تقرير للمخابرات المركزية الأمريكية وتقارير عسكرية فرنسية تنبأت منذ 2008

بوباء عالمي مثل كورونا

n علينا أروبيا أن نعيد النظر في اتفاقية شينغن وفي آليات الإتحاد ونعيد

مساءلة نظام السوق

خلق السيد هوبير فيدرين وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، على عهد حكومة الزعيم اليساري الفرنسي ليونيل جوسبان، ما بين سنوات 1997 و 2002، الحدث منذ يوم الجمعة الماضية (27 مارس 2020)، حين كشف للإذاعة الفرنسية «راديو كلاسيك» عن وجود تقارير تنبؤية لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية ومؤسسات الجيش الفرنسية والأمريكية منذ 2008، تقول باحتمال حدوث وباء عالمي خطير يطال الجهاز التنفسي للبشر في أفق سنة 2025. وذلك ضمن حوار صحفي مطول شمل أيضا أسئلة قلق حول مستقبل أروبا واحتمال انهيار الإتحاد الأروبي، ومآل الديمقراطيات الغربية ونظام السوق العالمي. مثلما شمل تحليلا لمستقبل العالم مع الصعود الصاروخي للصين ودول آسيا الشرقية.
بالتالي فهو حوار دسم، على مستوى قيمة الأسئلة (للصحفي رونو بلون) وعلى مستوى الأجوبة الرصينة التي صدر عنها السيد فيدرين، من موقعه كواحد من الأطر السياسية والفكرية لليسار الفرنسي وللحزب الإشتراكي الفرنسي، الذي يعتبر من تلك النخبة الشابة التي راهن عليها الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران لتجديد الرؤية الإشتراكية سياسيا واقتصاديا ومؤسساتيا للحزب الفرنسي ذاك.

n السيد هوبير فيدرين، مرحبا، أريد أن أنقل إليكم عبارة قالها الكاتب سيلفان ديسون مفادها «أن سرعة انتشار الوباء ليس مفاجئا، بل هو نتيجة للعولمة التعادلية». هل أنت متفق معه؟
pp لست فقط متفقا معه في ما قاله، بل أيضا مع الكثير من التوقعات التي أطلقتها مؤسسات عسكرية أمريكية وفرنسية وكذا وكالة المخابرات المركزية الأمريكية التي سبق ونشرت سنة 2008 تقريرا توقعيا بعنوان «الإتجاهات العامة في 2025»، فيه الإشارة إلى وباء عالمي مرتبط بالجهاز التنفسي، وأن مداه سيكون شاملا وسيكون له تأثير على حركة الطيران العالمي، التي ستكون السبب في سرعة انتشار العدوى في كل القارات. مثلما سبق وقال بيل غيتس (بخصوص وباء الإيبولا)، إن العالم غير مهيئ لمواجهة وباء عالمي، وأنا هنا لا أريد أن أدخل في جدال عقيم أو اتهامي، لأن الظرفية تفرض سرعة التحرك لمواجهة الكارثة.

n لقد كتبتم السيد فيدرين أن أزمة كورونا قد كشفت غياب «منتظم دولي» حقيقي.
pp نعم لأن غايتي هي أن أجعل من يقرأني ينتصر للتحليل العقلاني، فنحن الفرنسيون ميالون أكثر للخيال والوهم، ما يجعلنا نلوك كثيرا مقولة «المنتظم الدولي». والحال أن تمة آلية للتعاون المتعدد الأطراف، تحاول العمل بهذا المدى أو ذاك، وهناك من هو غير مقتنع كثيرا بروح بروتن وودز (تأسيس صندوق النقد الدولي) ومنظمة الصحة العالمية، وبأدوارهما. بالتالي ليس هناك بالضرورة «مجتمع العقليات» بل «مجتمع الذهنيات». وكما ترون ففي هذه الأزمة نرى الدول تتصرف كل واحدة بشكل مختلف، بدليل شكل تعامل الدول الآسيوية التي استفادت من دروس تجربة مواجهة فيروس سارس منذ سنوات، حيث إنهم منظمون بشكل أفضل تقنيا وميدانيا، ثم شكل تعامل الدول الأروبية المختلف، وشكل تعامل باقي الدول الفقيرة. بالتالي، حين أقول بذلك فليس من باب المزايدة بل من باب التنبيه إلى أن حقيقة «المنتظم الدولي» هي مشروع للبناء ينتظرنا جميعا. وفي هذه المناسبة الصحية (الفجائعية للأسف) فهي فرصة لنرسم خريطة تحقيق ذلك فعلا.

n إذا فهمت قصدكم، فإن البعض حين يقول بالإنهاء مع العولمة، أنتم تقولون بتعديلها؟
pp الكثير ممن يتحدثون عن البقاء الإقتصادي يطالبون بالعودة إلى الحالة الطبيعية لما قبلها. وهذا أمر لا يستقيم مع حالة كانت غير طبيعية أصلا من قبل. مثلا الإستعداد لمواجهة الوباء لم يكن مثاليا. ومنظومة القيم لم تكن مثالية أيضا في تقييمها لدورة الإنتاج، إذ لصناعة سيارة يجب تجميع قطع الغيار الموزعة صناعيا على 30 بلدا، وهذا ليس مثالا على العولمة كنظام قائم منذ أزمنة سحيقة، بل يعود فقط إلى الثلاثين سنة الأخيرة للعولمة المالية التمويلية ذات النزوع الترتيبية للتوازن النقدي.
وهذا غير سليم، خاصة حين نسجل تبعيتنا اليوم في مسألة مجرد التوفر على الأقنعة الواقية من الفيروس، ويسري الأمر على مجالات أخرى مثل الأراضي النادرة وغيرها. وما أطالب به هو العودة إلى الوضع الطبيعي، أي تغيير ما يجب تغييره من نظام العولمة عبر تعزيز ما هو إيجابي ومعالجة ما هو سلبي منها.

n لو انتقلنا إلى أروبا، السيد فيدرين، سنجدها تأسست على التعاون وليس على التضامن. ولقد برز ذلك في شكل مواجهة وباء كورونا؟
pp أروبا هي في الأصل سوق مشتركة تأسست برعاية أمريكية والحلف الأطلسي (الذي هو مطلب صادر منهم وتم تحقيقه لصالحهم). ولقد تم توسيعه إلى سوق موحدة، ساهمت في خلق عدد من الثروات، بالتالي لا يمكننا محاسبة أروبا في المجال الصحي لأنه لم يطرح كموضوع من قبل داخلها ولم تمنح لها الإمكانيات الضرورية بخصوصه. وما نحن في حاجة فعلية إليه هو تعاون دولي حقيقي بين حكومات تحكم فعلا، ولا تلتجئ إلى بنية مؤسساتية مهلهلة وغير موحدة القرار. لكن هناك اليوم بعض القرارات الهامة للسيدة لاغارد، في المستقبل المنظور اقتصاديا. بالتالي ليس صائبا نقد الفكرة الأروبية في المطلق، بل إعادة النظر في الوضعية العالمية كلها، واستخلاص الدروس الواجبة. فالنقد لا يجب أن يكون معطلا للمعركة، بل مخصبا للحلول للإستعداد لجائحات أخرى قادمة.

n لكن، السيد فيدرين، حين نرى كيف أن الصين هي التي قدمت المساعدة لإيطاليا وليس أروبا، وأن تلك المساعدة الأروبية جاءت متأخرة، فإن ذلك يعكس كثيرا حقيقة وحدتنا الأوربية ومستواها، الذي هو العنوان لضعفنا في واقع الأمر.
pp إن طريقة اكتشافنا للصين مثير نوعا ما، من قبلنا نحن الذين كنا نعتقد أننا سادة البحار، وأننا ضمير العالم. بينما الصين هي القوة الأولى المكررة اليوم فوق الكرة الأرضية. صحيح أنها اعتمدت تقنية العزل الصارم للقضاء على الوباء، تبعا لثقافتها ونظامها، لكن لابد من قراءة لكل ذلك في المستقبل القريب. وشكل نظام السوق القائم هناك، الخليط بين المنظم والمتوحش، حيث التعايش والتساكن فيه بين وضعيات غير نظيفة بيئيا يطرح علامات قلق واستفهام، كون ذلك سببا في ميلاد عدد من الأوبئة. مما يجعل النموذج والنظام الصيني ليس كله إيجابيا. وفي نظري ليس النموذج الصيني هو المثير على مستوى المساعدة، فحتى روسيا تقوم بذلك، وأروبا ليست مكتوفة الأيدي بل إنها قامت بمبادرات مهمة جدا، من قبيل قرارات البنك المركزي الأروبي (التي اتخدت في أسبوع واحد وهو أمر قياسي غير مسبوق). والقرارات الألمانية غير المسبوقة للتخلي عن الدوغمائية المالية العامة المفروضة على الإتحاد الأروبي، مما سمح بإلغاء نظم 3 % و 60 %. وفي رأيي على الذين يحلمون فعلا بأروبا (قوية) أن يبلوروا أفكارا وليس فقط تقديم انتقادات في الفراغ.

n السيد فيدرين، هناك مفكرون وباحثون أروبيون ذوي مصداقية أكاديمية يقولون بأن أروبا بعد هذا الوباء وهذه الأزمة، إما ستتوحد أكثر أو إنها ستنهار نهائيا.
pp هذا إقرار عام يطلق دوما أمام كل أزمة تواجهنا. لكن علينا أن لا ننسى أن الآباء المؤسسين للفكرة الأروبية لم يكونوا يصدرون أبدا، بعد الحرب العالمية الثانية، عن فكرة أننا قوة بسبب التخوف من عودة منطق القوة بها، وبروز الدول المارقة داخلها (المفضي إلى الحروب المدمرة). ونسجل اليوم اليوم نوعا من الفوبيا المبالغ فيها، التي بسببها نجد مبدأ الرهان على احتياطيات استراتيجية في بعض القطاعات والمجالات. بالتالي، علينا أن نعيد مأسسة الحوار بيننا، فالدول الوطنية قائمة وستبقى، ونسبة النمو الأروبية هامة، لكن يجب العمل بالتكامل والتوافق وأن نحدد بدقة ما هو الإستراتيجي بالنسبة لنا. فأروبا ليست في حاجة إلى إعادة بناء من الصفر، كل ما علينا هو تحديد مجالات حاجياتنا من السوق العالمية والمجالات التي نمتلك فيها احتياطات استراتيجية. وتفاعلا مع سؤالك التشاؤمي، علينا بعد الحرب على كورونا أن نطرح السؤال التالي: ما الذي علينا الإبقاء عليه وما الذي علينا تغييره، وكيف علينا إعادة تنظيم ذاتنا لكي نعمل باستقلالية عن الآخرين. لأنه علينا الإقرار أنه خلال العقود الأخيرة أصبحت أروبا مرتهنة إلى حسابات الآخرين، بل وأحيانا ضحية استفزازاتهم على المستوى الجيو استراتيجي (مثل تركيا، أو العربية السعودية، أو إسرائيل). فنحن لم نخسر المعركة بعد.

n هل علينا العودة إلى أروبا أقل انفتاحا، منغلقة في حدودها، أو ما تسمونه «الحس الحدودي»؟
pp المقلق في معنى «الحس الحدودي» هو أنه كان آليا. لقد تمت بلورة فكرة شينغن وهي جيدة، حيث تم إلغاء الحدود الداخلية بين الدول الأعضاء في الإتحاد الأروبي، لكننا نسينا الحدود الخارجية للإتحاد. وحين أدعو إلى تقوية سياسة الحدود الخارجية فليس الغاية هي الإنغلاق، فهناك فرق كبير بين الحدود والأسوار. بالتالي ما أدعو إليه هو حسن تنظيم الحدود الخارجية، وأن لا نكون سدجا، بل علينا ترسيم تعامل أذكى مع موجات الهجرات الخارجية، وهذا لن يتحقق سوى بالتنسيق مع بلدان المصدر وبلدان العبور. بالتالي علينا التفكير في شينغن جديدة.

n يحاول الرئيس ماكرون قيادة حرب ضد كورونا، وقال إن ما بعد كورونا لن يكون مثل ما قبلها. مما يعني أن الإنتظارات كبيرة على مستوى التغيير مجتمعيا وتدبيريا في فرنسا.
pp نعم هناك انتظارات كبيرة جدا. وإضافة إلى الجملة التي أحلتم عليها أنا أتوقف أكثر عند عبارة أخرى مفادها أن علينا إعادة نظر في نموذجنا التنموي العالمي الذي أبان عن محدوديته، أي أنه علينا مساءلة نقط ضعف ديمقراطياتنا. فالأمر إذن ليس مجرد الدفاع عن الديمقراطية، بل إعادة إبراز حيوية دورها. فرئيس الدولة له الحق أن يطلق أفكارا للحل، لكنه عمل جماعي وليس فرديا. وأكثر من ذلك هو عمل فوق فرنسي ولن نقوم به وحدنا. فعلى أروبا أن تساءل آليات عملها (البرلمان الأروبي، البنك الأروبي، شينغن،،، إلخ)، وعلى الولايات المتحدة أيضا أن تقوم بذلك في ما يخصها بالعلاقة مع العالم. فهذا عمل المستقبل بعد القضاء على الوباء، بروح مسؤولة بناءة وليس بروح انتقامية تدميرية. وهذا عمل جماعي إلزاما، سواء داخل فرنسا أو داخل أروبا أو بالعالم.

n ألسنا في النهاية، السيد فيدرين، أمام لحظة تاريخية ل «الما بعد»؟
pp علينا أن نبدأ من الآن. مثلا علينا استخلاص الدروس من تجربة الدول الآسيوية ما بعد فيروس سارس ثم كورونا، لنكتسب خبرة أكبر في مواجهة الأوبئة. ثم علينا بلورة نظام عالمي تعاوني أكثر، توقعي وفعال. وأيضا إطلاق حوار عالمي حول نظام السوق بكل ما له وعليه، وهذا أمر لا يتم بسرعة، بل يتم إنضاجه بمسؤولية.