هي مظاهر ومشاهد إما عشناها أو واكبنها كأحداث ، منها ما يدخل في إطار نوسطالجيا جمعتنا ومنها ما هو حديث مازلنا نعيشه ، في هذه السلسلة نحاول إعادة قراءة وصياغة كل ما ذكرنها من زاوية مختلفة ، غير المنظور الآني في حينه لتلك المظاهر والمشاهد والتي يطبعها في الكثير من الأحوال رد الفعل والأحكام المتسرعة ، وهي مناسبة أيضا للتذكير ببعض الجوانب من حياتنا ، وببعض الوقائع التي مرت علينا مرور الكرام بدون تمحيص قي ثناياها…
بعد صلاة العشاء سيدخل باكو كما هي العادة والفريق الذي يرافقه، إلى ما يعرف بـ « فتوح الرحبة وهي المرحلة التي تفتح فيها « الطبيكة « وتظهر الألوان وكل لون يرمز إلى ملك من لملوك، تفتتح هذه المرحلة بالصلاة على الرسول، ويبدأ الغناء والاستجداء بالصحابة والأولياء، وهي أهم مرحلة في الليلة الكناوية، بحيث يدخل الجذابة في موجة من الجذبة والمرضى « يتحيرون « مع الألوان التي ترمز للملك الذي يسكن ذواتهم، وباعتراف كناوة فالتماهي مع كل ملك عند العازف هي عملية مضنية، وتزداد صعوبة إذا كان الجذاب عنيدا ولا يسقط بسرعة، إذ دور لمعلم الكناوي أن يعزف حتى يسقط المريض الذي يجذب، لذلك لم تكن الطائفة الكناوية متشددة في شروط تامعلميت بسبب نزوة أو تعال بل إنها تعلم صعوبة الحضرة، وما قد يحدث فيها من حوادث، لذلك فهي لا تبصم ولا تطبع إلا للعازف الصنديد الذي يملك قدرة التحكم في ليلته من ألفها إلى يائها، ويكون خبيرا في عالم لملوك وأنواع الجذبة التي تتلاءم معه ليحط «النقط» أو النغم الذي يتجاوب مع كل حالة .
كان باكو، وهو هائم في ليلته، ينتقل من ملك إلى ملك ومن نغمة إلى أخرى، يتجاذب مع الأرواح الراكنة في الذوات الراقصة أمامه مركزا على هزمها في شبه معركة مضنية بالنسبة له كمبتدئ مغامر ، ضاربا ألف حساب لأعين لمعلمين المتربصة به، والتي لربما سايرته في حماسه، حتى يقتنع بأن تامعلميت ليست تلبية رغبة وأهواء أو غرور عابر، وهو كذلك يحسب الدقائق ويقفز من شوط إلى شوط راجيا أن ينال الرضا والقبول، وكلما اجتاز شوطا حمد الله وشكر ، إلى أن ظهر إنسان أمامه مغطى كلية بإزار، يمشي مشي المومياء يتلوى في رقصه بشكل سريع وغريب، هذا الشخص لا يرقص فقط وإنما يذهب بجسده بتلك الطريقة التي ذكرنا إلى الأماكن الخطر ، كالثقوب الواسعة ليزرع فيها رأسه، أو يقصد المرحاض ليدفع برأسه في القواديس الضيقة، المشهد كان مرعبا دفع بجل لمعلمية الحاضرين إلى وضع أيديهم على آلاتهم للتدخل في العزف، إن أعيى هذه الجذاب الخطير أنامل باكو الشاب المغامر، لأن بإمكانه أن يضع رأسه في أي ثقب أو زاوية ويختنق، كل ما يتحكم في الإحجام عن إقدامه على ذلك هو النغم والنغم فقط وليس أي جهد بدني، لأن الرجل بطريقة رقصه تلك يبدو أنه يتحدى أي جهد بدني يقابله، علم باكو وهو مركز على عزف النغمات التي يتطلبها هذا المشهد المرعب، بأنه بصدد أحد أصعب لملوك، وهو ملك الحنش، الحاضرون كلهم يعلمون بأن أعتى لمعلمية يتهربون من عزف هذا لملك، كان باكو يتصبب عرقا وقد أخذ منه التعب مأخذه وهو يحاول إبعاده عن الخطر، أكثر من ساعة ونصف وهذا الجسد يجذب وعبد الرحمان يسايره حتى أدمى أصابعه العازفة، ولكنه صبر على ذلك النزيف ليجتاز هذا الاختبار الصعب الذي سيحدد مسار حياته، فإما أن يصبح معلما كناويا أو يلتحق بجيش الملقبين بـ « لكريمية « ، عزف فعزف إلى أن سقط الرجل ودخل في غيبوبة، أخيرا هزم باكو الصغير ملك الحنش قاهر كناوة، بمجرد ما استفاق الرجل من غيبوبته حتى وصلت إلى مسامع باكو عبارة « اللي يزين الصنعة « ، القادمة من ألسن لمعلمية الذين كانوا بمثابة حكام، وهي عبارة تعني قبوله في عالم تاكناويت، وبأن لمعلمية بدون استثناء طبعوا وبصموا على أنه « معلم كناوي «، فتعالت الزغاريد في الحي وبدأت التبريكات والتهنيئات، وذاع الخبر في كل أرجاء الصويرة ، فعبد الرحمان كسر المألوف والمتعارف، وقلب كل « التشريعات» الكناوية السابقة رأسا على عقب، لأنه كان من غير المستساغ أو المقبول ولوج أي شاب عالم تامعلميت، كما أقنع أصحاب الفكر القديم بأنهم مخطئون في انغلاقهم وغلق الباب أمام هذا الموروث الفني الذي من المفروض أن يكون متاحا للجميع، فهاهو يخرج من الأسوار ويعانق الهيبي ويأتي من مستقرهم بالديابات ليجابه عتاة لمعلمية في عالم كناوة، ولو ظل قابعا منتظرا وسط الدروب لما كان قد أعلن عن موهبته أبدا، في الصويرة أصبح باكو نموذجا لأبناء جيله الذين خاضوا تجارب التحدي في مجالات عديدة، نجاح باكو لم يكن محليا بل ذهب بانتصاره إلى جعل «السنتير» يدخل العالمية، من خلال اختيار فرقة ليفينغ تياتر العالمية ليكون عازف الفرقة التي جاب معها العالم، معرفا بآلته وبعالم تاكناويت .
النجاح كان ضريبته أن أبناء بعض لمعلمية أصابتهم الغيرة، كون آبائهم فتحوا الباب لشاب لا ينتمي للطائفة ليصبح معلم كناوي ، فيما حرموهم هم من هذا الشرف !