الحرب، أيضا، شرخ عظيم في الكينونة، في الشرط الوجودي، كما أن «الضرورة» تجعل منها معضلة أخلاقية مكشوفة، لا يمكن تجاوزها فكريا.
في هذه الشهادات عن الحرب، مع الكتاب والمبدعين والمثقفين والفنانين، نشعر بأن إشعاعاتها لا تستثني أحدا، سواء أكان في قلبها أم على هامشها، قريبا أم بعيدا، عسكريا أم مدنيا، مناصرا أم معارضا، حيا أم ميتا. نشعر بالدخان والغبار يصل إلى الحلق، ونقاسي شح التموين، ونحس بانقطاع الماء والكهرباء، ونسمع لعلعة سيارات الإسعاف، وتتخاطر في أحلامنا الدبابات والمقنبلات والصواريخ المضادة للطائرات، وكل الخرائط تبدأ في الفركلة داخل رادارات عسكرية، تتهددها بالخراب المبين..
لطالما كانت الحروب مادة دسمة يتناولها الكتاب والشعراء منذ العصور القديمة في كتاباتهم وإبداعاتهم، فعلاقتها بالآداب عميقة جدا ومتجذرة في التاريخ. فلا يمكننا التأمل في هذا الموضوع دون ذكر ملحمة الإلياذة، الملحمة الشعرية التي تحكي لنا قصة حرب طروادة والتي تعتبر من أهم الملحمات الشعرية الإغريقية والعالمية.
بالإضافة إلى أنها تشكل المادة الخام التي يشتغل عليها بعض الأدباء والفنانون فالحرب تدفعنا أيضا إلى التفكير عميقا في المعارك العنيفة والتساؤل عن دوافعها ومخلفاتها الكبيرة، ومن هنا يكون المبدع أمام أفكار وأحاسيس متضاربة تدفع البعض إلى التحمس لمشاهد الدمار واستعراض البطولات، كما أنها تدفع البعض الآخر إلى الاهتمام أكثر بالإنسانية والترفّع عن كل الحسابات التي تقتل السلام في القلوب.
بعض الأعمال الأدبية التي تمتدح الحروب والقادة قد تشكل خطرا كبيرا لأنها تغذي ذلك الشعور بالحنين إلى الأمجاد والبطولات الوهمية، هنا اذكر على سبيل المثال الأعمال التي ساندت النازية والفاشية وصناع الحروب والدمار وصنعت من قادتها أبطالا، في المقابل نجد نصوصا أدبية أخرى وتجارب لكتاب كبار تصب في نهر السلم وزرع قيم التسامح والمهادنة وكذا طرح الأسئلة الموجعة وإخراج الجراح العميقة إلى الوجود.
ملحمة هوميروس الشعرية كانت وما تزال مادة أدبية تشغل الباحثين وتخاطب الجانب الصامت فينا إذ يرى الكاتب الايطالي اليساندرو باريكو الوجه الآخر الجميل في الإلياذة حيث أكّد على ضرورة إعادة قراءتها – في هذا العصر – لما قد تحتويه من رسائل إنسانية كونية.
المبدع دائم الاحتكاك والتفاعل مع محيطه فهو مرآه العالم الحقيقي ولا يمكن لأي كاتب أن يتجاهل أحزان وآلام الآخرين. كلنا نعيش وسط قرية صغيرة لا مجال فيها للصمت السلبي، المبدعون دائما في الواجهة إما بكتاباتهم أو بأعمالهم الفنيّة يحاربون إلى جانب دعاة السلم والجمال. قد يقول البعض إن لا احد يملك القدرة على التحدث أو الكتابة أو الخوض في الحرب إن لم يجربها أو يعيش في خناقها، لكن هذا نسبي إلى حد ما، فكل منّا يملك أداة استشعار ومجسّات تقيس نبض العالم، كل منّا له طريقته الخاصة في التعبير، وما الحرب إلا اختراع قذر في نهاية المطاف لا ينتج إلا الدمار ولا يخلف إلا أجسادا مبتورة الأطراف. استحضر هنا الشاعر النمساوي جورج تراكل الذي عاش أيام قهر وخوف وسط معارك الحرب العالمية الأولى والتي خلفت عددا لا يحصى من الجرحى والقتلى حيث كان الشاعر يقضي خدمة عسكرية في التمريض وتأثر جدا بمشاهد الدمار والقتلى مما جعله يعيش أياما عصيبة كتبها في أشعاره التي مازالت تنزف إلى أيامنا هذه، كذلك الكاتب همنغواي الذي عاش وسط قذائف الحرب الأهلية الإسبانية حيث هاجمت كتائب فرانكو الكتائب الجمهورية الديمقراطية وكان همنغواي متعاطفا جدا مع هذه الأخيرة مما دفعه إلى التفكير مرارا بأخذ البندقية وإطلاق النار دفاعا عن معتقداته وأفكاره إلا أنه اختار بندقية القلب و رصاص الكلمات للتعبير عن رسالته التي وصلت إلى ابعد نقطه في الأرض أكثر من أي صاروخ بالستي.
في رأيي، الكاتب هو الوحيد الذي يمكن له مشاهدة وتأمل هذا العالم من زاوية مترفعة وبعيدة، حقل المشاهدة فيها يكون كبيرا لدرجة أنه يجعل من كتاباته رسائل قد تكون قوتها أكبر من أي عمل عسكري وتجعل من القراء جنودا يتسلحون بالكلمات واللافتات التي تصير فيما بعد أقوالا تمتد في التاريخ والجغرافيا أو أغنية يرددها الصغير والكبير لتصبح شعارا جميلا لما قد كان ألما عميقا، العديد من أناشيد الثورات والأشعار التي غناها الجنود صارت فيما بعد شعارات سلم وسلام نكاية في ظلام ليالي القصف وصفارات الإنذار.
فالكتابة ليست فقط فعلا ينتج الجمل والنصوص لكنها المحرك الأساسي التي تجعل من الكاتب أو الشاعر محرك بحث في قاموس الانسانية ولغاتها المتعددة وبالتالي تنمو في ذاكرته غابات من الثقافات الشعبية المختلفة والتي تشكل في الآن ذاته صورة «للإنسان الكبير» ومصطلح الإنسان الكبير اقصد به هنا ذلك الإنسان المتعدد فينا. سأستحضر هنا مقطعا أحبه لمحمود درويش: «ستنتهي الحرب، ويتصافح القادة، وتبقى تلك العجوز تنتظر ولدها الشهيد، وتلك الفتاة تنتظر زوجها الحبيب، وأولئك الأطفال ينتظرون والدهم البطل، لا أعلم من باع الوطن، ولكنني رأيت من دفع الثمن»
هذا المقطع يلخص الكثير و في بياضه الذي بين السطور حكم كثيرة لا يعرفها إلا الشعراء والأدباء، وهذا ما يجعل من المبدع كائنا يتأثر عميقا أمام الحروب والمشاهد الدرامية للآلام والجرحى فهو في نهاية المطاف يظل صانعا لنبض الجمال لا عرّاب موت.