قضية حرية التدين عند اليهود المغاربة تُناقش في أشغال مؤتمر مدريد 1880
تندرج هذه المساهمة المتواضعة ضمن خانة التاريخ الراهن للمغرب، وضمنها نحاول أن نجيب عن أسئلة ظلت عالقة في هذا الصنف الجديد من التاريخ سيما وأن المدارس التاريخية؛ وبخاصة المدرسة الفرنسية، خطت خطوات كبيرة في هذا المجال عندما نادى مؤرخوها بإعطاء الأولوية لتاريخ المهمشين ضمن ما أسماه جاك لوغوفJaque Le Goofالتاريخ الجديد ؛ وفي هذا السياق تم اختيارنا لموضوع اليهود والمخزن خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر بغية تسليط الضوء عن موضوع العلاقات الإنسانية والاجتماعية بين الأغلبية المسلمة والأقلية اليهودية..
إن الحكومة المغربية قد سمحت ببناء الكنائس والبِيَّعْ التي كان السكان المسيحيون واليهود في حاجة إليها، كما أن رنين الأجراس لا يتوقف ليلا أو نهارا بأماكن التعبد الكاثوليكية، ويُحْيِي القساوسة قُداَّساتهم الدينية سواء في أماكن داخلية أم خارجية، ويحملون الصُّلبان وغيرها من الرموز الدينية عبر الشوارع المزدحمة دون اعتراض أو تدخل من قبل السلطات أو السكان المسلمين.
إن الرهبان الفرنسسكان الإسبانيين يتخذون زيا مميزا لفرقتهم الدينية، وقد علمت بحصولهم على ترخيص سلطاني سمح لهم ببناء كنائس خاصة بهم ومساكن لإقامتهم بالعديد من المراسي.
وتتمتع بقية الفرق الدينية المسيحية بنفس الحرية. وفي السنة الماضية طالب ممثلو الدول الأجنبية السلطان بتمكينهم من شراء قطعة أرضية لاتخاذها مقبرة مسيحية لأنه لم يبق في المقبرة القديمة مكان صالح لدفن أمواتهم، وقد أصدر السلطان أمرا باختيار عرصة لذلك الغرض تكون مجاورة للمقبرة، فقدم جلالته تلك القطعة الأرضية هدية لممثلي الدول الأجنبية، وأثناء زيارتي إلى القصر السلطاني تسلمت رسالة سلطانية تضمنت أمرا إلى أمناء طنجة لأداء مبلغ 120 جنيها إلى صاحب العرصة، وهو المبلغ الذي قُدِّرتْ قيمتُها به.
ويمارس اليهود شعائرهم الدينية في البيع بلا انقطاع، وكذلك الشأن فيما يخص دفن أمواتهم. وقبل سنتين نجحتُ في المساعي التي بذلتُها فحصلت من السلطان على موضع لبناء مدرسة في طنجة لتعليم اليهود وتلقينهم تربية دينية.
ليس هناك أي واحد من رعايا السلطان يدين بالمسيحية، كما أنه لا وجود لرعايا خاضعين للسلطان لا يدينون بالإسلام غير اليهود.
وكما سبق لي القول ذلك فإنه رغم اعتقادي أن السلطان قد لا يتردَّدُ في تأكيد الامتيازات التي تنص عليها الاتفاقيات لفائدة المسيحيين، ومثيلتها المتعارف عليها لصالح اليهود، فإنني أشاطر رأي سعادتكم بأنه لم يكن من المستحسن إثارة مناقشة هذه القضية في المؤتمر، كما أنني لا أظن أن السيد محمد بركاش سيكون على استعداد لإبداء رأيه حول هذه القضية لما يتميز به من حذر شديد وحرص كبير على عدم الخوض في مقترحات ليست لديه فيها تعليمات سلطانية دقيقة.
(…) وأثناء زيارتي الأخيرة إلى القصر في فاس، التقى بي هناك وفد مفوض يتكون من الحزان الكبير ومن بعض شيوخ الجماعات اليهودية. فطلبوا مني التدخل لدى السلطان لحثه على إصدار ظهير يسمح بموجبه لرعاياه اليهود بلبس نعالهم عند المرور عبر أحياء المسلمين بفاس، وقد قلت لأعضاء الوفد المذكور إنه ليحزنني أمر مشاهدة أناس محترمين في مكانتهم وهم يجدون أنفسهم ملزمين بالخضوع إلى تلك العادة التحقيرية، غير أنني سألتهم وطلبت منهم أن يقولوا لي بصراحة، بعد أخذ مهلة للتفكير، إنه في حالة قدرتي على حث السلطان لوضع حد لتلك العادة، وبعد انصراف جلالته من العاصمة، وذلك ما يفعله عموما عند نهاية فصل الصيف، فهل سيشعرون بالأمان على أنفسهم عند حدوث غليان في صفوف المسلمين المتعصبين، فآنذاك لن تُعرض حياتهم وممتلكاتهم للخطر فحسب، بل وقد يهدد أيضا شرف وحياة نسائهم وأطفالهم.
وقد ذكرتهم بأنه على الرغم مما يمكن أن يشعر به العالم المتحضر من سخط كبير يحتمل أن يفضي به إلى التدخل إذا ما مورست اعتداءات قاسية على سكان أبرياء من طرف المسلمين. فإن الأضرار التي قد تحل بهم ستكون لا رجعة فيها، والعزاء الوحيد بالنسبة لأولئك الذين قد يبْقَوْن منهم على قيد الحياة هو أنهم سيعرفون أنه قد تم الانتقام لصالحهم. وقد اقترحت على أعضاء الوفد أن يستمر اليهود في الصبر على تحمل آلامهم في انتظار ما يمكن أن يترتب على التحسن التدريجي للتجارة والحضارة من تأثيرات، والتي سبق لها أن أحدثت بالفعل تحولات كبيرة بالمراسي، حيث نادرا ما أصبح إخوانهم في الدين يتعرضون إلى الأعمال المخزية وسوء المعاملة التي يتحملها أمثالهم من سكان المدن الداخلية.
وقد اعترف أعضاء الوفد اليهودي بصحة ملاحظاتي، لكنهم عبرَّوا في أملهم أن أبذل مساعي حميدة لدى السلطان لصالح أبناء جنسهم المضطهدين.
وقد أطْلعت مراسلتي بتاريخ 13 ماي سعادتكم على اللهجة التي خاطبتُ بها السلطان في هذا الموضوع، وأيضا على جوابِ جلالته. إنني لا أعتقد أن السلطان مولاي الحسن تحركه مشاعر التعصب السائدة فعلا في أوساط الغالبية من رعاياه، وخاصة لدى علماء العاصمة، لكنه بدا واضحا من خلال ملاحظاته أن لجلالته إحساسا بالعجز من التحكم في رعاياه إذا ما أثيرت الفتنة من طرف المتعصبين».