هناك من يعتبر «الحرب محاولة متأخرة للحياة». غير أن آخرين، وهم كُثْرٌ، يرون أنها خزان كبير للوجع. وبين هذا الموقف وذاك، يشتغل الأدب على الحرب بتأنّ بارع وهدوء مخاتل، ويضعنا على الطريق السريع للمتع الطائشة، إلى درجة نوع من الإشباع السام.
في الحرب، تمتلئ النصوص الأدبية بالجثث والخرائب والدماء، كما يحتشد الورق بالقنابل المتعددة الصنع، وحُفَر الحرق، واليورانيوم المنضب، وأيضا بالآثار الفورية للعمى الهائل. كل الحواس تنتبه حين يضغط الموتُ بكل عبثيته على الممرات والجسور والأبواب، وحين تصبح الحشرجة «علامة تجارية».
صحيح أن الحرب يصنعها، عادةً، مغامرون أو رماةُ نرد. غير أن السؤال المطروح هنا هو: «هل يمكن الذهاب إلى المستقبل بدون حرب؟»، وهل بوسع الأدب أن ينمو خارج الدماء الهائجة لما يمكن أن نسميه «لحظة الاشتباك مع العدم»؟
الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..
سؤال الحرب كعامل فناء للبشري فينا يؤرق عادة الكاتب والأديب على وجه الخصوص، فيفكر بحرص في كيفية حفظ الأديب والكاتب من مصير الفناء المتربص بكل مشارك في الحرب.
خدمت جندياً خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، وخلال العدوان الثلاثنيني الأمريكي على العراق سنة 1991، وكنت أحرص على إنقاذ الأديب والكاتب من خلال الحفاظ على الإنسان داخلي.
كانت يومياتي تصحبني في كل مكان أحل به، وقد شاءت مهنتي كمهندس أن أكون في كتيبة من كتائب الهندسة العسكرية، التي أنيط بها الكثير من المهام، سواء بتصميم وتنفيذ أفضل المواضع القتالية أو تصنيع أفضل الدروع لرامي المدفعية لتحميه عند عطل المدفع وبقاء القنبلة داخل السبطانة، مما يهدد بتفجير المدفع والرماة من حوله.
تلك اليوميات صارت فيما بعد روايات وقصصاً عن الحرب وما يحدث فيها من فظائع، فكتبت رواية «أقصى الجنوب» سنة 1988 التي فازت بالجائزة الأولى في المسابقة الوطنية الكبرى بالعراق سنة 1989، وهي تحكي معاناة أهل الجنوب العراقي خلال سنوات الحرب العراقية الإيرانية وروايتي «الليل والنهار» التي فازت بالجائزة التقديرية سنة 1985، وتحكي عن حياة ومصرع خمسة جنود قضوا اختناقاً في موضعهم القتالي، الذي دفنوا فيه أحياء بعد أن سقط على مدخل موضعهم صاروخ طائرة معادية، وكتبت العديد من المجموعات القصصية منها»العروس» (1984)، ومجموعة «جنود» (1985)، ومجموعة»ربيع كاذب» (1986) التي تحكي أغلب قصصها عن معاناة الجنود أثناء الحرب: عريس يتزوج، وعليه في اليوم التالي المغادرة إلى جبهات القتال، لكنه لا يعود بعدها إلى حضن زوجته، وآخر يصاب في رأسه بشظية صغيرة بحجم حبة الحمص فتتسبب في أن ينسى كل حياته السابقة، فلا يتذكر بعد إصابته أحداً من أحبته، وزوج يعود إلى زوجته بعد شهور من المعارك، فلا تتعرف عليه زوجته لفرط التغييرات النفسية والجسدية التي طرأت عليه، حتى أنها أخذت تشعر وهي تعيش معه في فراش الزوجية بأنها تمارس الرذيلة مع شخص آخر غير زوجها الذي تعرفه، وعن آخرين كانوا يربون طيوراً مغردة في مواضعهم القتالية حين تهدأ المعارك لشهور ليستحضروا الحياة بمعناها الإنساني المسالم.
صحيح فقدنا الكثير من الأصدقاء في الحروب التي خاضها بلدنا خلال العقود الأربعة الماضية، ولكن خوض الحرب أحياناً يكون ضرورياً لتهذيب نفس الكاتب من أنانيتها وتمسكها بالحياة، حتى لو كانت حياة ذليلة، لاتسر ولا تغني من من جوع، ولا أمل في تحسن ظروفها.
لا أغالي حين أقول إن معظم ما أكتبه اليوم والبارحة هو من خزين تلك الحروب التي شاركت فيها مع غيري من أبناء وطني، ولا أزال إلى اليوم أنحت وجوه من قتلوا في تلك الحروب، سواء من جيشنا أو من الجيش الذي كنا نقاتله في رواياتي وقصصي. اُنظر روايتي «تحيا الحياة» التي صدرت سنة 2014، وسترى العجب مما مرَّ بنا حينا كنا جنوداً أو مشاركين في انتفاضات شعبية مسلحة .
في الحقيقة، لا عداء بينك وبين الجندي في الجيش المعادي ولكن الظروف تسوقكما معاً لتكونا وجهاً لوجه في الميدان، فأما أن يقتلك أو تقتله، وهذا قانون الحرب اللعين، الذي سيبقى سارياً ويسكن حتى في أحلامك فيحولها إلى كوابيس.
وقد وصلت إلى خلاصة عن أهمية خوض الكاتب الشرق أوسطي للحرب، على الأقل بالنسبة لي بالذات كمشارك سابق في اللعنة التي تسمى حرباً. إنها جحيم الكاتب ونعيمه أيضاً، فقد كنت لا أفكر بالموت بقذيفة أو رصاصة قناص بقدر اهتمامي بالحصول على موضوع قصة أنشره في اليوم التالي في جريدة ما ينال أعجاب القراء والنقاد.