واقع يتسامح معه البعض ويرفضه البعض الآخر : طقوس شهر رمضان ترفع من أعداد المتسولين في الشارع العام

التسول ظاهرة من الظواهر الاجتماعية التي تنتشر في مختلف المجتمعات، سواء في الدول الفقيرة أو الغنية، وتتفاقم هذه الآفة كثيرا في بلادنا خلال شهر رمضان، حيث يستغل بعض المتسولين الأجواء الروحانية والعاطفية التي تميز الشهر الكريم للحصول على تعاطف الناس وزيادة التبرعات، وهو ما يجعل أعدادهم ترتفع ويكون حضورهم أكثر قوة مقارنة بباقي فترات السنة.

 

إذا كان البعض يعتقدون بأن التسول ناتج عن الفقر لوحده، فالحقيقة أن هناك عوامل متعددة تؤدي إلى انتشاره، لذا يتطلب فهم هذه الظاهرة تحليلا عميقا لأسبابها وأثارها بالإضافة إلى استعراض الحلول الممكنة لمكافحتها.

المال السهل

تتعدد أسباب التسول، حيث تتدخل العوامل الاقتصادية والاجتماعية والنفسية في دفع الأفراد إلى هذا السلوك ومن أبرزها الفقر والبطالة، إذ يعتبران من الأسباب الرئيسية لهذا الفعل، خاصة في المجتمعات التي تعاني من ضعف الفرص الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة، فغياب الدخل الثابت يجعل بعض الناس يلجؤون إلى التسول كوسيلة للبقاء.
وتساهم الأمية أيضا ونقص التعليم في هذا الوضع، إذ يؤثر غياب التوفر على شهادات على قدرة الأفراد في العثور على وظائف مناسبة لهم، مما يدفعهم إلى البحث عن مصادر غير رسمية للدخل، ومنها التسول. كما أن عامل التفكك الأسري يكون له دور في تفشي هذه الآفة، فبعض الأطفال والنساء الذين يعانون من تشتت الأسرة أو من العنف المنزلي يحتضنهم الشارع، فيصبح التسول وسيلتهم الوحيدة للبقاء. إلا أنه ورغم المشاكل التي يمكن أن تكون دافعا للتسول فإن هذا لا يلغي وجود شبكات تستغل الأطفال والنساء وتقوم بالاتجار في البشر، كما أن هناك فئة أخرى تتخذ التسول كمصدر دخل دائم، حتى لو لم يكن أصحابها في حاجة حقيقية، فيستغلون تعاطف الآخرين لتحقيق مكاسب شخصية.
بين الحاجة والإدعاء
إذا كان هناك من يمتهن التسول ويجعل منه مصدرا دائما للعيش، فإن البعض يجد نفسه مضطرا إلى ذلك بسبب الظروف القاهرة، كما هو الحال بالنسبة لرشيد «اسم مستعار»، الذي التقته «الاتحاد الاشتراكي» وقبل الحديث عن قصة حياته، مبرزا بأنه كان يعيش حياة طبيعية، رغم أنه لم يكن يملك عملا قارا أو مصدر دخل ثابت، لكن المنعطف الكبير في حياته وقع حين تعرّض لحادث سير أفقده رجله اليمنى وجعله عاجزا عن إيجاد عمل يوفر له لقمة العيش، وصار فاقدا لأي وسيلة تمكّنه من تأمين احتياجاته الأساسية، من مأكل وملبس وعلاج، فلم يكن أمامه من خيار، حسب تصريحه، سوى اللجوء إلى التسول، ليس باعتباره مهنة، ولكن كحل أخير لسد حاجياته اليومية.
ورغم قساوة الظروف التي دفعته إلى هذا الوضع، إلا أن المجتمع غالبا ما ينظر إلى المتسولين نظرة شك وريبة، مما يزيد من معاناتهم، يقول رشيد، لأنه يرى بأن المسؤولية تقع على عاتق الدولة والمجتمع في توفير حلول لمثل حالته، سواء عبر تقديم مساعدات اجتماعية أو توفير فرص عمل تتناسب مع ظروفهم الصحية، وإتاحة فرصة لهم للعيش بكرامة دون الحاجة إلى مدّ أيديهم للآخرين.
خلافا لرشيد، وقفت الجريدة في تناولها لهذا الموضوع على حالة المرأة المسنة عائشة «اسم مستعار»، التي تتخذ من زاوية معروفة بأحد شوارع الدارالبيضاء مكانا لها تستجدي المارة فيه يوميا بعبارات تعاطفية، وهي ترتدي ملابس بسيطة توحي بالحاجة والعوز، لكن المفارقة الكبرى أن هذه السيدة ليست فقيرة، بل تمتلك دخلا شهريا ثابتا ومبلغا مهما جمعته على مر السنين من امتهان التسول، ومع ذلك لا تستطيع التوقف عن هذه العادة، ليس لحاجتها إلى المال، بل لأن التسول أصبح جزء من حياتها لا تستطيع التخلي عنه.
عندما سألناها عن سبب استمرارها في التسول رغم أنها تمتلك كل مستلزمات العيش الكريم، أجابت بصراحة مذهلة « لم أعد أحتاج للمال، لكنني لا أستطيع التوقف فالتسول أصبح جزء مني، أشعر بالراحة عندما أجلس هنا و أطلب المال وكأنني لا أستطيع العيش بدونه». هذه الإجابة تسلّط الضوء على مشكلة نفسية يمكن تصنيفها ضمن العادات المرضية، حيث يتحول سلوك معين إلى إدمان يصعب التخلص منه، حتى وإن لم يعد هناك دافع منطقي وراءه.

التسول من الزاوية النفسية
حين يتحول التسول إلى عادة مرضية، يصبح مشكلة تتطلب التدخل والتوعية، لأنه لا يؤثر فقط على الشخص الذي يمارسه، بل يضر المجتمع أيضا، وهو ما جعل «الاتحاد الاشتراكي» تتواصل مع «مريم الرايسي» الأخصائية النفسية الإكلينيكية، للحديث عن هذا النوع من الإدمان السلوكي، التي أكدت على أن التسول هو سلوك مكتسب بسبب الظروف، وليست له ميول فطرية، الذي يعتمد على مجموعة من العوامل مثل الفقر، البطالة، نقص الفرص التعليمية والتدريبية، والظروف الاجتماعية الصعبة، مبرزة بأن هناك علاقة بين التسول والاضطرابات النفسية، فالعديد من المتسولين يعانون الاكتئاب، القلق، اضطراب ما بعد الصدمة وغيرها من الاضطرابات التي يمكن أن تكون نتيجة للظروف الصعبة التي يعيشها المتسولون.
وأوضحت مريم بأن التجارب الصادمة مثل التعرض للعنف أو الفقر يمكن أن يكون لها تأثير سلبي كبير على الصحة النفسية للمتسولين، إذ يمكن أن تؤدي هذه التجارب إلى ظهور اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب، القلق، واضطراب ما بعد الصدمة، مبرزة بأن الإدمان هو أيضا يمكن أن يكون أحد الأسباب التي تدفع البعض إلى التسول، فالعديد منهم يدمنون على المخدرات أو الكحول، وهو ما يمكن أن يتسبب في فقدان العمل، الانفصال عن العائلة، والانزلاق إلى التسول.
وفي السياق ذاته، نبهت الخبيرة النفسية الإكلينكية إلى أن التسول يمكن أن يكون له تأثير سلبي كبير على الأطفال من الناحية النفسية والاجتماعية، ويمكن أن يؤدي بهم إلى الشعور بالخزي، العار، والانفصال عن المجتمع، كما يمكن أن يؤثر على تعليمهم، حيث يمكن أن يتسبب في انقطاع الدراسة أو عدم القدرة على مواصلة التعليم. وأشارت المتحدثة كذلك إلى أن النساء المتسولات، خاصة إذا كن ضحايا للاستغلال، يمكن أن يعانين من آثار نفسية خطيرة مثل الاكتئاب، القلق، واضطراب ما بعد الصدمة كما يمكن أن يعشن الشعور بالخزي، العار، والانفصال عن المجتمع. وأوضحت مريم بأن إعادة تأهيل الأطفال المتسولين نفسيا وإعادتهم إلى حياة طبيعية تتطلب جهودا متعددة، مثل تقديم الدعم النفسي والاجتماعي لهم، توفير فرص تعليمية وتدريبية وتقديم الدعم المادي والغذائي، وكذا تشجيع الأطفال المتسولين على المشاركة في الأنشطة الرياضية والثقافية.
اختتمت مريم تصريحها بالتأكيد على أن تقديم المال للمتسولين يمكن أن يزيد من المشكلة، حيث يمكن أن يؤدي إلى تعزيز السلوك التسولي، ويمنع المتسولين من البحث عن فرص عمل أو تعليم، وقد يتسبب في استغلالهم من قبل الأشخاص الذين يستفيدون منهم، مشددة على ضرورة تكتل الجهود لتأمين احتياجات من يعيشون حقا العوز والفقر.

تبعات جماعية
للتسول آثار سلبية متعددة على الفرد والمجتمع، فهو يعلم الاتكالية والجشع والعنف من أجل الحصول على المال، ويعطي صورة قبيحة عن المجتمعات، كما أن مظاهر التسول تحدّ من حرية المواطنين في التنقل والجلوس في الأماكن العامة بعيدا عن كل أشكال الإزعاج، وقد يتطور الأمر إلى ارتكاب أعمال إجرامية باعتماد النصب وغيره، ويضعف إنتاجية المجتمع، الأمر الذي يتطلب تفعيلا للقوانين، مع توفير بدائل وحلول عملية للمعوزين.

* صحافية متدربة


الكاتب : لمياء الرايسي

  

بتاريخ : 06/03/2025