
بحلول يومه الخميس 18 دجنبر 2025، تكون قد حلت الذكرى الخمسون على وفاة القائد الشهيد عمر بنجلون، فقد أثبت الشهيد أنه راهني في مواقفه المبدئية ورؤيته الاستشرافية، حيث لم يتردد في الدفاع عن قضية الصحراء المغربية، رغم التوتر السائد آنذاك، في منتصف السبعينيات، بين الدولة والاتحاد، ولم يضع الشهيد عمر بنجلون هذه القضية في ميزان الصراع أو ضمن معادلة التأزيم.
بعد نصف قرن على وفاته، تحقق حلم الشهيد عمر بنجلون بعودة الصحراء المغربية بكل ترابها إلى حضن السيادة المغربية بعد القرار التاريخي لمجلس الأمن الصادر بتاريخ 31 أكتوبر 2025 الداعم لمقترح الحكم الذاتي في الصحراء المغربية في إطار السيادة المغربية الكاملة.
كان الشهيد عمر بنجلون من أوائل الزعماء المغاربة الذين أكدوا على مغربية الصحراء وضرورة استرجاعها سلمياً في إطار السيادة الوطنية.
وقد كان رحمه الله من أشد المدافعين عن الوحدة الترابية للمغرب، معتبراً أن معركة الصحراء ليست مجرد قضية حدود، بل هي قضية وجود وهوية ووحدة وطنية، وامتداد طبيعي للنضال ضد الاستعمار والتجزئة التي فرضتها القوى الاستعمارية على المغرب الكبير.
ويعتبر الشهيد عمر بنجلون من أبرز القادة السياسيين والفكريين الذين طبعوا تاريخ المغرب المعاصر، ومن الرموز الاتحادية التي جمعت بين النضال من أجل الديمقراطية والوحدة الوطنية.
رأى الشهيد أن قضية الصحراء ليست مجرد نزاع حدودي، بل هي قضية وجود وهوية، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية داخل الوطن. فقد دعا إلى أن تكون معركة الصحراء قضية شعب بأكمله، تنخرط فيها كل القوى الحية السياسية والنقابية والمجتمعية دفاعاً عن السيادة الوطنية.
تزامن استشهاده سنة 1975 مع حدث تاريخي بارز تمثل في المسيرة الخضراء، التي أعادت الصحراء إلى حضن الوطن الأم. ويجمع كثيرون على أن بنجلون، لو لم يُغتل، لكان من أبرز الأصوات المدافعة عن القضية الوطنية الأولى في المحافل السياسية والفكرية.
لقد كان عمر يعتبر أن لقضية الصحراء الأولوية في انشغالات المناضلين وكانت كل رحلاته إلى الخارج، سواء في اجتماع الحقوقيين العرب بالجزائر العاصمة، أو أثناء زيارتين إلى فرنسا أو عندما سافر في يوليوز 1975 إلى هولاندا لمتابعة قضية الصحراء المعروضة آنذاك على أنظار محكمة العدل الدولية بلاهاي… كانت كلها مخصصة لقضية الصحراء المغربية.
كما شهد منتصف السبعينيات من القرن الماضي واحدة من أبرز المواجهات الفكرية والسياسية حول قضية الصحراء المغربية، جمعت بين الشهيد عمر بنجلون، القيادي الاتحادي البارز، وبابا مسكة، أحد مؤسسي حركة البوليساريو المنشقين لاحقاً عنها.
جاءت هذه المواجهة في سياق احتدام النقاش الإقليمي والدولي حول مصير الصحراء، قبل المسيرة الخضراء سنة 1975، حيث دافع عمر بنجلون بقوة عن مغربية الصحراء، معتبراً أن القضية ليست نزاعاً ترابياً، بل امتداد لمعركة التحرر الوطني ضد الاستعمار، وأن الشعب المغربي بكل مكوناته هو صاحب الشرعية التاريخية والقانونية على أقاليمه الجنوبية.
في المقابل، حاول بابا مسكة الترويج لطرح “تقرير المصير” على الطريقة الجزائرية، إلا أن بنجلون واجهه بحجج قانونية وتاريخية دامغة، مستنداً إلى روابط البيعة والسيادة المغربية التي تعود لقرون، وإلى تلاحم القبائل الصحراوية مع العرش العلوي.
وقد أبان بنجلون في تلك المناظرة عن وعي سياسي مبكر بخطورة الأطروحات الانفصالية، محذراً من محاولات تفتيت المنطقة خدمة لأجندات استعمارية جديدة.
ظلت تلك المواجهة شاهداً على صلابة الموقف الوطني الاتحادي، وعلى مكانة عمر بنجلون كمناضل جمع بين الفكر والسياسة والوطنية الصادقة.
وحتى بعد استشهاده في دجنبر 1975، بقيت كلماته شاهدة على أن الوحدة الترابية للمغرب ليست موضوعاً للنقاش، بل مبدأ مقدساً لا يقبل المساومة.
بعد خروجه من السجن، كتب الشهيد ” لسنا هنا في حاجة إلى التذكير بأننا لبينا نداء الواجب منذ أول وهلة، وبدون تردد، وأننا ساهمنا بآرائنا وبتحركاتنا وبرصيدنا في الداخل والخارج، من أجل استرجاع صحرائنا المحتلة، إيمانا منا بأن القضية هي قضية المغرب كله، قضية الأجيال السالفة واللاحقة، القضية التي يجب أن نتجاوز فيها جميع الاعتبارات والاختلافات المذهبية “.

هذا الموقف، كان يميز فيه بين الوطني الجامع وبين التدبير الرسمي، بين الأحقية الوطنية الثابتة و”الاجتهاد” الديبلوماسي، لذلك قال الشهيد عمر بنجلون “هذا لا يعني أننا سنصفق دوما لموقف الجهاز المسير، ولا لحركات وسكنات الحكومة، إن رأينا في هذه القضية المقدسة، وفي غيرها من القضايا الوطنية الأخرى، رأي واضح، وموقفنا منها موقف جدي لا يسمح بأي تهاون مهما كانت أسبابه ومقاصده، ولذلك، فإذا كنا قد جندنا أنفسنا للدفاع عن قضيتنا والمساهمة الجدية في خدمتها بإبداء الرأي وتقديم الاقتراحات، فإننا نرى أنه من حقنا، بل من واجبنا تتبع تطورات القضية بكل انتباه وحذر، وعدم التردد في التنبيه إلى مواطن الضعف، والتشهير بمكامن النقص والتنديد بالمواقف التي يطبعها التردد أو الإهمال”.
ومن منطلق الربط الدائم والجدلي الذي ميز فكر عمر بنجلون عن الديموقراطية في معركة التحرير، قال ” لأننا لا نرى أي تناقض أو تعارض بين التعبئة الفعلية والحقيقية من أجل تحرير الأرض، وبين المطالبة بإرساء أسس الديمقراطية الفعلية والحقيقية في هذه البلاد، بل إننا بالعكس من ذلك، نرى في الديمقراطية الفعلية والحقيقية الوسيلة الوحيدة التي بإمكانها أن تخلق الشروط الذاتية والموضوعية للنضال المرير الذي نحن مطالبون به، النضال من أجل استرجاع أرضنا وتحرير اقتصادنا وسياستنا وتشييد صرح مستقبلنا، تلك هي نظرتنا إلى الأمور، النظرة الشاملة التي يمليها علينا الارتباط الموضوعي القائم بين مختلف قضايانا الوطنية، الارتباط الجدلي الذي لا يسمح بعزل الجزء عن الكل، ولا بمعالجة الكل معالجة مجردة وكأنه لا أجزاء له، إنه نفس الموقف الصريح والواضح الذي عبر عنه مؤتمرنا الاستثنائي حينما ربط ربطا جدليا محكما بين التحرير والديمقراطية والاشتراكية “.
هذا ما أكده مولاي المهدي العلوي، الديبلوماسي والقيادي الاتحادي السابق، في كتابه ” أحداث ومواقف ” حين قال: “حديثي عن الراحل بن جلون يجرني إلى ذكر بعض المحطات التي برز فيها دوره مدافعا عن قضايا بلده وأمته وفي طليعتهما قضية الصحراء المغربية. فقد زارني رحمه الله في باريس بالتزامن مع انعقاد جلسات محكمة لاهاي الدولية التي حضرها ضمن الوفد المغربي. وبعد عودته إلى باريس قام باتصال مع قيادة جمعية اتحاد الطلبة المسلمين لشمال افريقيا (AEMNA)، الذي كان يرأسه سابقا، بغرض إلقاء محاضرة بمقره بحضور جمع حاشد من الطلبة المغاربيين من المغرب والجزائر وتونس ومصر وسوريا ولبنان. وكانت المحاضرة رائعة وواضحة المعاني عرض فيها اختيارات الحزب بشكل جلي، وكذلك الموقف من قضية الصحراء منذ جذورها التاريخية إلى حالها الراهن آنذاك. وقد اغتنم عمر وجوده بباريس لتوسيع اتصالاته الدولية، حيث حضرت معه صحبة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي اجتماعا بالجزائر من تنظيم جمعية القانونيين الديمقراطيين (Les Juristes Democtrates). وبالطبع كانت تلك مناسبة للقاء قيادة جبهة التحرير الوطنية الجزائرية (FLN)، إذ ظهر من الحوار الذي أجري معهم أن ثقتهم بالملك الحسن الثاني كانت ضعيفة، وأنهم فوجئوا باتخاذه لقرار المسيرة الخضراء دون علمهم، مع أنهم «كانوا يميلون إلى العمل المشترك بين البلدين لإيجاد حل لقضية الصحراء». وفهمنا من خلال الحديث معهم أنهم على استعداد للتعامل مع ما سمي آنذاك بالبوليساريو بكيفية واضحة على أساس أنها منظمة للتحرير. في هذا الصدد، أكد لنا إخوتنا المغاربة الموجودون بالجزائر، وهم من الشخصيات البارزة في حركة المقاومة المغربية، ومن الحركة الاتحادية، أنهم ليسوا على استعداد لمساندة الجزائريين في مساعيهم والدخول في أي عمل يمس بوحدة المغرب الترابية. لقد كان عمر يعتبر أن قضية الصحراء ينبغي أن تحظى بالأولوية في انشغالات المناضلين. وكانت كل رحلاته إلى الخارج، سواء في اجتماع الحقوقيين العرب بالجزائر العاصمة، أو أثناء زيارتين إلى فرنسا أو عندما سافر في يوليوز 1975 إلى هولندا لمتابعة قضية الصحراء المعروضة آنذاك على أنظار محكمة العدل الدولية بلاهاي… كانت كلها مخصصة لقضية الصحراء المغربية. لقد أبانت تلك التحركات الداعمة لقضية وحدتنا الترابية جدية حزب الاتحاد ورغبته في استئناف العمل مع النظام، بما يلزم من وضوح لإيجاد حلول لكل مشاكلنا الداخلية، إلا أن هذا المسار سيشهد تحولا بعد قبول الحسن الثاني رحمه لله بمبدإ الاستفتاء خلال مؤتمر نيروبي».
من جهته، أكد محمد المرابطين (الملقب بالسيكليس)، في مقال له بعنوان (عمر بن جلون: ربط التحرير بالديمقراطية والالتزام بقضية الوحدة الترابية): ” مع طرح إشكالية الصحراء المغربية سنة 1974، وبروز الأطماع التوسعية الجزائرية، وبحثها عن منفذ في المحيط الأطلسي، استدعى المغفور له الحسن الثاني المرحوم عبد الرحيم بوعبيد، عضو الكتابة العامة للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، على وجه السرعة إلى القصر الملكي في فاس، قصد فتح مشاورات سياسية بخصوص القضية الوطنية والوحدة الترابية والأطماع الجزائرية التوسعية، وكلفه بمهمة سياسية ديبلوماسية من أجل القيام بحملة لشرح والتعريف بقضية الصحراء المغربية وفضح المؤامرة الجزائرية وأطماعها التوسعية، وكانت المهمة الموكولة له تقتصر أساسا على الصين والهند ويوغسلافيا “.
وتابع: “رغم حالة التوتر التي كانت بين النظام والحزب، لوجود مجموعة كبيرة من قادة وقواعد الاتحاد الوطني في المعتقلات آنذاك، وعلى رأسهم عمر بن جلون، محمد اليازغي، مصطفى القرشاوي، أحمد بلقاضي، عبد العزيز بناني، محمد نوبير الأموي، الدكتور عمر الخطابي، مولاي عبد الله المستغفر وعلي المانوزي، وآخرون من مختلف الفروع.. لم يتردد عبد الرحيم بوعبيد في قبول المهمة، دون مساومة بخصوص إطلاق سراح رفاقه وأعضاء الحزب، على اعتبار أن القضية الوطنية أولى الأولويات.
وبالفعل سافر المرحوم عبد الرحيم بوعبيد إلى الشرق الأقصى وأوروبا، ونجح في تبليغ موقف المغرب ووجهة نظره بخصوص قضية الصحراء المغربية، وكذا إقناع قادة هذه الدول بوجهة نظر الحزب، معلنا أن لا مساومة على أي شبر من وحدة المغرب الترابية، إذ قام بدور ريادي في مسلسل المفاوضات والتفسيرات الدولية.
وأضاف المرابطين: “بعد عودته الى أرض الوطن، عرف المغرب انفراجا سياسيا، بالإفراج عن المناضلين المعتقلين قاطبة، وبدأت الاستعدادات لعقد المؤتمر الاستثنائي للاتحاد. ومع بداية سنة 1975 عقد الاتحاد مؤتمره الاستثنائي، الذي كان محطة تاريخية، حيث ولأول مرة، يتحدد الخط الإيديولوجي للحزب، من خلال مشروع التقرير الإيديولوجي الذي قام بصياغته والتقديم له الشهيد عمر بن جلون، حين كان متواجدا رهن الاعتقال في السجن المدني في القنيطرة “.
وفي السنة نفسها التي انعقد فيها المؤتمر الاستثنائي للحزب، سيكون مطروحا عليه النضال على الواجهتين، طبقا للتقرير الإيديولوجي، واجهة التحرير وواجهة الديمقراطية وكانت أول محطة، مؤتمر القارات الثلاث سنة 1975 المنعقد في الاتحاد السوفياتي، وقد حضر الاتحاد الاشتراكي ممثلا للمغرب بوفد يرأسه الشهيد عمر بن جلون وبعضوية لخصاصي وأيت قدور ومحمد الباهي، فيما ضم الوفد الجزائري الذي كان يرأسه البشير بومعزة “قيادي في جبهة التحرير الوطني” عناصر منشقة سميت آنذاك بشرارة ممثلي البوليساريو.
لكن المفاجأة لا تتمثل فقط في حضور عناصر البوليساريو ضمن الوفد الجزائري فقط، بل بإيواء الوفدين الجزائري والمغربي في فندق واحد. وهو ما أثار حفيظة الشهيد عمر بن جلون وطرح إشكالية تنظيمية أولها استحالة أن يستقر الوفد المغربي في الفندق ذاته الذي يضم المنشقين، وثانيا التمثيلية الجزائرية بوفد مختلط، معتبرا إياه غير مؤهل من حيث التمثيلية التنظيمية، لأنه غير مستدعى ولا تضمه لا لائحة المؤتمرين ولا لائحة الملاحظين في مؤتمر القارات الثلاث. وقد كان لهذه الإشارة الذكية للشهيد عمر صدى لدى فعاليات المؤتمر، وبادرت حينها اللجنة التنظيمية للمؤتمر بإبعاد وفد البوليساريو من حضور أطوار المؤتمر لعدم استدعائه رسميا “.
وقال المرابطين: ” نظرا لتجربته وحنكته التنظيمية والسياسية، طلب الشهيد بنجلون الكلمة مباشرة بعد كلمة وفد الجزائر، والذي حاول التناور لإقناع المؤتمر باستمرار حضور البوليساريو، حيث قال بومعزة، إن المؤتمر تقدمي بكل المواصفات والديمقراطية لا تقتضي إقصاء وفد يريد التعبير عن وجهة نظره. وكان لرد بنجلون وقعه حين فضح المؤامرة الجزائرية وعبر صراحة على أنه لا ينبغي للوفد الجزائري أن يمرر على المؤتمر خطاب البوليساريو بلهجة جزائرية مغلفة. ففضح، بذلك، أطماع الحكام الجزائريين الذين كانوا يبحثون عن منفذ بحري في المحيط الأطلسي عن طريق الصحراء المغربية، بل أكثر من هذا، ولأول مرة، يطرح الشهيد عمر إشكالية الاستغلال المشترك للمنفذ البحري، وتحمل مسؤولية هذا القرار رسميا ومن منصة المؤتمر، وأكد أن البشير بومعزة يصعب عليه، بل لا يمكنه اتخاذ القرار في الحين دون اللجوء إلى المسؤولين في الجزائر، ولن يتخذ قرارا دون أن يمليه عليه رئيسه هواري بومدين. هذه الحنكة السياسية والديبلوماسية للشهيد عمر بن جلون أوقفت الطموح والأطماع السياسية الجزائرية، والتي كانت تراهن على مؤتمر القارات الثلاث لتمرير مواقفها وتثبيت أقدام صنيعتها البوليساريو”.
وتابع: ” بعد هذا الفشل الذريع، بدأ ممثلو البوليساريو يبحثون بكل السبل عن لقاء عمر بن جلون عبر وساطات عربية، وتم لقاء مع مصطفى الوالي المغربي الأصل وبابا ميسكي الموريتاني الأصل، حيث عبرا عن استغرابهما لموقف عمر بن جلون ومناهضته للوفد المنشق، لكن رد الشهيد عمر كان واضحا وصريحا، حيث أكد على أن النضال الحقيقي- وهنا كان يوجه الكلام لمصطفى الوالي باعتباره مغربيا- اعتبر نفسه ضحية القمع الأوفقيري، يجب أن يكون من الداخل، وأنه كوطني غيور مازال ظهره وجسمه يحمل بصمات سوط الجلادين، وهو الخارج للتو من المعتقل، وأنه لا يمكن أن يتخلى عن شبر واحد من الصحراء.
رحم الله الشهيد عمر بنجلون


