نهاية الفكر الفرنسي؟

على الرغم من شُبهة الديكارتية، فإن الفكر الفرنسي لا ينتمي إلى مدرسة، وإنما إلى حِرفة مزدهرة منذ خمسة قرون في هذا البلد : حرفة العَالِم الذي ينظر أبعد من مجال اختصاصه. بألمعية خلال بعض العصور، ولكن دون نجاحات تُذكر خلال أخرى، كما تشهد على ذلك الضحالة الفكرية الحالية.
كان هناك مونتين، ديكارت، مونتيسكيو، ديديرو، روسو. أكثر قربا مِنَّا جاستون باشلار، ميشال فوكو، بيير بورديو، إدغار موران…عندما يُلقي المرء نظرة على لائحة المفكرين الفرنسيين الذين تعاقبوا منذ خمسة قرون، لا يُمكن إلا أن يكون مندهشا. الإسهام بالنسبة للفلسفة والعلوم الإنسانية لا يُمكن تجاهله. وحدها ألمانيا – بماركس، فرويد، نيتشه، هايدغر مع ذلك – يُمكنها أن تَدَّعِي إرثا مُشابها.
يحق لنا أن نتساءل ما إذا كان يُوجد «فكر فرنسي»، شيء ما بمثابة «استثناء فرنسي» مُطَبَّقٍ على مجال الأفكار. الصورة النمطية أرادت أن يتطابق الفكر الفرنسي مع «الديكارتية». العقل، الانشغال بالصرامة، واجب البرهنة، كلها أمور ستميز طريقة ما في التفكير، جِد فرنسية، على نمط الحدائق الفرنسية المرصوصة على شكل خطوط مستقيمة. لكن هذه الأطروحة سُرعان ما تنهار أمام الوقائع. مونتين كان إنسيا، وليس عقلانيا. باسكال تَفَقَّهَ في الذهن الحدسي كما تَفَقَّهَ في الذهن الهندسي. وبتقدمنا في الزمن نجد أن باشلار نهل من الشعر والتحليل النفسي بنفس مقدار ما نهل من العقلانية. أما فوكو فقد وَجَّهَ أصابع الاتهام نحو العقل باعتباره أداة قمع حديثة. لا، حتما ليست العقلانية هي ما يُميز الفكر الفرنسي.
هل إنوجد إذن «عقل فرنسي» يحمل سمات الميل نحو الأفكار، الالتزام المفاهيمي، الانجذاب نحو القضايا الكبرى؟ ذلك ليس بمستحيل. هذا التقليد الوطني من المرجح أنه تواصل من خلال جودة مؤسساته: شكل من التربية جد أكاديمي، موجه بالأحرى نحو التجريد، تقليد قراءة أيضا، ثقافة نقاش أفكار في نهاية المطاف.

الفترات_الكبرى_للفكر_الفرنسي

لكن بحثا كهذا، يروم إيجاد جوهر للفكر الفرنسي، سيكون فاقدا للمصداقية. فالفكر الفرنسي ليس مُوَحَّدًا من حيث مضمونه، ولا هو قَارُّ بالنظر إلى المُدَّة. نظرة بأثر رجعي تُظهر لنا فترات مُشرقة وأخرى أقل عظمة بكثير.
الفترة الأعظم كانت بلا منازع هي فترة الأنوار: زمن مونتسكيو، روسو، فولتير، ديدرو، كونديلاك، دالمبير الذين ساهموا جميعا في مشروع «الإنسكلوبيديا». كانوا يُشكلون ما كان يُسمى ب «الحزب الفلسفي». كانت تلك حقبة لا نظيرة لها. ثم مات روسو سنة 1778، فولتير في السنة الموالية، دالمبير خمسة سنوات بعد ذلك، ديدرو في السنة في الموالية. سنوات قليلة، انتهى خلالها جيل الأنوار برمته. أتباعهم الذين كانوا يُدعون ب «الأيديولوجيين» (على رأسهم ديستوت دوتراسي) كانوا أقل ألقاَ بكثير.
طيلة ما دأب المؤرخون على تسميته ب «القرن التاسع عشر الكبير» – أي الفترة الممتدة ما بين 1789 و 1914–، لم يلمع العقل الفرنسي إلا قليلا. طبعا فقد كان هناك أوغست كانت، جيل ميشليه أو هيبوليت تين، لكنهم ظهروا بصورة باهتة مقارنة بالألمان : إيمانويل كانط، جورج هيجل، كارل ماركس، فريديريك نيتشه وآرثر شوبنهاور. في فترة ما بين الحربين، ولا وجه واحد في الفكر الفرنسي يُمكن مقارنته بيرتراند راسل، بجون كينز أو بلدويغ فيتغنشتاين. وجب انتظار سنوات الستينات – العصر الذهبي ل «العلوم الإنسانية» – حتى يسطع نجم جيل فكري جديد : البنيويون، مؤرخو الحوليات، علماء الاجتماع، علماء الأساطير…

فترة الركود

يجب القبول بالأمر الواقع : اليوم الفكر الفرنسي يمر من فترة ركود. صحيح أن فرنسا لا زالت تنجح في تصدير أفكارها، كما تفعل بالنسبة لنبيذها، خياطتها الرفيعة ومطبخها. «النظرية الفرنسية La french theory» )فوكو، بورديو، دريدا، بودريار، ليوتار، دولوز، لاطور..) حققت نجاحا في بعض الجامعات الأمريكية طيلة سنوات التسعينات. تُرجم هؤلاء الكُتَّاب إلى اليابانية، إلى الكورية، في بلدان الشرق، في أمريكا اللاتينية. ومع ذلك، فلا غنى عن ملاحظة أن الالة التي كانت تُنتج المفكرين قد أصابه عطب. الأسباب تتنوع ولا تخص فرنسا وحدها.
زمن الباحثين أعقب زمن المفكرين. سواء كان ذلك خطأ أم صوابا، فزمن النظريات الكبرى قد ولى اليوم.النظريات الواسعة النطاق تحمل بين طياتها أخطاء كبيرة أيضا، ودينامكية البحث المتخصص لا تدعم بالضرورة الفكر.
مركز ثقل الفكر تغير هو الآخر. هناك نوع من أمركة الفِكر، كما يشهد على ذلك اكتشاف فرنسا لفلاسفة (جان رولز، ميكائيل والزر، دانيال دينيت، ريتشارد رورتي)، وعلوم نفسية جديدة ( معرفية وتطورية)، كلهم قدموا إلينا من أمريكا. حتى المثقفون المأخوذون بالفكر النقدي والعولمة البديلة هم اليوم أمريكيون سواء كان أسماءهم سوزان سترينج، جوزيف ستجليفتش أو نعوم تشومسكي.
هل سيكون بمقدور الفكر الناطق باللغة الفرنسية إفراز وجوه جديدة على شاكلة ديدرو، باسكال، مونتين، فولتير، فوكو أو ليفي ستروس؟ لا شيء مستحيل. فرنسا تتوفر على تقليد فلسفي حي يُدَرَّسُ ابتداء من مرحلة الثانوي، وعلى بعض المدارس والجامعات الكبرى التي تشتمل – رغم ضعف الوسائل – على إمكانات غنية. وأيضا حضور إرهاف فكري وميل نحو النقاشات الفكرية.
إذن من المقبول أن يَحُلَّ نَفَسٌ جديد. أن تنفجر ديناميكية جديدة حول جيل جديد، حول شبكات معرفية جديدة، أو حتى حول مشروع كبير مشابه لما كان عليه مشروع «الانسكلوبيديا» في وقته. هذا إن لم يَلْقَ الفكر الفرنسي نفس مصير الفكر الإغريقي أو ذلك الناطق باللغة العربية إبان عصر الإسلام الذهبي. فقد لمعا لعدة قرون قبل أن ينطفئا تاركين وراءهما أثرا لا يُمحى مثل تلك النجوم التي يواصل ضوؤها الانتشار في الفضاء، رغم أنها اختفت منذ زمن بعيد.

Sciences Humaines, Hors-série n°6, Cinq siècles de pensée française


الكاتب : جان فرانسوا دورتييه ترجمة:يوسف اسحيردة

  

بتاريخ : 17/09/2025