الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..
ككاتب، لا أعرف من الحرب إلا اسمها، في أغلب الأحيان، كما لو كانت تحمل في طياتها ما يخفيها أو ما يعلنها. الكلمة وهي ترزح تحت الرمز في شتى مناحي النصوص. كما أُتيح لي تلمسُّها، أو كما سيقت إليّ خبرا، تفصيلا، شرحا. مثلا معارك في قصائد في صحراء تحرقها الشمس في جزيرة العرب. الجبيرة البيضاء التي تكلل جبهة الشاعر كيوم أبولينير في أحد البورتريهات الفوتوغرافية التي له، بعد عودته من ساحة الوغى إبان الحرب العالمية الأولى، والتي ستقضي عليه بجرح خَلَّفته في رأسه لم يندمل بشكل تام، بعد أن وضعت أوزارها، وبعد أن تم الإعلان عن شفائه. وهي، قيل لي، لوحة غرنيكا، وقيل لي هي تجسيد لفظاعة الحرب الأهلية الإسبانية، لوحة القرية التي أبدعها بابلو بيكاسو، الرسام العبقري الذي رسخه الشاعر ذاته، أي أبولينير فنانا كبيرا ووضعه في وسط الأنوار، حين كتب عنه أول ما كتب في الفن. وهي، أي الحرب، تلك التي قرأت في روايات «الشرط الإنساني» لمالرو و»لمن تدق الأجراس» لإرنست همنغواي، مثلا. كما هي الحرب التي رمت بالشاعر روبير ديسنوس في معتقل بلا مقومات حياة حتى الموت بالقرب من مدينة براغ، وكان سيُجهل تماما ولن يوجَد له مثوى، لولا أن ممرضا له دراية بالحركة السريالية سبق أن رأى صورته ذات يوم في جريدة أو كتاب وقرأ له أشعارا.
لا أعرف من الحرب سوى هذا. كلمات وصور تلازمها.
قيل لي هي أعداء وحلفاء، سيوف وخيول وبوراج ومدافع ومقاتلات. قنابل ورصاص، موتى وجرحى، مشردون ولاجئون، دمار وخراب، خرائط وجغرافية متحولة باستمرار. وقيل بطولات وملاحم، وقيل هي التاريخ، وهي من يصنع الحياة بعد التاريخ. ليس مرة واحدة، بل مرات، مثل الولادة والفناء، أو مثل المحو والانبثاق. لكنني لست متأكدا أبدا.
قيل لي هذا، وأنا لا أشكك في الأمر، وليس أن أفعل، فالحرب واقع لا مراء فيه، ملازمة لوجود الإنسان. أصل دول وكيانات. عناوين كرامة وشهامة وشهادة وشجاعة وفداء. كما هي ساحة لضد كل هذا. هي، اللحظة وهي الفصل، وهي ما قبل وما بعد.
لكنني عرفتها أول ما عرفتها، كما قلت، عن طريق الكلمة، وكلمة ترافق الصورة. وهنا يقض ذهني سؤال كلما وقفت عندهما: هل الحرب حقيقة؟ لن أجازف، لأن الدوخة ستصيب رأسي لا محالة، كما يحدث لي هذه الأيام، وأنا احاول أن أتبين ما يحدث هناك في الشرق الأوروبي. قيل لي هي حرب تجري وقائعها الآن، لكنها تصلني عبر صور وتعاليق، هي أيضا، هذه الحرب الجديدة التي لم تصل بعد إلى الشعر والرواية والرسم. إلى الأدب والفن. لكن أقول ولكي لا تفوتني الفرصة: هل هي تاريخ، هذه التي أحيت الحرب هناك، في الشمال، الحرب التي لم تغادر الجنوب قط؟
هل كانت الكلمة غلطا ؟ هل هي تخفي فعلا الحرب؟ لن يكون الغلط، ففي الكلمة صليل لا يخطئ طريق السمع. وهو الصليل الذي رفض الإنصات إليه بوريس فيان في قصيدة رفض الالتحاق بالخدمة، مفضلا عزف الجاز في أقبية باريس في الليل الضاج بالحياة، المنير بالنشوة والجذبة، بعد كتابة نص كسَّر فيه كل هناءات الجملة غير المصدوقة. من هنا جاءتني الحرب، قولا، أكرر، نصا تلو نص في مدى له بدء محفز أو مشي ما بين طوار يتعالى وسبيل زلق، وله انتهاء قد لا تحمد عقباه، وقد يكون هبة نسائم تفتت صلابة الدبابات وتعيد الأشلاء أجسادا.
لكن ماذا لو تفتتت رصاصة بين الأوراق، وأحدثت ثقبا متشظيا وسط الصفحات؟ رصاصة حقيقية، وليس تلك التي تملأ بِحِرزٍ واقٍ تُعلَّق حول الجيد. أين سترحل الكلمة؟ في قصيدة روني شار خلف أكمة تترصد من لا يريدها في راحة يده فراشة، أم تتلظى في تل كتب في الساحات؟ هل تتضرج الكلمة بالأحمر؟ أو بالمداد؟ ستعود إلى الغابة وتصير شجرة لتورق من جديد، لتقول حربا جديدة بصور أخرى.