من لا مكان أتى، حاملا معه كمشة أحلام، وذكريات استوطنت جمجمة فكت ارتباطها بالأرض التي سقطت فيها، وفي استرجاع شريط الهروب وعذابات تجاوز الصعوبات، عاد لصرخة ولادته الشقية.
ولا غرابة في الأمر، هي حكاية جوع وعطش مثل آلاف الحكايات، تناسخت فيها أوجاع المخاض وعجز النوايا المضطربة، وفي كل خطوة نحو المجهول، عانق ظله المشؤوم ظلال ملاعين ساقهم القدر لطاحونة الفناء.
وفي كل وشم سواد أيام عاشها وسط عشائر تنافرت مصائرها فوق خريطة لا جغرافيا تميزها عن آلاف الكيلومترات الممتدة في الفراغ وما يشبه السراب، هنا مات حلمه، أصابه تيار الصعقة القاتلة، وتمسك بآخر الصرخات.
لم يستطع السخط على كهف انتمائه، لم يحمل تلك الحفرة المظلمة ذنب ومسؤولية الفشل المشاع، طغى السواد تحت السقف البدائي، تكلست الأجساد والتصقت بحيطان أتربة مبللة، كانت الحياة شقية لا تطاق، لا قديم يفيد، ولا جديد يفرح، عطالة ثقيلة ورتابة تذبح وشلل يأس انتشر كڤيروس غامض الأسباب.. وبين الأحياء المفترضين تواطؤ سام ينزع عن الأجساد حواس الرفض والاحتجاج.
منذ الولادة قالوا له: «لا شغل لك هنا ولا غد يستحق الانتظار، أيامك المتلاحقة يوم واحد يتناوب فيه الليل والنهار على ملء الساعات بالخواء، ولا قرار تهتم به العشيرة، وحتى موتك يأتي ويجرك من الحفرة للحفرة ولن ترثي العجائز غيابك! «
لم يكلف نفسه الإجابة عن مصيره المعلوم، اكتفي كأقرانه بمضغ الكلام دون صوت، انتقى مكانا جانبيا بكهف العطالة الدائمة، ولم يخرج لمتاهات الغابة المرعبة بحثا عن صيد ثمين أو نبتة ينتصر بها على جوع الدواخل.
وفي مثل هذه الظروف الرتيبة لم يكن ممكنا سوى الخضوع لطقوس الشيوخ العراة أو الهرب من الموت بالتقسيط كما يفعل أغلب شبان السلالة الملعونة، وفي كل الحالات، هي مسألة وقت وإن تعطلت عقارب الساعة الصدئة، ويكون هو الضحية القادمة في سجل الموتى المفتوح دون عدل.
ظل جنين الفكرة ينمو برحم البؤس المشاع، عادت عقارب الزمن الخرافي تتحرك داخل الكهف المظلم، أسابيع طويلة امتلأت بدمع العاجز عن الخلاص من فخ الصقيع واللاشئ المحايد، كسر تردده، تمرد على وقته الميت، ووجد نفسه دون زاد ولا مال يتجه نحو مجهول مشتهى وشمال بعيد.
ابتعد عن كهف الموتى، كان جاهزا لتقبل نهايته المحتملة، لكن الاحتراس واجب، وطريق الهروب محفوف بمخاطر لا حصر لها، وكلما أوغل في مغامرته البئيسة اكتشف كهوفا أخرى مخبأة في جبال جرداء، وأودية وغابات أشجار متوحشة نصحوه بالابتعاد عن أغصانها الدموية، وبصيص الأمل الذي تهديه إياه خضرة الأدراج البدائية يقتله الاحتياط وضرورة تحاشي أن يصير وجبة مفاجئة لشجرة جوعى عمرت عقودا وقرونا.
كان الكهف محفورا في بطن الجبل، وطريق الوصول إليه محفوفة بمخاطر شتى، أدراج عشوائية، مسلك ضيق للعبور، وأي خطأ في المشي تكون نتيجته السقطة الأخيرة والتدحرج لسفح صخري ونهر عنيف الأمواج، وأسماك تتطاير فوق الماء مبتهجة بأكل لحم آدمي نسي أن يضع القدم في المكان الآمن.
بسبب الدربة والممارسة المتوارثة، كان كبار الكهف ينجحون في النزول السليم، يصطادون الأسماك آكلة اللحوم، ينتقمون منها، يقطعونها شرائح صغيرة، ينشرونها فوق الصخور، وحين تجف على شكل قديد كريه الرائحة يحملونها لمحاربة جوع سلالة الوجود العبثي الزائد.
كثيرة هي المدن التي بدت له عملاقة مخيفة، لم يجرؤ على الاقتراب من أبوابها المحروسة، ارتاح لخواء الطرق الرملية من علامات التشوير، حدد اتجاهه الدائم في نقطة الغروب، هناك حيث تلتقي الشمس بأرض الميعاد، وذاك كان دليله نحو شمال قالوا عنه جنة الخلاص.
فيا سادة الصمت المريب
جربتم مرارات الكهف الأول
لم يكن باليد حيلة
من سبقوكم عاشوا خواء العمر
بخبز الشعير المعجون
بماء المستنقعات الملوث
ورمل اليوم المنفلت بين الأصابع
مارس لعبة شحن الوهم بجاذبية الحمقى
والاعتذار لكم ولمسقط الرأس واجب!
حاول تحمل صعوبات المشي في صحراء الخواء القاهر، شغل باله باسترجاع ذكريات الكهف واستحضار ملامح الأهل والأقران، للأسف تعطلت حاسة الحنين، عجز عن استعادة حوارات العجز الفاضح، وحدها صورة الأم احتفظت بكامل تفاصيلها، رأى وجهها في مويجات الرمال، وسمع صوتها يغني «يا ولدي أين عوى عليك الذئب ونعقت فوق جثتك الغربان؟!»
لم ينس الابتعاد عن أوكار الحيوانات المفترسة والوحوش المسعورة، راقب أماكن الاستراحة والنوم المتقطع حتى لا يصبح وجبة فقيرة لوحش دوخه صهد النهار الزائل وصقيع الليل الشديد، ولإسكات عفاريت الجوع العمياء كان يكتفي بما قل من قديد الحوت المجفف.
استغرقته الرحلة أياما وأسابيع، تحاشى التجمعات السكانية، مر على هوامش المدن، وهم قالوا له: «لا ثقة في بني البشر، الغريب دائما عرضة للاعتداء، ابتعد عمن يؤذيك، والهروب لا ينجح حين تختلط المسارات! «