نَصٌّ في الفناء، والدمُ وحده لُغة الكلام!

منذ كم لم أخُطّ سطرًا جديدًا فيه أنا.
« من أنا لأقول لكم/ ما أقول لكم».
لكأنّي لم أكتب يومًا كلمة، أتهجّى زفرةً.
ولا الأبجدية بذورٌ زرعتُها نثرتُها في حقول الأخيِلة.
رصّعت بها تلال الأفكار، لا السماء، مرصّعة الآن بالمسيّرات.
القاتلات، ترقص تعربد في عليائها صواريخ الأعداء،
ذاهبة رأسًا لتفتك بالرُّضّع وتُفتّت مُهج الأمهات.
تلك كانت لغةً تهجّيتها فصيحةً مذ لثغةَ الولادة،
ونطقت بها مبكِّرًا بنبرة الشّمم ونخوة الكرامة،
يوم كان لأمّة محمد وبني العُرب صولةٌ ورسالة.
بتُّ لا أفهم كيف يعيش إنسانٌ الكلماتُ على لسانه خيلٌ خبَب،
والسماءُ يا لها حبلى تهطل فوقه بمُزن الّلغات.

****
لا أذهب إلى الكتابة قصدًا. تراودني فلا أستعجلها.
وأعود أراودها بيننا لعبةٌ قديمة، وسِحرُ غوايات.
نتبادلها بمَكرٍ وأناة، ومواعيد تُضرب بين الصّحو واليقظة،
حقيقية متلألئة، كَرٌّ فَرٌّ، لا عيش بدونها وأشبه بالمنامات.
لكَم هي متجبرةٌ، مغناجٌ، غانيةٌ، تُقبِل وتُدبِر على هواها،
كلّما راودتُها أمعنت في العُتوِّ، شمخت وتعالت.
تحسَب أسلست لك القيادَ وأنت ترى تتنضّد أمامك الكلمات،
وما هي إلا تُلهيك بشكل الحروف، وتُسبِل عينيك عن المعنى،
وعن الروح إذ يتحدان في الجوهر، ويصعدان أعلى عليين؛
ويحك، تتوهّم كالعادةستنحت الجوهر في صورة؛ هيهات!
****
ليست هذه العباراتُ مقدمةً طلليةً على غرار قصيدة الشاعر الجاهلي، وهي طريقةٌ لجلب اهتمام السّامع، بقدر ما هي حالةٌ بين العجز والحَيرة، فلكأنّي لا أملك من أمر الكتابة حرفًا، وإمّا أن ما أبغي، أسعى لكتابته، عصيٌّ على الوضع لعمري مخاض عسير؛ وإنه لكذلك، وأعتى من أيّ وضع. رأيتهم وقرأت وسمعت، أسرَعوا إلى القِرطاس يملؤونه ويتدفقون على قدر الاستنكار، وحُمّى حُمم الغضب. على وتيرة الحملات الهوجاء التي شنّها العدُوُّ بعد السابع من أكتوبر 2023، وجرّب فيها الممكنَ والمستحيلَ من أصناف القتل والقصف وضروب الهدم والتخريب، حدّ الإعجاز!
عجزت أن أجاريهم، مُتخمٌ أنا بالمائدة الدموية لكم هي سخيَّة في قنواتُ التلفزة في العالم أجمع على مدار 24/24 والشاشاتُ البيضاءُ تغطيها أكفانٌ أنصعُ بياضًا. موتَى، قتلَى بالعشرات، صاروا آلافًا، لا تقل ملائكة فهم المشبّه بهم، تتفجر فيهم القنابل وعيونهم مفتوحة تارة، وأخرى مسبلة على أحلام الحياة وفي الوقت يلتحقون خِفافًا بقافلة الشهداء.هذه لها أوّلٌ وستلهث خلفها تعيا وهي بلا آخر. خذ مثلًا: بعد عام وصلاةُ الجنازة قيامٌ متّصل، الأرض ما عادت من تَعدادهم تَسَعُ القبور. لا أعرف بأيّ قلوب يتحمّل من تبقّى من الأحياء جمعَ الأعضاء، فيهم الأمهاتُ والزوجات، ناهيك عن الرُّضَّع والخُدَّج يُطلّون على الحياة وهُم أموات. الموت وحده يتناسل والأعداء خارجنا وفي داخلنا، منهم ومنّا، يرقصون ويغنون يفجُرون في عرس الدم.
ماذا تكتب لتكتب أيها الكاتب المرفَّه، الجالسُ على أريكة مُريحة قبالة تلفزيون. يجوز أنك تتناول طعامًا، وتُسقى شرابًا.وهب أنك تسمع شهرزاد كورساكوف. سقفُ بيتك ثابت. يقينًا لن يسقط فوق رأسك. يقينًا إذا ذهبت إلى مضجعك ستستيقظ في الصباح لم يشتّت مخكَ صاروخٌ وجسدُك مِلككَ لم يتبعثر في هواء البارود أشلاءً. ماذا بوسعك القولُ أمام كلّ هذا الهول، إزاء ما لا يُسمّى من وحشيةِ وهمجيةِ العدوّ يُسمِّي جنرالٌ قتلاه شهداءنا حيوانات. الأنكى من هذا يأتي كاتب محسوب علينا ينبهه، «جنرال،هم دون مرتبة الحيوان بكثير»! وهذا تعليق فوق الاحتمال ورسمُ حروفه هنا يحتاج إلى نوع من النّرفانا كي يُحتمل. لهذا أجدني منساقًا إلى تقرير أن اللغة اختُرعت بعد الأشياء، اخترعها الإنسان ليعرفها ويمتلكها ويتداولها. قتل قابيلُ هابيل، أولًا، وُصِف فعلُه بالقتل. قصفَ جيشُ السّفّاح نتنياهو غزّة طيلة عام ويواصل بدموية لا تُضاهى في مجازر التاريخ، فأباد أربعين ألفًا والرقم يصعد نحو الخمسين، ودمّر العمران، سوّاه بالأرض، مزّقها، طعنها، أصِخ لها تسمعها تئنُّ من الجراح. وما كفاه هذا، فجوّع عشراتِ آلاف الأفواه، وما زال عطشانًا لأنهار من الدم. ولو تخيّلت لن تضارع مما حدث في الواقع أفجعَ أشنعَ أفظعَ من كل جُرم، لن تُسعفك القواميسُ والاستعاراتُ من جميع اللغات لتسمِّي ما حدث، وما ليس ولن تجد لوصفه أبدًا أسماء.
****
هناك عبارة تجري سهلة على الألسنة حين يستعصي القول إزاء أمر مُثير للإعجاب، فنردّد: «إن اللسان ليعجز عن التعبير(كذا)». لكني هنا في موقع وموقف مثيرين، أفظعُ وأهْوَلُ من الوصف. علمًا بأننا لكي نصف نحتاج وجوبًا للكلمات، مهما بلغت من التقصير، ونحن ندرك، أو نعلم ضمنًا، أنها وسيط، لا أكثر، وهذه إحدى معضلات فنّ المحاكاة، إذ مهما بلغت الدِّقةُ لا ولن ننقل، لن تصف الشيءَ بحذافيره، إذ هو يتحدّى اللغةَ، والأسلوبَ، والبلاغةَ، أيضًا، حين تمتشق أداةَ المحسِّنات البديعية كي تنتصر على العجز، وفي حالتنا يا له من عجزٍ رهيب.
يحدث التفاوت، بطبيعة الحال، حول الشيء أو الموقف، كذا الإحساس الذي نريد أن نصوِّر وننقل. هو سابقٌ على الكلام. موجودٌ بذاته. مستقل ٌّ بكينونته. يمكنك معاناتُه وحدَك، ووحدك في النهاية والأقصى من يمنحه بلاغته، أي الأمداء التي يمكن أن يرتادَها إحساسُ بشر.على خلاف الكلام، اللغة، النصّ المكتوب، فإنه يوجد بهذه الوظيفة، يزعُم أنه يتحمّل وِزرها، نقلَها من التجريد إلى المحسوس، ومن الفردي، الخصوصي أو الحميمي، ليشترك عددٌ كبير في الإحساس به، ولو جزئيًا، وهي مغامرةٌ حقيقية، ورهانٌ صعب لا ينتبه إليه كما يجب من يدّعون بخفِّة أنهم يعبِّرون عن كذا وكيت، ويصخبون يتنرجسون ببضع عبارات نزقة يحسبون بصورهم ينافسون الشمس والقمر، يغارون من أطفال مكفّنين بحجم الكف راحلين إلى الله بأبيض الأبدية، فتُعجزهم، تبزّ كلماتهم الجوفاء، هم هراء. يغفلون عجبًا، أنهم مع الكتابة بصدد عملٍ مختلفٍ له أدواتُه ونظامُه ونَسقُه. أنه يقوم بعملية تحويل جذرية مثل الصائغ الذي يحوِّل المعدنَ الخامَّ إلى صنيعة أو حِلْيَة، فيصبح شيئًا آخر ولو عددنا احتفاظه على جوهره، روحه، إذ الشكلُ مضمون، أيضًا. من هنا يصحّ القول إن الكتابة خَلْق، طبعًا، لا من عدم، وبحواملها ومرجعياتها ومكنوناتها، تبقى مستقلة. هكذا، هي بين موقعين، إدراكَين وصياغتَين، وينبغي تتبُّعها وتلقِّيها في برزخ.
أبدو وكأنّي أبتعد عن موضوع انطلاقي، عن غرضي من كتابة هذا النص، وإن عندي لم أزِغ عنه قيد أنملة. فأنا إذ أسائله، إنما أبحث عن مستحيل، فالأدب الذي أريد أن ينضوي فيه الكلام، لأن سواه لغوٌ وثرثرة، هو المستحيل عينُه ما دام طموحُ ووهمُ (مبدعه) أن يعبِّر ويشخِّص ويُعيد خلق ما يتصوره ناقصًا وهو من سيهَبُه الاكتمال، بل الكمال، وهذه عبارة أخرى للمُحال.
مُحالُ الكاتب العربي اليوم في زمن الهمجية الإسرائيلية، وآلة التدمير الصهيونية تجاه غزّة ولبنان، ومن خلالهما الشعبان الفلسطيني واللبناني، في قلبهما العرب كلّهم حاضرون وغائبون؛ المُحال أمامه أن يصوّر بأي عباراتٍ ما حدث. كيف تصف قتل الرُّضّع، واختناقَ الخُدّج بدون كهرباء، وآلافَ الأمّهات والزوجات الثكالى المردوم فوقهنّ الطوب، والرجالَ والفتيانَ والعجزةَ أولًا تتطاير أشلاؤهم، ومن أضاعوا الآباء والأمهات، والأسماء، ومن يطاردهم العدوّ بالترحيل من شمال لجنوب ويعيد الكرّة من جنوب لشمال، وهم يحملون بقايا لا شيء، هم في التّيه. لا، عبثًا سيبحث هذا الكاتب عن بلاغة المقاومة ورصف قاموس المأساة. في غزّة نفسها حاول الكُتاب وصف بعض ما جرى، وجاء قولهم وهو صادق جدًا أعيا من الواقع الرهيب للقتلة. لذلك، وبعد أن أفنت إسرائيل آلاف الفلسطينيين، ودمّرت بيوتهم، وتفعل الشيءَ نفسَه في لبنان، أعلن عجزي واستقالة كتابتي عن هذه الأهوال. هي في حاجة إلى لغة وبلاغة أخرى. في حاجة إلى الموت فداءً، لا لغة عندي ولن أكذب على أحد لأقول إني سأعبّر. الدمّ وحده لغة الكلام.


الكاتب : أحمد المديني

  

بتاريخ : 22/11/2024