الهلع (la sidération) كانت من أكثر الكلمات المستعملة من طرف المعلقين في حديثهم عن المشاعر الفردية و الجماعية التي رافقت حياة البشر خلال مرحلة تفشي وباء كفيد 19.
بالنسبة للقاموس الفرنسي (Le Robert et Larousse) تتطابق كلمة سيديراسيون مع «انقراض مفاجئ للوظائف الحيوية الشيء الذي يؤدي إلى وضعية موت ظاهرية تحت تأثير صدمة عنيفة». هكذا تنصب على الإنسان الهلوع «التأثيرات الفتاكة للكواكب». فيصبح مخدرا مشدوها و مذهولا. كما أن استعمال هذه الكلمة بالانجليزية يؤدي إلى مفهوم الضائقة و الانقراض والمحق. إن استعمالنا لعبارة الهلع لترجمة هذا المفهوم يستند إلى ما يؤكده لسان العرب (ابن منظور) بأنه يعني الإنسان المنهار بفعل الخوف. ويعتمد هذا القاموس على الآية 19 من سورة المعارج في القرآن الكريم : « إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا» فالخوف هو أولا من الله تعالى.
هكذا تولد عن جائحة كورونا وضع مرضي يتقمص قلقا غير مسبوق بقدر ما أصبح الفيروس فالتا و غير مرئي ليؤدي إلى الهلاك. يذكرنا ذلك بإنسان قلق بطبيعته يرهب مثلا ركوب الطائرة وهو الآن يعترف بخوفه من الخروج من منزله للتبضع في أحد الأسواق الكبيرة.
لقد عملت وسائل الإعلام على تضخيم القلق عبر العالم من خلال صور التعبئة الطبية داخل المستشفيات المكتظة بالمصابين في حين فرضت الدول حجرا صحيا على ساكنة العالم بهدف فرملة انتشار الجائحة.
هكذا تمكن الخوف المفزع من توحيد حياة الناس و كذا تصرفاتهم. و أصبح الهلع أحد تعابير العولمة بشكل غير مسبوق وفي ذات الوقت مؤشر على هشاشتها المفرطة.
في هذا الإطار استعملت فرنسا كلمة (الحرب) للتعبير عن الظرفية الراهنة إثر اندلاع الجائحة . ووظفت لتكريم شخصية الجنرال ديغول، محرر فرنسا بعد احتلالها (وضعية هلع) من طرف النازيين. و في المغرب قامت الدولة بإشهار تعبئة جهادية (بالمفهوم الإيجابي و الحقيقي) لمحاربة الوباء. واستعمل مفهوم (الجهاد الأكبر) للتعبير عن العمل الضروري من أجل إنقاذ الاقتصاد الوطني إثر الخروج من الأزمة الصحية على غرار ما كان المغفور له الملك محمد الخامس قد قال به غداة رجوعه من المنفى و حصول البلاد على استقلالها.
إن شيوع الهلع عالميا، كان له تأثير على مسار العلاقات الدولية، إذ أنه غذى التصرفات العنيفة عند كل من يعمل على توظيف النظريات التآمرية، الشيء الذي تجلى في صعود توتر بيولوجي أو بكتريولوجي بين الولايات المتحدة و الصين. هكذا جاءت الحرب الصحية لتزيد من حدة الحرب التجارية بين الطرفين. لا شك أن هذه المقاربات تغذي داخل الدول صعود التيارات الشعبوية وتوجهات القومية المتطرفة. و لاشك أنها تساهم كذلك في ترسيخ أزمة منظومية (تعددية الأطراف). تجلى ذلك في إعلان الرئيس ترامب ابتعاد بلاده عن المنظمة العالمية للصحة التي اتهمها بمحاباة الصين و الانخراط في أطروحاتها بعد أن كان البلد الذي أعلن رسميا عن أول إصابة بالفيروس.
من المعروف أن اندلاع الأزمة الصحية انطلاقا من مدينة يوهان في الصين و إخضاع ساكنتها الى العزل الصحي من طرف السلطات العمومية أدى الى تهاوي القيم المالية في البورصات العالمية على غرار ما حدث بعد 11 شتنبر 2001 و أزمة 2008 و إلى انهيار عنيف لأسعار المحروقات، خلق هلعا غير مسبوق عندما أصبح سعر النفط سالبا في أسواق المواد الأولية بالولايات المتحدة. و اتسع فضاء الهلع بعد انتقال مراكز البؤر من الصين الى أوروبا ثم روسيا فالولايات المتحدة و البرازيل.
ضرورة تجاوز الهلع
من المفروض ألا تنسى الإنسانية كلها هذا الهلع الكبير الذي ألم بالعالم و سيكون على هذا الأخير أن يستخرج من هذه الفاجعة درسين أساسيين :
أولهما : أن العولمة اليوم و هي في مرحلة التقدم القصوى أصبحت مصدر اللايقين. وأصبحت بتعقيداتها تعكس هشاشتها الذاتية و هشاشة الإنسان وهذا يقتضي ابتكار تصرفات متجددة خاصة في المجالين السياسي و الاقتصادي في اتجاه ينتصر فيه التواضع و التضامن.
وثانيهما : يتعلق بقوة الترابط أو التبعية المتبادلة بين الأمم و اقتصادياتها و المعاش الحياتي للناس عبر العالم في كلا الاتجاهين : الأحسن (الصحة، النمو، التكافؤ، البيئة) أو الأسوأ (الجائحة، الهلع، التسلط، الأزمة الاقتصادية).
فبعد خروجه من الأزمة الصحية سيحتاج العالم، كما سبق أن قلنا في مقال سابق، إلى بناء أسس لسكينة متجددة و استخراج الدروس من توالي الصدمات التي اهتز لها منذ بداية هذا القرن : أحداث 11 شتنبر 2001، الانكماش الكبير لسنة 2008، و أزمة الكفيد 19 لسنة 2020. وهذا يتطلب محاربة العجرفة سياسيا و «الأمولة» المسرفة اقتصاديا واللاتكافؤ اجتماعيا. كما سيكون على العالم أن يعمل على تنفيذ الالتزامات التي توافقت عليها الدول في نهاية 2015 حول الحد من الانحباس الحراري.
ستواجه الحكومات في كل بلدان العالم و مهما كان مستوى نموها إشكاليتين في المدى القصير :
– إشكالية تمويل برامج محاربة آثار الجائحة صحيا و اقتصاديا.
– و إشكالية تتعلق بمخلفات الانكماش الجديد عبر شيوع البطالة و نتائج ذلك على مستوى الأجور التي ستميل الى الانخفاض.
إنه من اللازم في المدى القصير تنظيم مشاورات دولية في إطار مجموعة السبع ومجموعة العشرين بمشاركة صندوق النقد الدولي والبنك العالمي و كذا مؤسسات الأمم المتحدة تحقيقا لإشراك الدول الفقيرة و النامية من أجل الوصول إلى حل مشكلة تراكم مديونية الدول. فهي مديونية ارتفعت بشكل استثنائي وغير متوقع و تتطلب بالتالي حلولا ذات طابع استثنائي.
ستكون كلفة المديونية جد ضعيفة لدى الولايات المتحدة لأن بنكها المركزي قادر على إصدار عملة الدولار المهيمنة عالميا. كما تسعى بلدان الاتحاد الأوروبي إلى ابتكار أداة تعاضدية لتدبير مديونية دولها في إطار مقاربة تضامنية (إعلان المندوبية الأوروبية يوم 27 مايو عن برنامج انقاد مشترك ب750 مليار أورو). كما تكلفت البنوك المركزية في كل البلدان الكبرى بإعادة تمويل الديون العمومية في ظرف يتسم بكلفة سالبة لمعدلات الفائدة المديرية.
لذا يجب توجيه المشاورات الدولية حول طريقة معالجة ديون البلدان الفقيرة و النامية بهدف النقص من تكاليفها.
يجب السهر على أن لا تستند إعادة الحياة الاقتصادية على مجرد وضع برامج انطلاقية كما حدث ذلك بعد أزمة 2008. فالعالم لا يحتاج إلى الرجوع إلى مقاربة «كنزية» كما حدث بعد 1930 و 1945 . إنه يحتاج إلى «كنزية» نوعية و متجددة لمحاربة انحرافات العولمة و التي تجلت في صعود العجرفة سياسيا و «الأمولة» وشيوع التوجهات النيوليبيرالية ومعها الملاذات الضريبية اقتصاديا و تفاقم تفاوتات في توزيع الثروات و المداخيل اجتماعيا و تفاقم الانحباس الحراري بيئيا.
إن العالم أمام منعرج ما بعد كفيد 19 الشيء الذي يقضي باعتبار ما هو أساسي لحياة الناس : مزيدا من العناية بالصحة و التعليم، مزيدا من التكافؤ الاجتماعي، ومزيدا من حماية البيئة.
إن الطوباوية لا تعني في بعض الأحيان التخلي عن الواقعية. إنها فرصة لعلم الاقتصاد للانخراط في بعض المفاهيم قصد تجديد الاقتصاد السياسي و تجاوز عجرفة مفهوم «الإنتاج الداخلي الإجمالي « ومعه التشبث المطلق بالمدى القصير. فبجانب البحث عن الفعالية وهي من صلب الاقتصاد السياسي يجب السهر كذلك على الاعتناء بالمقاربة التضامنية و الاهتمام بالمدى البعيد أي بمستقبل الأرض و البشرية.
سيبقى «الإنتاج الداخلي الإجمالي» حاضرا في جدول الأعمال خاصة إذا ما اعتبرنا ضرورة تحقيق مزيد من النمو لدى البلدان الفقيرة و النامية . وبدون ادعاء التخلي عنه لصالح مفهوم «السعادة الداخلية الإجمالية» كما يقول البعض، يجب العمل على تغيير طريقة احتسابه بإدخال عناصر جديدة : درجة التكافؤ أي مستوى توزيع الموارد و الثروات، درجة تغطية الحاجيات الأساسية للإنسان صحة و تعليما وسكنا، درجة احترام الضوابط البيئية أي محاربة الانحباس الحراري.
المغرب و استعادة التموقع و قضية التنمية
كما سبق القول ستكون ما بعد كفيد 19 فرصة لبلادنا في إطار تفكيرها لمراجعة النموذج التنموي لكي تهتم بكل المواضيع المتعلقة بمستقبل العولمة. إن الأزمة الحالية صحيا واقتصاديا ستساعد على تقوية مقاربة الأقلمة و إعطاء العناية القصوى لفضاء القرب من أجل تملكه لشبكات القيم العالمية في إطار حركية (استعادة التموقع)
(La relocalisation) من أجل حماية الأوطان من محاذير التبعية إزاء الفضاءات البعيدة.
إن هذا يتطلب منا تجديد التفاوض في علاقاتنا مع مجال القرب أي مع أوروبا جارتنا الشمالية التي يجب أن تنفتح على منطق تعاون جديد مع الفضاء الجنوب متوسطي و الإفريقي على أساس الإنتاج المشترك. إن من مصلحة البلدان الأوروبية أن تعالج ملف استعادة التموقع والتملك المتجدد لشبكات القيم العالمية في إطار إقليمي يتجاوز أوروبا. هكذا فإن معالجة ملف استعادة تموقع الصناعات الذي يشغل الأوروبيين حاليا يجب أن ترتبط بتدبير ثنائية (التنمية و الهجرة) في الفضاء الأفريقي والجنوب متوسطي.
لايمكن إلا أن نأسف لغياب المشروع المغاربي لكن هذا لا يمنعنا من التشبث به من أجل إحيائه. إن المشروع المغاربي المستحيل اليوم يبقى ضروريا للغد (إنها فرصة للتذكير بالدور الطلائعي للمرحوم عبد الرحمان اليوسفي الذي غادرنا هذه الأيام، من أجل تحقيق الفكرة المغاربية) ومع إفريقيا قارتنا وأوروبا جارتنا شمالا يجب أن نساهم في إحداث قطب جديد يتمحور إشعاعه انطلاقا من مركزية البحر الأبيض المتوسط بهدف العمل على الدفع بدينامية تعددية الأقطاب متقاسمة و متكافئة. وبذلك سنساهم في العمل من أجل إخراج الحالة المرضية للهلع السائدة حاليا بالعالم.
30 مايو 2020
* باحث مصاحب لمركز الأبحاثPCNS
مؤلف «نحن و العولمة جواب الجنوب»
المركز الثقافي للكتاب
الدارالبيضاء، بيروت 2020
و ما بعد الهلع ؟…
الكاتب : فتح الله ولعلو *
بتاريخ : 09/06/2020