هزيم الصمت: قصيدة الداخل ونداء الحكمة قراءة نقدية في ديوان الشاعر عبد اللطيف البطل

في زمن يفيض بالضجيج والادعاء، يأتي ديوان «هزيم الصمت» للشاعر المغربي عبد اللطيف البطل ليعلن تمرّده الهادئ عبر لغة تنبع من الداخل. ليس الصمت هنا هروبًا ولا غيابًا، بل هو حضور هادر، وصوت داخلي يمارس مقاومة من نوع خاص.
هو ديوان لا يركن إلى السائد، بل يغوص في أعماق الذات، ليعيد تشكيل الصمت كأفق فلسفي وإنساني، تتقاطع فيه التجربة الشخصية مع الموروث الثقافي، والتأمل مع الشعر.

1 – الصمت: حكمة لا تنهزم
في هذا الديوان، لا يظهر الصمت كمجرد قيد، بل كبوابة لفهم الذات والعالم. صمت الشاعر ليس ضعفًا، بل تأملًا ناضجًا، يشبه صمت الحكماء في محاريب الفهم. إنه اختيار لا يُملى، بل ينبع من امتلاء داخلي، يرفض لغو الكلام ويُصغي إلى جوهر الوجود.
«صمتي ليس خوفًا / بل حكمة لا تنام»
هذا المقطع يختزل جوهر الديوان: الصمت كمعرفة، لا كخسارة.

2 – ذاكرة الصمت: إرث لا يُمحى
الصمت في «هزيم الصمت» ليس لحظة طارئة، بل إرث دموي متجذّر، ينتقل عبر الأجيال، تمامًا كما تُنقل الحكايات والعادات. وكأن الصمت هنا يُورّث كما تُورّث الأرض أو الملامح.
هو صمت الآباء في وجه الاستعمار، وصمت الأمهات في مواجهة الغياب، وصمت المدن أمام النسيان.

3 – الطفولة:
الصمت يولد من ضوء
يحضر الطفل في نصوص الديوان ككيان طاهر، قادر على كسر جدران الصمت من الداخل. إنه ليس فقط رمزًا للبراءة، بل للبداية. الطفل هنا لا يتكلم كثيرًا، لكنه يُنصت للعالم بعين مفتوحة على الدهشة.
الصمت الطفولي هو النقيض الحي للصمت الثقيل للكبار. في القصائد، نلاحظ كيف يشتبك الشاعر مع ذاكرته الطفولية، في محاولة لفهم صمته الحالي.

4 – المسافة بين الشاعر والموظف
على الرغم من عمل الشاعر في القطاع البنكي، لا تظهر الوظيفة في النصوص بشكل مباشر. وهذا الصمت عن «اليومي والوظيفي» هو بحد ذاته موقف: الشعر مساحة حرة، لا تقبل بلغة الإدارة أو الأرقام.
هذه المسافة الواعية تمنح القصيدة نقاءها وخصوصيتها، وتجعل من «هزيم الصمت» نصًا خارج بيروقراطية الحياة.

5 – الألوان كأصوات بديلة
يتحول الصمت في الديوان إلى صوت لوني. حضور الأبيض، الرمادي، الأسود، ألوان الشفق، جميعها ليست حيادية بل أدوات تعبير رمزية.
الأسود هنا ليس موتًا، بل «صمتا مكتنزا بالأسرار»، والرمادي هو «المنطقة الفاصلة بين الفعل والتأمل»، أما الأبيض فهو «مساحة الاحتمال والسكينة».

6 بساطة اللغة، عمق الرؤية
لغة عبد اللطيف البطل تجمع بين البساطة والدهشة. الجمل قصيرة، مكثفة، لكنها مفتوحة على تأويلات متجددة. لا يراهن على البلاغة الخارجية، بل على التوتر الداخلي للجملة الشعرية.
الإيقاع لا يعلو، لكنه ينساب كصمت ناعم يخترق النفس.
7 – الصمت بين الفلسفة والمقاومة
يمكن اعتبار الصمت في هذا الديوان شبيهًا بصمت بوذا أو سقراط، حين يصبح الامتناع عن القول أعلى أشكال الحضور. لكنه أيضًا صمت احتجاجي، يرفض أن يُستدرج إلى صراخ العالم.
هو صمت لا يهادن، بل يعترض برشاقة، ينسحب ليحمي المعنى من التلوث.

8 – غياب المرأة…
حضور الصمت الأنثوي؟
رغم غياب المرأة كصوت مباشر في القصائد، إلا أن الصمت يُوظّف أحيانًا بوصفه أنثى مجازية، تحضن المعنى بصبر، وتقاوم بالغياب. هل هي الحبيبة؟ الأم؟ الوطن؟ لا يهم.
الصمت هنا أنثوي في نبرته، لطيفٌ لكنه عميق، ناعم لكنه عنيد.

9 – التحوّل الصامت:
من الانكسار إلى النضج
ما يُميز الديوان هو عدم استقراره عند نوع واحد من الصمت. هناك تطور داخلي، رحلة من صمت الألم إلى صمت الفهم إلى صمت الحكمة. وكأن الشاعر نفسه يتطور مع كل نص، يتخلّى عن الخوف تدريجيًا، ليصير الصمت في النهاية خيارًا وقرارًا.

خاتمة
ديوان «هزيم الصمت» ليس مجرد نص شعري، بل رحلة داخلية، سردية فلسفية تقودنا إلى أعماق الذات.
عبد اللطيف البطل لا يكتب فقط عن الصمت، بل يكتبه بالصمت، يجعل من الفراغ معنى، ومن الغياب صوتًا، ومن الحكمة قصيدة.
هذا العمل يؤسس لمساحة جديدة في الشعر المغربي، حيث الصمت لا يُكسر… بل يُصغى إليه.

 


الكاتب : كزاوي محمد

  

بتاريخ : 14/06/2025