عددا من الأحكام المشتركة حول عمل مختلف المخرجين. ولا يفسر الاهتمام النقدي الواسع بأفلام فورد إلا غِناها وتعقدها، على مستوى التحليل البنيوي. يعني هذا، في المقابل، أن قيمة فيلم ك (الباحثون 1956) ترتبط بقدرته على إعادة هيكلة الثقافة والتفكير. هكذا يخلص وولن إلى أن العمل القيم، أو القوي على الأقل، هو الذي يتحدى السَّنَن، ويتجاوز الطرق القائمة للقراءة والمشاهدة، ليس من أجل إنشاء طرق جديدة فحسب، بل لخلق حوار مستمر منتج ومنظم16.
نعود الآن إلى السؤال حول ما يجعل الفيلم جيدا أو رديئا بالنسبة للمهتم بالتأليف في الفصل الموالي، حيث سنفحص طبيعة ما يسمى بـ «السَّنن» السينمائي. علينا أن نفحص في البداية ما إذا كانت الاستراتيجية العامة الخلفية للمؤلف البنيوي استراتيجيةً جيدة. (استراتيجية بناء المؤلف كجزء من تأويل الفيلم). يرجع السبب الذي يجعلنا نقوِّم الاستراتيجية العامة، وليس تفاصيل المؤلف البنيوي، يرجع إلى أن هذا الأخير، لا يمثل في تاريخ نظرية الفيلم، أكثر من قنطرة مؤقتة بين منهجيتين متقابلتين. ذلك أن انجراف مقولة مؤلف الفيلم مع موجة ما بعد الحداثة، أدت إلى التخلي عن مقولة المؤلف البنيوي قبل أن يتم تطويرها بالكامل.
لنرجع إلى سؤال أكثر عمومية: هل يمكننا بناء مؤلف الفيلم بالفعل؟ يقترح نيهاماس أن القيام بهذا الشيء، في التأويل الأدبي، يأتي كنتيجة حتمية لتفسير النص باعتباره عملا – نتيجةَ فعل متخيل. لكن ماذا عن تأويل الفيلم؟. هل هي أيضا نفس الحالة التي نتمكن فيها من تفسير فيلم بافتراض صانع متخيل للفيلم، يحركه دافعٌ خاص؟. يرجعنا هذا مرة أخرى إلى الوراء، ليضعنا امام طبيعة صناعة الفيلم التعاونية والمعقدة جدا. حتى وإن كنا لا نعرف الشيء الكثير عن صناعة الفيلم، فإن الفيلم نفسه يظهر، بفضل التركيب المتنوع لعناصره البصرية والسمعية، جانبا من ضخامة مهمة إبداعه. لكن إذا كان لنا علم بالأصول التعاونية للفيلم، سيكون من الصعب وغير المجدي أن نسند العمل النهائي إلى مؤلف وحيد متخيل. سيكون علينا أن ننسب إلى هذا المؤلف المسؤولية عن كل جانب من الفيلم من تسجيله الموسيقي إلى إضاءته وجوانبه السينمائية، بل وحتى أداء الممثلين. بعد ذلك سيكون علينا، كما يقترح غوت، أن نتعامل مع هذا الكائن الفضائي الذي يملك قدرات خارقة، كالقدرة على التحكم في الممثلين كَدُمى، ويخطط في نفس الوقت لكل حركات الكاميرا، مما يجعلنا غير قادرين على فهم دافعه كمؤلف. وتبعا لـ نيهاماس، فإن الهدف الأكبر من بناء المؤلف هو تفسير العمل كمنتوج لفعل خاص، يُنسب إلى فاعل من نوع خاص، يملك دافعا خاصا.
يمكن للصعوبة في تصور مؤلف وحيد وضمني لفيلم جماعي الصنع، أن تفسر الغموض في تصور وولن للمؤلف باعتباره ‘محفزا لا واعيا’، على أساسه تسمى البنية المحددة لمجموعة من الأفلام. صحيح أنه من الصعب إدراك ما يجعل وولن منزعجا، كليا، من المؤلف على الإطلاق، إذا كان يهتم بالسَّنن وبالبنيات. أما غوت، فيبقى ، مع ذلك حساسا للطريقة التي توجه تأويل الفيلم، اعتمادا على علامات للذكاء الإبداعي في العمل نفسه، غير أنه يؤكد على أن هذه العلامات لا تحتاج إلى أن تكون لمؤلف وحيد؛ بل يمكنها أن تكون علامات لمؤلفين متعددين باعتبارهم تنسيقا لأنشطتهم الإبداعية بكثير أو قليل من النجاح، وفي فيلم أكثر أو أقل تماسكا.
حتى لو كان من الصعب، في حالة فيلم الأستوديو، تخيل مؤلف وحيد، فإن منهج التأويل المتضمن لبناء المؤلفين يظل مسموحا به عند غوت. من جانب آخر، لا يبدي غوت اهتماما كبيرا باعتماد هذا المنهج: سواء في حالة وجود مؤلف فعلي للفيلم، حيث لا حاجة إلى بناء مؤلف؛ أو في حالة عدم وجود مؤلف فعلي، وإذن سيكون من التضليل أن نتخيل وجوده.
المؤلف كأساس لنقد الفيلم
على عكس البنائيين، لا يعتبر ليفينغسطون تحديد المؤلف كجزء أساسي ولا يتجزأ من تأويل الفيلم. بل يمكننا فقط أن نقرر، حسب كل حالة، ما إذا كانت المواقف المعبر عنها قابلة، لأن تعتبر نتائج مقصودة لأنشطة مؤلف فعلي. يتطلب منا هذا، بطبيعة الحال، أن نعرف أكثر حول الكيفية التي صنع بها الفيلم، ونعرف أن العديد من المشاهدين العاديين لا يبحثون عن هذا النوع من المعلومات قبل مشاهدة الفيلم. لكن ليفينغسطون يلح على أن هذا لا يجعل هذه المعلومات أقل قيمة في التأويل. كل تأويل نمنحه للفيلم يجب أن يكون متطابقا مع الخصائص المميزة للفيلم، وأن تكون هذه الخصائص مرتبطة بـ’التاريخ السببي’ للفيلم17. ومع ذلك، فسيكون ليفينغسطون أول من قبِل أن تكون الخصائص السببية تعيبرا عن ملامح المؤلف، بالنسبة لبعض الأفلام فقط. لم يحدد الاختلافات في تحليل الأفلام مع وجود المؤلفين أو عدم وجودهم. وبالرغم من أن مثال بيرغمان (ضوء الشتاء) يشير إلى أن هناك ارتباطا بين قيمة فيلم وبين امتلاكه لرؤية المؤلف، فإن ليفينغسطون لم يطور نظرية المؤلف كأساس لنقد الفيلم. على النقيض، فقد كان هذا بالضبط، بالنسبة للمهتمين التقليديين بالمؤلف، هو الهدف من الخطوة الأولى لتحديد المؤلف الفعلي للفيلم.
لقد تم نقل فكرة نقاد في ‘دفاتر السينما’، خاصة فرانسوا تريفو، – القائلة بوجود أنواع من صانعي الأفلام يصنعون حقا أفلاما معبرة سينمائيا وشخصيا – إلى الولايات المتحدة الأمريكية في بداية الستينات من القرن العشرين، مع أندرو ساريس. وباحتفاظه على لفظة ‘المؤلف’ كعنوان لهذا النوع من المخرجين يصوغ ساريس مبادئ واضحة لنقد الفيلم على أساس المؤلف. كان على هذه النظرية أن تطبق على السينما الأمريكية، والتي استقرت كليا تقريبا في هوليود من الحرب العالمية الأولى. هروبا من عتامة النقد لأفلام الترفيه في هوليود من طرف نقاد الفن الأروبيين، يرى ساريس أن نظرية المؤلف وسيلة للرفع من مستوى المخرجين الأمريكيين، والاحتفاء بالتقليد الغني للفيلم الأمريكي. وباعتبارها مقاربة أكثر علمية مقارنة مع المخاطر الذاتية للنقد الصحفي الانطباعي والإيديولوجي، رأى ساريس في نظرية المؤلف طريقة لمأسسة دراسة الفيلم في أمريكا الشمالية18. في الوقت الذي يعترف فيه بوجود المؤلفين الأوروبيين والأسيويين، يعيد للمخرج الأمريكي اعتباره كشخص من رعاة البقر، منخرط في صراع إبداعي بطولي ضد الآلات القمعية لنظام الأستوديو الهوليودي. ومن بين رعاة البقر البارزين يوجد راوول والاش، هاوارد هاوكس, و جون فورد. فالمخرج الجيد، عند ساريس، يصنع أفلاما جيدة بانتصاره في التحدي ضد النظام. ومهمة الناقد تتجلى في تحديد علامات التحدي الناجح عبر جسد عمل المخرج.
يبحث الناقد، بالخصوص، على ثلاثة أشياء: علامات الكفاءة التقنية للمخرج، العلامات الدالة على شخصية المخرج، وعلامات الإبداع لما يسميه ساريس ‘المعنى الداخلي’. ومادام المخرج الهوليودي يشتغل عادة على سيناريو شخص آخر، فإن شخصيته لا تنبثق من موضوع فيلمه، وإنما من معالجته لأدوات عمله. ومن التوتر الحتمي المتواصل بين أدوات الفيلم وبين شخصية المخرج يتولد المعنى الداخلي. وبالرغم من افتراض أن يكون المعنى الداخلي هو العلامة العليا لقيمة الفيلم، فإن ساريس يعترف بصعوبة تعريفها بالضبط. ذلك لأن المعنى الداخلي متجذر في جوهر السينما، ولا يمكن أن يعبر عنه بمصطلحات غير سينمائية. كل ما يمكننا القيام به هو الإشارة، في أفلام معينة، إلى اللحظات التي ننقاد فيها نحو معرفة المعنى الداخلي. والمثير للاستعراب أن المثال الذي يقدمه ساريس غير مستمد من فيلم أمريكي: إذ يأخذ من فيلم «قواعد اللعب» (1939) لـ مشهدا خاصا، حيث يتوقف أوكتاف (يلعبه المخرج جان رونوار ) في رحلته البطئية نحو مخدع البطلة. يلاحظ ساريس، أنه إذا كنت أستطيع وصف جمال النغمة الموسيقية في هذه الوقفة المؤقتة، أولا أستطيع، سأكون قادرا على تقديم تحديد أكثر دقة لنظرية المؤلف19. كلما كنا أكثر قربا في دراستنا لجسد الفيلم، ومقاربة أفلام لنفس المخرج، كلما ازداد حضور لحظات التعبير عن الشخصية والمعنى الداخلي. بعبارة أخرى، سنلاحظ استمرارية أسلوبية كبيرة عبر جسد العمل، وذلك من خلال الاستعمال المتكرر لجهاز سردي خاص؛ وسنحصل على إحساس قوي بحساسية ونظرة المخرج الخاصة. تستمد نجاحات نظرية المؤلف من الاكتشافات المدهشة التي يمكن أن يقدمها الناقد من خلال تحليله المقارن. في نهاية المطاف، يبدو أن ساريس يقدم مقاربته النقدية كوسيلة لاستنباط الكثير من مشاهدة أفلام الاستوديو. لكن هل تملك المقاربة تماسكا داخليا وحدسا معقولا؟ ذلك سؤال آخر.
طرح هذا السؤال بالكثير من الشدة من طرف بولين كايل، وهي ناقدة أمريكية معاصرة لـ ساريس. فهي لا تبدل أي مجهود لإخفاء سخريتها من نظرية المزلف، بل وتضحي بالحجاج المنطقي لفائدة جواب ظريف. ومع ذلك، تقدم اعتراضات هامة لمعايير ساريس التقويمية20. فالكفاية التقنية، حسب كايل، لا يمكن أن تكون شرطا ضروريا للإخراج الجيد، لأن هناك مخرجين يستمدون عظمتهم من قدرتهم الإبداعية، في غياب الكفاية التقنية – النموذج هو المخرج الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني. نفس الشيء بالنسبة للتعبير عن الشخصية في معالجة الأدوات، فهي ليست فقط عديمة الجدوى من أجل فيلم جيد، بل يمكن أن تؤدي إلى فيلم رديء. يرجع هذا إلى أننا نميل غالبا إلى ملاحظة شخصية المخرج في أفلامه السيئة، تلك التي تعيد استعمال أجهزة فعلية خاصة، والتي تميز أسلوبه.إن نظرية المؤلف، وهي تجمع بين وحدة الأسلوب والتعبير عن الشخصية، تنتهي إلى الاحتفاء، ليس بالأصالة الفنية، وإنما بترسيخ مجموعة من الحيل للتلاعب بالجمهور21.
أخيرا، تعتبر كايل المعنى الداخلي الختم النهائي للمؤلف، وتقرر أنه وهمي. لأنه من النادر، من جهة، العثور على ذلك النوع من التوتر المقترض فيه إنتاج المعنى الداخلي، وأي مخرج تجاري كفء ينجز أحسن ما يستطيعه، بالعمل بما يحصل عليه من أدوات. حتى لو وجد توتر في الفيلم، تتساءل كايل ‘ فأي نوع من المعنى يمكن استخراجه منه، غير أن المخرج يعاني من أدوات رديئة أو أدوات لا تعجبه22. البحث عن المعنى الداخلي ليس إلا عذرا من نقد المؤلف من أجل تكرار مشاهدة أفلام رديئة، أفلام لا تظهر سوى التوتر المطلوب ورصد وحدة الشكل والمحتوى.
يستمد هجوم كايل على ساريس قوته من اقتناعها بأن نظرية المؤلف تخرق أخلاقيات النقد. وتفعل ذلك، حسب كايل، بتشجيع فيلم عَرَضي رديء لمخرج مُفضل، وممارسة الرقابة على فيلم عرضي جيد لمخرج مغمور، والنظر بارتياب إلى أي مخرج يستعمل أدواته الخاصة. هكذا، وبالرغم من حدة النقد، ينبهنا تحليل كايل إلى خطر أن تتحول نظرية النقد المؤسسة على المؤلف إلى مجرد عبادة للشخصية. من كل ما رأينا في هذا الفصل، يمكن أن نتجنب هذا الخطر بطريقتين على الأقل: بالإحالة إلى المؤلف الفرد الضمني عوض المؤلف الفعلي، وبالاعتراف لمختلف المتعاونين بدورهم في التأليف. ومع ذلك فهذا لا ينفي أن الإحالة المناسبة، إلى مخرج الفيلم المؤهل، توجه أيضا التقويم والتأويل.
استنتاجات
إن النقد المؤسس على المؤلف ليس هو الشكل الوحيد لتقويم الفيلم بطبيعة الحال. سننظر لاحقا إلى أشكال أخرى تتضمن فقط الإحالة إلى محيط صانع الفيلم. الهدف من النظر في النقد المؤسس على المؤلف يأتي من كونه يتضمن بعض الفرضيات حول طبيعة ووضع مؤلف الفيلم. بالرغم من عدم الاختلاف حول هذه الفرضيات، فإن المشاركين في النقاش حول مؤلف الفيلم يمكن أن يتفقوا أن في الإنتاج المركب والتعاوني للأفلام جماعية الصنع، يوجد في الغالب متعاون مهيمن، وهو المخرج في الغالب. أمر مهم أن نحاول توضيح ما يتعلق بدور المخرج والثقافة الفيلمية على العموم، ويجعل المخرج، في الغالب، مهيمنا في أذهان النقاد والجمهور العادي. لكن هناك سؤال فلسفي أكثر إلحاحا حول ما إذا كانت للمهيمن المتعاون ملكية إبداعية في الفيلم، وإذا كان الأمر كذلك، فمن أي نوع؟. كما رأينا سابقا، هناك طرق متعددة للجواب على هذا السؤال: إذ يمكن للمهيمن المتعاون لفيلم معين أن يكون:
المؤلف الوحيد
مؤلفا من بين عدة آخرين، أو
لا يكون مؤلفا على الإطلاق.
إذا اخترنا الجواب الثالث، فيكون ذلك لسبب أو سببين:
بوجود عدد من المتعاونين، لن يكون هناك مؤلفون حقيقيون، أو
المؤلف ليس شخصا حقيقيا، بل إنه بناء تأويلي.
وأخيرا، وحتى ولو قبلنا أن المتعاون المهيمن هو المؤلف الفعلي لفيلم خاص، سيكون بإمكاننا دائما أن نؤول الفيلم باعتماد دور المؤلف الضمني.
هناك خيارات لإسناد مقولة المؤلف أصبحت متاحة من نقاشنا في هذا الفصل. غير أن هناك اعتبارات إضافية تتعلق بالتكنولوجيات الجديدة يمكنها أن تعقد هذه الخيارات. إحدى هذه الاعتبارات ناجمة عن إدخال الـ دي- في- دي.
إضافة إلى الفيلم نفسه، يتضمن العديد من أقراص دي في دي تعليقات المخرج والمتعاونين الآخرين، كما يشمل مشاهد ولقطات، بل وحتى نهايات بديلة. بمكن لـ دي في دي أن يقدم صيغتين مختلفتين أو أكثر لنفس الفيلم. كمثال على ذلك، صدرت سنة 2006 طبعة تضم قرصي دي في دي لفيلم « القيامة الآن» المنجز سنة 1979، وتتضمن النسخة الفيلمية الأصلية للفيلم فضلا عن نسخة أعيد إنجازها سنة 2001، «القيامة الآن روديكس»، مع زيادة 49 دقيقة من اللقطات الخارجة عن الفيلم. تشمل مجموعة دي في دي أيضا عناصر أخرى، منها كليب لـ مارلون براندو وهو يقرأ من ديوان ت.س. إليوت قصيدة « الرجال الفارغون»، ومشاهد مصاحبة للتصوير، ومقابلات مع الموزعين. من المفيد النظر في ما إذا كانت إضافة كل هذه الأدوات عاملا لتسهيل أو تعقيد إسناد صفة المؤلف.
من جانب ، يمكن لهذه الأدوات الإضافية أن تساعد على تحديد ما إذا كانت الأهداف الفنية، للمخرج أو بعض المتعاونين الآخرين، قد تم تحقيقها في العمل النهائي. ومن جانب آخر، يمكن أيضا أن تثير انتباهنا إلى الطوارئ والظروف التي تتحكم في الفيلم، كأي إنتاج ضخم آخر، لينتهي في صورة غير متوقعة. حين نقارن بين صيغتي ‘القيامة الآن’، يمكن أن نقرر أن لإحداهما مؤلفا (حقيقيا أو ضمنيا)، وأن الأخرى بدون مؤلف، أو أن لهما معا مؤلفين (حقيقيين أو ضمنيين) ( من هنا يطرح السؤال حول اعتبار الصيغتين الاثنتين، بالفعل، صيغتين لنفس الفيلم). مهما يكن، هناك شيء واضح، لن نكون في موقع يمكننا من الحسم في حالة مركبة كحالة ‘القيامة الآن’ على دي في دي إلا إذا استحضرنا العمل الذي قمنا به في هذا الفصل – ومن دون أن نميز بعناية أنواع المؤلفين، ومعايير إسناد صفة المؤلف، ومعايير نقد الفيلم المؤسس على المؤلف.
إحالات
الفصل الثالث من كتاب «الاستطيقا والفيلم» 2008
Aesthetics and film ; Katherine Thomson-Jones. Ed. Continuum 2008. 3 chapitre (30 – 55)
Livingston (2005: 68-69)، نفس التعريف قدمه في عمل سابق (1997)
Livingston (2005: 73)
Livingston (1997: 136)
المرجع نفسه (135)
تحدث Livingston بالتفصيل عن شروط ربط المؤلف بالمشروع (2005: 75-89)
Livingston (1997: 135)
Nehamas (1986: 689)
Livingston (1997: 137) نظرا لتنوع تكنولوجية عرض الفيلم، فإن الشكل الحالي لهذا التعريف يمكن أن تكون محدودة. ليست كل الأفلام قابلة للعرض على الشاشة – كالأفلام التلفزيونية مثلا. ومع ذلك، لا يبدو أن هناك سببا يجعل تعريف ليفينغسطون غير قابل للتعديل لاستيعاب التنوع التكنولوجي.
Livingston (1997: 143- 144)
Livingston (2005: 85)
Gaut (1997: 157)
Gaut (1997: 157-158)
Wollen (1972a)
المرجع نفسه 171-172
Livingston (1997: 145- 146)
Sarris (1962/ 1963 :105)
المرجع نفسه. 107
Kael (1965)
المرجع نفسه. 298
المرجع نفسه. 304