الجوع إلى الشعر كالجوع إلى الحياة الكريمة. فكلاهما له وَلَه عميق بالجمال، واحتفاءٌ بالنشوة والحبور، وذلك لكون منتجه يتمتع بقدرات عالية على غرس بساتين الحلم في أعماق الناس بطرق لا تخطر على بال الآخرين مهما امتلكوا من اتساع في الخيال، وثراء في اللغة. فالشعر يتميز بكونه عيناً بصائريةً؛ قدَره أن يرى ويُصحح، وأن يُشيع في غُرف الكون القيَمَ المضيئةَ، ويَقتلعَ من تُرَبة الإنسان جذورَ الحَيف. إنه بصيرة تُحدق في بشاعات هذا العالم باستمرار، وتُصرُّ على إطلاعنا عليها حتى لا تعمى أحاسيسُنا ومشاعرنا، فيضيع منا ما في الكون من بهاء، وما يحتوي عليه من مفاجآت رائعة، وانخطافات عذبة. ومن ثمة فهو لا يفخَر إلا باعتباره نبضاً لجسد العالم، يعيش ويتألم فيه ومن أجله، وكذلك في الآخرين.
وديوان»هزيم الصمت» للشاعر عبد اللطيف البطل يندرج في هذا التصور؛ أبوابه مفتوحة لكل عشاق الشعر في أعاليه الجمالية واللغوية والتخلييلة، لا تكاد تفرغ من نص فيه إلا ويعيدك إليه بقميص فرداته كما أعاد البصر إلى يعقوب قميص ابنه، فالشعر في هذا العمل الشعري بردة جمالية من دمقس اللغة الموقدة للدهشة، ومن التخييل المفارق، غير أن صراط عتباته لا يجتازه إلا الذين امتلكوا طقوسا في التذوق فائقةً، وكياناً موسيقياً أسمى، وقلبا يسع التناقضات الحارقة، وروحا رائية وارفة، تلفي فيه جوهر الوجود، والتعبير الأنقى عنه.
فالشاعر البطل في ديوانه هذا يضعنا في فلَك شعري هو بمثابة متنفسٍ للكائن البشري حين تُهدد الإكراهات والانجراحات والإحباطات والانحرافات وجدانَه بالبتر والتشويه، وهويتَه بالإلغاء والإمِّحاء:
حري بروحك المتألمة،
أن تستعيد النبضات
الضائعة في عتمة
الجهل.
فكلما استيقظ المرء من عتمة الجهل عادت له ذاكرتهَ، وللغة براءتها المتوهِّجةً، وللمتلقي زمنَ بكاَرة الأشياء، وزمِن الطمأنينة المفتقَدِ. هذا ما يعلمنا إياه «هزيم الصمت» بشعرية فائقة الطلاوة والنداوة، فالبطل هنا يؤسس معنى العالم شِعريا كما تتبدَّى له من خلال اللغة التي لا تخوم لها. وهذا المعنى الذي يعطيه الشاعر للعالم هو الذي تحلم النفس بالدخول إلي فراديسه. فكم هي ذابحة في أعالي الروعة تلك القصائد التي نقرأها فنتمنى لو كنَّا نحن أصحابها، مع أننا نُدرك تماما استحالة هذه الرغبة، لأنه لو لم يكتبها مبدعوها لما كتبها أحد، لكونها ذاتا مجوهرة لا تكتبها إلا ذات واحدة أقرب إلى التجوهر…وتلك هي فرادة الشعر العظمى التي تدخلنا في مدار الظن الشفيف حيث نخال أننا نرتدي بهجة الحياة.
وهذا المعنى الذي يعطيه الشاعر للعالم هو الذي تحلم النفس بالمكوث فيه بعيدا عن خارجها الموار بالانجراحات. وقد وطد الشاعر هذا بميزة خاصة تتمثل في ابتداع بلاغة خاصة للصت، فالصمت لديه ليس سكونا وموتا، وإنما هو أشبه ببركان يخرج هواجسه ومحلوماته ليبين لنا أن كثيرا من اعتقاداتنا في الحياة هي اعتقادات نكوص لا اعتقادات نهوض. فالشاعر من خلال عتبة الديوان يلج بنا مجرة الصمت، ويدخل ذوات الكائن فهي تزويدٌ للذات بدم جديد، وأكسجين نقي يعينها على الاستمرار في الوجود من غير مبالاة بجراحاته، واندفاقات حرائقه.
والنصوص باعتبارها ذوات هي الأخرى لا تشذ عن الدخول في هذه المجرة إنْ هي أرادت أن تفصح عن شهواتها، وأن تتمدَّد في الزمن، فالصمت وحده هو المِجَنُّ الذي يقيها من التكلُّس، ومن الغرق في الثرثرة الفاقعة، والانصباغ بالضحالة المزمنة. فدخولها فيه شبيه بدخول الصوفي الخلوة للتأمل واكتساب نوع من الضوء، به تحصُل على رونق مثالي. ولا يخفى أن كل نص في الحياة؛ كائنا ما كان؛ له جسد مادي أو معنوي، وكينونة تطْلب الحوار مع الخارج، والنظرَ إليه بصورة خاصة، وهذا لا يتأتى إلا بامتلاك فن الصمت الذي يدفَع المزعجات، ومختلف معيقات التواصل الحق…
إن الصمت هو القوة الجبارة الخفية في نصوص هذا العمل، ومن ثمة يكون المتلقي مدعوا إلى بوصلة لاكتشافها، وإلى حصافة لاستخدامها في وجوه الحكمة والجمال. وهذه القوة أنواع، ليس السكوت واحدا منها، فهي وجه من وجوه الكلام، وفي أحيان كثيرة يصير لها الوقْع الأقوى والأبلغ من كل أشكال الكلام. والمتأمل في طبيعتها سيجد أن التحلِّي بها ما هو إلا دخول في باب النضج والحكمة، حيث إن لباس الحكمة ـ بمعنى أقصى درجات الفنية والإبداع في النص خاصة ـ يستلزم صمتاً أي جرعات عاليات من صحو الصمت.
وإن التنقيب عميقاً في فلسفة الصمت سيجعلنا نلحظ الفرق بينه وبين السكوت، حيث السكوتُ ألصق بطبيعة الجماد، بينما الصمت إعلانٌ بوجود الحياة، فسكوت الإنسان دلالة على موته، وصمتُه دلالة على فكره، فصمت النص إذن ليس إلا تعبيرا عن حب مضاد مدفوع إلى أقصاه، أي أنه وجه آخر للعشق في الضوء الخفي للصمت.
ومن هنا يحق لنا أن نعد ديوان»هزيم الصمت» بمثابة كوجيطو شعري من أجل الوجود الإنساني المَنسي، يدعو إلى صَلاةِ استسقاءٍ شعرية لغسل الأرواح من المهانة الكونية التي تراكمت عليها، ومن الدَّرَن المادي الذي احتلها.