من مميزات عصرنا الرقمي هذا أن أتاح لنا التواجد الدائم لمختلف أجهزتنا المحمولة (حواسيب ـ تابليتات ـ هواتف ذكية ) القدرة على ممارسة القراءة في أي مكان وزمان وفي شتى الأوضاع . فكيف أثر هذا التحول في مختلف الأجيال وفي المشهد السوسيو ثقافي وربما حتى السياسي برمته ؟ ما هي دلالات كل هذا في دور الكتاب الورقي والآليات المستخدمة من قبل المكتبات لجعل القراء مرتبطين دائما بالمعرفة والمعلومة واكتساب مهارات التعلم وصناعة الكتب وتجارتها ؟
لقد تغيرت ممارسات القراءة لدينا بشكل عميق في عصرنا الرقمي حيث أضحت طريقة تفاعل القراء مع النصوص مختلفة عن طرق التلقي الورقي عند الأجيال السابقة قبل ظهور الشبكة العنكبوتية .
فمن عاداتنا الجديدة أننا أصبحنا سباحين مهرة في الإبحار الرقمي على مختلف أنواع شاشاتنا، بحثا عن المعلومات وتحميل عديد من الموضوعات التي ربما قد نقرؤها كليا أو جزئيا أو قد نؤجلها للقراءة أو قد لا نقرأها أبدًا رغم تحميلها وأرشفتها.
تتطلب القراءة الرقمية القدرة على القيام بعدة مهام وتحديد الأولويات والتركيز الفائق ، وهي تحتم علينا تغيير طريقة استيعابنا للمعلومات حيث الشاشات تشجع على التفكير بشكل أكثر براغماتية عكس السند الورقي الذي كان يحفزنا على القراءة بشكل عميق .
أثناء القراءة الرقمية ، تؤدي بنا فكرة جديدة إلى البحث عن مفردة أو معلومة أو رابط أو موقع إلكتروني أو استمزاج آراء الأصدقاء من خلال تدوينة على الفيسبوك أو تغريدة تويتر بدلاً من اعتمادنا كما كنا في السابق على التفكير الذاتي والتأمل الطويلين. وفي الوقت الذي تتراجع فيه ممارسة القراءة التأملية المعمقة نكتسب في المقابل مهارات أخرى حيث تشجع القراءة الرقمية على الإبداع السريع وربط فكرة بأخرى من خلال الروابط التشعبية مما يتيح لنا إنتاج عشرات الأفكار الجديدة في وقت وجيز. وما من شك في أن القراءة الرقمية هي أسلوب مختلف عن القراءة التقليدية وللتكيف مع آلياتها ربما قد يستغرق هذا التحول عشرات السنين وربما جيلين أو ثلاث لاكتساب مهارات فردية ومجتمعية قرائية حديثة تهدف إلى تقوية ملكة الاستيعاب الرصين والمفيد وتفسير وتأويل النصوص والمعلومات بشكل نقدي بناء وعلمي وعقلاني .
إن كلا من السندين الورقي والرقمي يتمتعان بنقاط قوة ونقاط ضعف لا جدال في ذلك فالسياق والهدف من القراءة يحظيان بأولويات قصوى فيهما معا . ومع ذلك فقد برزت عديد من الأسئلة الأساسية حول تأثير القراءة الرقمية في جانبها السلبي على قدراتنا على الاستيعاب والتعلم والتذكر؟ في عصر طوفان المعلومات والاستخدامات المتعددة ، فإن أدمغتنا قد أصبحت متشتتة وأحيانا عاجزة عن التكيف مع أوضاعنا الجديدة للتفاعل مع ما نقرؤه وكيف نقرؤه ومتى نقرؤه سواء في الاتجاه الإيجابي أو السلبي .
في ظل هذا التشتت الذهني وفقدان بوصلة التركيز بسبب تعدد الوسائط وطوفان المعلومات هل باتت عادة القراءة في خطر ومهددة ليس فقط بألعاب الفيديو والكمبيوتر وتطبيقات التلفزة الرقمية ولكن أيضا بطبيعة النص التشعبي الذي يحتوي على روابط إلهاءات و تغريرات ترفيهية تندس بين ثنايا النصوص وبيئة نشرها العامة وتحرض المتلقي على الإسراع في اتخاذ أي قرار في ثانية واحدة للنقر على رابط ما وبالتالي تغيير وجهة الذهن من وظيفة القراءة النفعية إلى وجهة مختلفًة لا علاقة لها بسياق القراءة ولا بامتداداتها الموضوعاتية وبالتالي في جو هذه البيئة المتقلبة هل سنفقد القدرة والمهارة المكتسبة لقراءة رصينة ومفيدة في الحاضر والمستقبل ؟
نحن إذن في الطريق إلى فقدان سلطتنا الذاتية على فعل القراءة . فقد تغيرت بيئتنا وطريقتنا في القراءة عكس ما كنا نتوقعه قبل عقدين ونصف من ظهور الإنترنت ؟ كيف يغير هذا الوسيط الشبكي من طريقتنا في قراءة المحتوى وفهمه ؟
بموازاة مع تغير عادات القراءة بسبب عناصر الترفيه الرقمي والطبيعة الديناميكية لمكونات الشبكة العنكبوتية ، فإن اهتمامنا بتأمل النصوص الطويلة وقدرتنا على التركيز أصبحت تتناقص إن لم نقل تهدر في الإبحار الطارئ خارج سياق هذه النصوص . فأهدافنا من القراءة لم تتغير فحسب بل إن أدمغتنا قد أصبحت تشتغل بطريقة جديدة تؤدي إلى تغيير في إدراكنا المعرفي، وبالتالي فإن هذا التحول السلبي في فعل القراءة يؤثر أيضا على تصورنا لتعامل الكتاب والمبدعين مع إنجازاتهم الأدبية . إن هؤلاء الكتاب والأدباء من جهتهم قد أصبحوا مسؤولين عن إنتاج الأفكار والتقنيات المبتكرة المتعلقة بالقراءة الحديثة لتلبية احتياجات متلق جديد يمكن أن أسميه «القارئ المترفه» .
يجب إذن أن نغير من مقاربتنا التقليدية لعادات القراءة، وأن نركز على اكتساب مهارات وفق الأسانيد الجديدة لمساعدتنا في الحفاظ على قدراتنا على القراءة الرقمية لكن ليست أية قراءة ، بل القراءة الرقمية المعمقة .
هل أصبحت قراءتنا المعمقة في خطر!؟
الكاتب : عبده حقي
بتاريخ : 19/01/2019