تندرج هذه المساهمة المتواضعة ضمن خانة التاريخ الراهن للمغرب، وضمنها نحاول أن نجيب عن أسئلة ظلت عالقة في هذا الصنف الجديد من التاريخ سيما وأن المدارس التاريخية؛ وبخاصة المدرسة الفرنسية، خطت خطوات كبيرة في هذا المجال عندما نادى مؤرخوها بإعطاء الأولوية لتاريخ المهمشين ضمن ما أسماه جاك لوغوفJaque Le Goofالتاريخ الجديد ؛ وفي هذا السياق تم اختيارنا لموضوع اليهود والمخزن خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر بغية تسليط الضوء عن موضوع العلاقات الإنسانية والاجتماعية بين الأغلبية المسلمة والأقلية اليهودية..
أسرة مقنين ومرسى ليفورنو
كانت لآل مقنين علاقات تجارية رفيعة المستوى مع يهود ليفورنوبفعل عامل المصاهرة؛ فهذه «بليدة» شقيقة مقنين تزوجت بهارون عمار اليهودي الجزائري ذو الأصول الليفورونية، وهذا صاموئيل ليفي تزوج من ستيلا عمار أخت هارون عمار. لقد تمكن مايير مقنين من ربط علاقات كبيرة مكنته من التحول إلى تاجر كبير سيستقر بالديار الإنكليزية وبخاصة في مدينة لندن، وقد تأتى له هذا بعد فتح ميناء الصويرة الذي مكنه من تطوير تعاملاته التجارية والسفر إلى انجلترا بكل أريحية، وقد رافق مقنين حمولته التجارية التي ناهزت 5375 جنيها استيرلينيا في وقت بدأ الطاعون يقترب من مدينة الصويرة، ونفس الشيء نجده لدى أسرة كدالة اليهودية التي توجهت إلى لندن مخافة الوباء الجارف وهو ما اعتبره القنصل الفرنسي خسارة جسيمة للمغرب، وقد رافقت مايير مقنين عدة أسماء يهودية مغربية بارزة وهم ؛ أبرهام، و سلومون صباغ، و دافيد بينطو، وكوهين دي لارا، ويهودة قرياط، وجوزيف أبينسور، ونينا أفلالو، ومردوخاي أفرياط بالاضافة إلى تاجرين مغرببين مسلمين هما الحبان وبوهلال، وعلى سبيل ضمان العودة إلى أرض المغرب فإن اليهود تركوا زيجاتهم ونفس الشيء بالنسبة لتجار السلطان ورجالات المخزن المبعوثين في مهام تجارية او سياسية إذ يعتبر المخزن أسرة المهاجر ضمانة لاسترجاع قروض وسلفيات السلطان التي يقدمها لهؤلاء باعتبارهم تجارا له.
لقد غادر مايير مقنين المغرب قبل الجائحة ببضع شهور وترك زوجته الزوهرة في الصويرة حيث أودى المرض بحياتها إلى جانب عدد كبير من أسرة كدالة وأصهاره؛ وحسب صاحب الكتاب «يهودي السلطان» فإن أسئلة كثيرة ظلت عالقة من قبيل كيف تعامل هذا التاجر اليهودي مع خبر وفاة زوجته وصهره مرجحا أن يكون هذا اليهودي مهملا للعائلة وبإمكانه التضحية بها من أجل المال والأعمال.
تعاملت إنجلترا بصرامة إزاء السفن الآتية من المغرب مطبقة إجراءات الحجر الصحي الصارم، وحسب تقرير اللجنة المكلفة بمواجهة الوباء في بريطانيا فإن اللجنة العلمية قد أوصت بتدمير السفينة التي كانت تقل ماقنين واتلاف حمولتها تجنبا لانتشار الوباء. وبعد أن استقر به المآل في لندن في خضم اندلاع ثورات قبلية ضد الاجراءات الاحترازية التي نهجها المولى سليمان أصبح المخزن في أمس الحاجة إلى خدمات اليهود المغاربة المستقرين في أوربا من أجل التوسط لجلب الذخيرة والأسلحة لمواجهة الخارجين عن الطاعة؛ ولهذا الغرض ونظرا للتكلفة المالية التي تستلزم تفعيل هذه الصفقات فقد طالب المخزن من تجاره إرجاع سلفيات السلطان. إن مقام مايير مقنين بلندن أهله للعب دور الوساطة بين انجلترا والمغرب غير أنه تلاعب بالأموال المؤتمن عليها إذ وظفها لحسابه الخاص مما أجج غضب المخزن واضطره لالقاء القبض على كل المغاربة بمن فيهم عامل الصويرة وبعض اليهود المغاربة الذين كانوا ضحية لمقنين. وقد برر هذا الأخير تصرفه هذا بافلاسه وبهذا الصدد وجه الدائنون لمقنين رسالة استعطاف للسلطان المولى سليمان من أجل استرجاع بضاعتهم واصفين مقنين بتعيس الحظ والمفلس. أما هو فقد وعد السلطان بتسديد الديون والواضح أنه استطاع التغلب على هذا المشكل وإعادة المياه إلى مجاريها والحفاظ على مكانته ضمن منظومة تجار السلطان.
مايير مقنين يهودي السلطان المبعوث غير المرغوب فيه:
رغم هفواته وقلاقله، وسمعته الخبيثة استطاع مايير مقنين خلال فترة حكم السلطان المغربي عبد الرحمان بن هشام (1822/1859) الحصول على منصب سفير في بلاط سانت جيمس وهو ما امتعضه البريطانيون؛ ويمكن التساؤل هنا لماذا اعتمد المغرب في تمثيلياته الديبلوماسية على اليهود المغاربة مثل مقنين في لندن وبن عليل في جبل طارق دون المغاربة المسلمين؟ هل يتعلق الأمر بعدم كفاءة المغاربة المسلمين لشغل هذه المناصب الحساسة؟ ألا تعكس هذه الوضعية غياب التكافؤ بين الغرب والشرق سيما أن الدول الغربية بادرت إلى تمثيلها ديبلوماسيا في عدة دول اسلامية منذ عدة قرون؟ لعل الجواب على هذه الاسئلة رهين بالتصور المسبق للمسلمين عن أرض «الكفار» كما أن المبعوث المغربي المسلم إلى أوربا يستلزمه تحمل نفقات السفارة نظرا لمحدودية موارد بيت المال.
تكشف الوثائق التي اعتمدها دانييل شروتر صاحب الكتاب على أن مايير مقنين كان شخصية غير مرغوب فيها في الأوساط الأوربية وبخاصة في دولة بريطانيا العظمى فديونه تراكمت لتصل إلى 100.000 جنيه استرليني كما أن مذكرة بحث أصدرتها سلطات جبل طارق لحبس مقنين، أما محكمة مارسيليا فقد غرمته بمايزيد عن 25.000 «بياستر»، ولكي لايظهر اسم مقنين في الواجهة أثناء التعاملات التجارية فقد وظف لصالحه ابن أخيه مسعود بينطو، ورغم ذلك فإن السلطان المغربي عبد الرحمان بن هشام أصدر بتاريخ 25 اكتوبر 1826 ظهيرا وجهه إلى الملك جورج الرابع فحواه تعيين مايير مقنين سفيرا في دولة انجلترا ومضمونه: «الماسك به، المنحاش لجنابنا، مامر مقنين، واحد من تجارنا وخدامنا القاصد إلى بلدكم، والذي نوصي عليه جلالتكم، ليكون له الاحترام والحماية من جميع ولاتكم وخدامكم من أي تكليف أو منع لقضاء أغراضه، بمثل ما نقوم به من العناية والوقر لخدامكم ورعاياكم الوافدين على مخزننا» ولعل غياب النص العربي لهذا الظهيرالمترجم عن العربية يطرح حسب صاحب الكتاب ،موضوع القراءة، إمكانية تأويل معانيه والراجح أن مضمون الظهيرباللغة العربية قد يكون « الذمي مايير مقنين، من تجار أهل ذمتنا خادمنا كلفناه بقضاء أغراضنا وأمورنا في جميع الأفاق» .