تندرج هذه المساهمة المتواضعة ضمن خانة التاريخ الراهن للمغرب، وضمنها نحاول أن نجيب عن أسئلة ظلت عالقة في هذا الصنف الجديد من التاريخ سيما وأن المدارس التاريخية؛ وبخاصة المدرسة الفرنسية، خطت خطوات كبيرة في هذا المجال عندما نادى مؤرخوها بإعطاء الأولوية لتاريخ المهمشين ضمن ما أسماه جاك لوغوفJaque Le Goofالتاريخ الجديد ؛ وفي هذا السياق تم اختيارنا لموضوع اليهود والمخزن خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر بغية تسليط الضوء عن موضوع العلاقات الإنسانية والاجتماعية بين الأغلبية المسلمة والأقلية اليهودية..
05
ينتمي المغربي اليهودي مايير مقنين بن أبراهام كوهين إلى أسرة مغربية مراكشية، وتتم الاشارة إلى هذه الأسرة في الوثائق العربية بعبارة “أولاد مقنين” وهي كنية أصيلة في المغرب مما يجعل هذه الأسرة غير معروفة فيه مقارنة ببيوتات يهودية ذاع سيطها. وتجذر الاشارة ،حسب صاحب الكتاب، أن يهود مراكش خلال القرن الثامن عشر الميلادي لايعرف عنهم إلا النزر القليل رغم أنها تعد من أهم حواضر وعواصم المغرب، ويعتقد أن الترهيب الذي عانه يهود مراكش مرتبطة بزمن حكم الامبراطوريتين المرابطية والموحدية التي أرغمت العديد منهم باعتناق الإسلام والتخلي عن اليهودية، مما يعنيأن الموحدين لم يكونوا متسامحين مع اليهود بخصوص ديانتهم عكس المرينين الذين سمحوا لهم بممارسة طقوسهم الدينية وهي الوضعية التي استمرت حتى زمننا الراهن هذا. والجذير بالذكر أن عدد يهود مراكش لم يرتفع إلا بعد أن تحولت عاصمة المغرب إليه؛ ولكن هذه المرة العيش بجوار جيرانهم المسلمين داخل الملاحات، إذ أن ثاني ملاح مغربي ثم بناؤه في مراكش وهو مايعني أن السلالة السعدية عبرت بالتزامها وواجبها حماية الذميين من كل خطر يمكن أن يحدق بهم ويعتبر ملاح مراكش المكان الذي ولد فيه مايير مقنين ونشأ وتربى تربية يهودية مغربية.
يؤكد دانييل شروتر صاحب كتاب يهودي السلطان أن الوثائق المعتمدة لتتبع نوسطالجيا هذا اليهودي المغربي، سواء أثناء مقامه بمراكش مسقط رأسه أو مدينة الصويرة التي ظهر فيها كتاجر من تجار البلاط، قليلة جدا إلا أن هناك إجماع على دور أولاد مقنين في انتعاش التجارة بمرسى الصويرة الذي بناه السلطان المغربي سيدي محمد بن عبد لله.
في سنة 1766م حالف الحظ أسرة مقنين عندما وضعوا على قائمة اليهود المغاربة الذين أوكلت إليهم مهمة الإشراف على تدبير ميناء الصويرة والسهر على تحصيل الرسوم الجمركية، وقد تم ذلك بإيعاز من الكاتب اليهودي الرئيس في بلاط سيدي محمد بن عبد الله؛ يتعلق الأمر بصاموئيل سومبال. وحسب الأعراف المخزنية فإن الدولة تنازلت على حق جباية الرسوم لصالح يهود بعينهم مقابل الدفع المسبق، كما انفرد بعضهم بالحصول على كونطرادات لتصدير بعض المواد الاستراتيجة والممنوعة سيما في فترة السلطان مولاي سليمان المعروف بسياسة الاحتراز من الخارج، كما سبق أن شجع سيدي محمد بن عبد الله اليهود وجيرانهم وكذا الأوربيين بالاستقرار في هذه المدينة مقابل عروض تفضيلية مثل تخفيض قيمة الرسوم الجمركية…وفي نهاية ثمانينات القرن الثامن عشر لمع نجم أولاد مقنين الذين لعبوا دور محوريا في تنشيط مالية الدولة، وجلب بعض المواد المهمة إلى دار المخزن مثل الأسلحة الذي كان يمدهم بقروض غالبا ما يطالب باسترجاعها عندما تنكسر شوكته. لقد حصل أولاد مقنين على حماية مخزنية من العامل عمر بن الداودي وكمكافأة على إخلاصهم للمخزن سمح لهم بارتداء الزي الغربي. واستفادت هذه الأسرة من صفقات افتداء الأسرى الأوربيين وهي صفقات مربحة، وقد لمع إسم اليهودي المغربي مردوخاي دي لامار الذي نجح في افتكاك أسرى وعبيد الجنوب المغربي، ولم يكن لتتم هذه العملية اعتباطا ولكن لكون يهود المغرب كانت تجمعهم علاقات وطيدة بشبكة يهودية مختصة في تجارة العبيد. وهناك شهادات حية تثبت إلى أي حد نجح اليهود المغاربة في شراء الأسرى والعبيد وخفق نظراؤهم الاجانب.
إن الاعتماد على اليهود المغاربة، من طرف المخزن، في الشؤون التجارية وبخاصة في عهد سيدي محمد بن عبد الله راجع بالأساس إلى عدم تشكيلهم خطرا سياسيا على الدولة عكس بعض الأعيان والزعامات التي كانت لها نفوذ وتتطلع إلى ممارسة السلطة. وللحفاظ على امتيازاتهم يزور التجار اليهود ومعهم الأوربيون مراكش لملاقاة السلطان محملين بهدايا ترقو مستواه، إذ يحظى هؤلاء بالاستقبال ثلاث مرات؛ الأولى عند الوصول والثانية تخصص لاجتماع عملي والثالثة لتوديع السلطان.
وقد حصل العديد من تجار البلاط على ترخيص اسثتنائي من سيدي محمد بن عبد الله لتصدير الزرع خارج المغرب وهو الإجراء الذي كان يلقى معارضة شرسة من طرف العامة وخاصة المجتمع من فقهاء وعلماء… وبخصوص مايير مقنين فقد حص على ترخيص لتصدير الزرع من الجديدة إلى الخارج، وبمعية حاييم كدالة؛ استطاع مقنين جلب الذخيرة إلى المغرب. وبالمقابل يقدم يهود البلاط خدماتهم للدولة كمترجمين للمبعوثين من الدول الأجنبية.