عندما يستقيم عود الحديث عن الهوية في الأعمال الإبداعية ، يتبادر إلى ذهني سؤال يبدو جوهريا ؛ أثمة انفصال بين الإبداع والهوية ؟ وفي ذات الاتجاه ، هل الإبداع يكون صادرا عن أدغال ذات تمرغت في بناء قلعتها الحصينة عبر الزمن ؟ أم هو عبارة عن أصوات تتصادى في المخيلة ؟ أو بعبارة أخرى ، ما من حديث عن الهوية ، إلا ويكون مرفوقا بإشكالات الأنا في امتداداتها المعرفية والثقافية ، وبهذا ومن جهة أخرى ، فإلى أي حد يمكن اعتبار أن الهوية تنسلخ عن الذات المعرفية ؟ و بالتالي أضحت مجرد صورة انعكاسية لذات إيديولوجية متخفية في الإبداع .
أ ـ الفن من أجل الفن
ولا شيء يظهر في الأفق
إن العلاقة التي تربط بين الهوية و الذات تجاوزت المدى ، فالتهديد أصبح قويّا عندما تم استعمال ، وبإفراط ، الفلسفة العقلانية ؛ الديكارتية كمثال. فالبحث عن مستلزمات المد الحضاري الأوروبي ، مع الثورة الصناعية ، كان نتيجة فوران العقل الفزيائي و الرياضياتي ، الذي دام زهاء ثمانية قرون . وفي هذا ، تم تقديم الآخر الأوروبي إلى العالم ، فوق طابق من ذهب ، متفوقا و غازيا و مستعمرا ومهددا للهويات أيضا . فعادة كل التعاريف ، التي انهالت على رسم معاني الهوية ، تتقاطع على سمت ما يصمد فينا أمام عوادي الزمن ، و تقلبات المنازل .
فما من سبيل نحو تأكيد هذه الهوية، في العمل الإبداعي ، دون وصف أهم الملامح الخارجية للأبطال ، أو تبني مواقفهم النضالية و الأيديولوجية. فكثيرة هي الأعمال الروائية و القصصية العربية ، التي سارت على هذا النحو ، بهدف التحصُّل على دمغة الخصوصيَّة والتفرديَّة ، فما كان لعبد الكريم غلاب إلا أن يدشن هذا الضرب من الكتابة الروائية ، التي يشير فيها إلى مدينة فاس وبالضبط إلى دار الدباغ ، يقول في روايته الذائعة الصّيت ” المعلم علي ” : ” وأنت أيضا مخطئ ، يوم الدباغين معروف منذ كانت بفاس دار الدبغ ، الأمناء يجتمعون فقط لمباركة البرنامج وقراءة الفاتحة … ” . إن هذه الدمغة الطبغرافية لا تمحي حين يتم ربطها ووصلها بأواصر بلاغية ، أو خصوصا عندما يعرج غلاب على وصف فاس وأهلها ، فتصبح وثيقة شهادة ميلاد لانتماء إلى صحن الحضارة الضاربة جذورها في التاريخ العريق ، يعتمدها كل باحث . يقول غلاب عن فاس : ” بدأت الصمايم تودع مدينة فاس بعد أن لفحتها بلظى جحيمها . وأخذت هبات من نسيم الخريف ، رغم ضغطه وغبش أنواره ، تنعش النفوس التي كانت تتلمس نسمة هواء …” .
إن نزوع الذاتية في الإبداع لا يستقيم عودها إلا بواسطة الوصف الدقيق ، بما هو منز ع بلاغي نستحضر من خلاله صورة الملبس ، الذي يمثل أيقونة سيميائية ، تؤشر للمرور نحو عوالم تراثية زاخرة بالرموز و الإشارات . علاوة على ارتباطها الوطيد بلحظات تاريخية مفصلية ، تكون الهوية بحاجة ماسة إلى دعم وتماسك متينين ؛ بهدف الوقوف أمام طمس أو تشويه ممنهج يطال الهوية التي تراكمت في المتخيل الإبداعي ، ومن ثَم نحو استيلاب قاهر ، ينم عن عجز عن تحقيق الذات و الدفاع عن قلاعها الحصينة. يقول غلاب في ” دفنا الماضي ” : ” … والأنشوطة تقوم مقام الزر . وفي الأنشوطة التي تضغط على العنق غنى عن الزر ، وفيها ما يتحدى الزر و المدنيّة التي أتت بالزر … وفوق القميص كان يلبس عادة ما يسميه بالمنصورية ، وهي لا تختلف كثيرا عن القميص في شكلها العام ، ولو أنها من ثوب أقل خشونة ويزين صدرها شريط مظفر من حرير …” . فمن خلال هذا المقطع ، يتضح أن الوصف البلاغي ، الذي تقدم به عبد الكريم غلاب ، ساهم في الإحساس الدافئ ، بما هو يعضد من لحمة الجماعة ، التي ترى في الهوية المشتركة تأكيدا للانتماء ، ومقاومة غير معلنة للمستعمر الذي يجاهد في محو تلك الخصوصية ، و التنوع الفسيفسائي الذي عُرف به المجتمع المغربي .
ب ـ أ هو تواصل أم اعتراف باستبداد طاغ ؟
في رواية ” الآن … هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى ” لعبد الرحمن منيف ، نحس نحن العموريين أو المورانيين نتعذب في أقبية القمع و الذل والعار ، فأصبح كل ذلك ميسما دأبت عليه شخوص الرواية . إنها حملة تطهيرية لجسد يعاني التشظي و التداعي و الاضمحلال . فمن خلال طالع العريفي و عادل الخالدي ، أمست الهوية هويتين ؛ هوية تطمح نحو معانقة الحرية السرابية ، وهوية متساكنة ومتخاذلة ومتملصة ، وأخيرا خنوعة … فالحوار الذي أجراه كل من العريفي و الخالدي ، وهما على فراش التطبيب في براغ ، بصما على ماض مشترك بينهما ، يتطلعان به إلى الحرية و الديمقراطية ، بما هما أصبحا من هسيس الجنون . يقول عبد الرحمن منيف في بداية الرواية : “بدا موتي وشيكا … أطلقوا سراحي ! لم يكونوا راغبين أن أموت عندهم …» .
إن أدب السجون يعري واقعا موبوءا هجره الأمل ، وسكنه الألم . لذا فهذا الضرب من الروايات يلاقي نجاحا مبهرا ، وخصوصا عندما يكون صادرا عن معاناة حقيقية تؤصل و توثق بأحداث واقعية ، أشبه ما تكون بالسيرة الذاتية الحقيقية ، حيث إن ذات المتلقي تصبح امتدادا شرعيا لمعاناة شخوصها . بالمقابل تتقوى دائرة النجاح الروائي عندما يصبح الإبداع مشتلا حيّا للرموز ، و هي تعوم في مائها النمير . وفي ذلك نجد أن سجن « باستيل « ، في باريس ، الذي هو رمز من رموز التخلص من الاستبداد و طبائعه ، غدا عند منيف صانع الثورة والتحرر ، و معانقة الحرية في أسمى تجلياتها . وعليه ، يقول عبد الرحمن منيف على لسان الراوي : « من المعالم الأساسية التي حرصت على زيارتها خلال الأيام الأولى لوصولي إلى باريس : باستيل ! أريد أن أرى السجن الذي صنع الثورة ، وغير معالم الكون ، وربما لايزال « .
فالهوية الإبداعية لا تتأتى إلا بمباشرة الفعل الروائي ، وإن كانت الروايات ، التي تلهج بعذابات أقبية مظلمة ومعتمة ، لا تعد على نمط واحد ، بالرغم من وحدة الموضوع . فعبد الرحمن منيف سلخ مدة طويلة في الإبداع ، وهو يكشف عن هنات المجتمع العربي ، بالموازاة مع ذلك لا يمكننا أن نفصل « الأنا «المبدعة عن « النحن « المتلقية حسب نظرية التلقي . فالنص الإبداعي حمَّال أوجه و متعدد الصفات والتأويلات ، فلا تستقيم القراءة إلا عندما تختلط الذوات و تتفاعل فيما بينها ؛ لتنصهر في بوثقة واحدة ، وبالتالي يتحصَّل الهدفُ من الرؤية الفنية للعمل الإبداعي . فبين الهوية والإبداع تتشظى المرايا العاكسة لقضايا وهموم المجتمع ، فالفن من أجل الفن يصبح عديم الجدوى ، إذا لم يبحث الإبداع عن مثقف عضوي فاعل في الساحة النضالية ، ومحرك بندول ميناء الزمن نحو ما هو أفضل ، أو بالأحرى نحو ما هو مشع باعث لنسمات الحرية، والانعتاق من العبودية المزمنة .