فى 12 أكتوبر من عام 1492 الذي صادف سقوط آخر معاقل الإسلام في غرناطة، وصل «كريستوفر كولومبوس» إلى سواحل ( القارة الأمريكية) البِكر، وهو يحسب أنّه متّجهٌ إلى آسيا الشرقية، رست مراكبُه الشراعية الثلاثة في جزيرة غوانا هاني(الباهاماس)، حصل ذلك عندما صاح جهاراً أحدُ البحّارة وهو» رودريغو دي تريانا» بأعلى صوته من على حيزُوم سفينة «لا بينتا» ( La Pinta): (الأرض..الأرض تبدو في الأفق) ! ( Tierra.. Tierra a la vista).
وفى ذات يوم 12 أكتوبر من كلّ عام -كما هو معروف- الذي تطلق عليه إسبانيا ( يوم الأسبانية Dia de la Hispanidad ) هو التاريخ الذي أصبحت تعتبره عيداً وطنياً لها حيث طفقت فيه إسبانيا في نشر وذيوع وتأصيل ثقافتها ولغتها في الشقّ الآخر من العالم وراء بحر الظلمات، الذي أضيف إلى خريطة العالم منذ ذلك التاريخ المشهود .
وفي يوم 12 أكتوبر الفارط من العام الجاري 2024 تكون قد مرّت 532 عاماً على ذكرى هذا الاكتشاف التاريخي المثير ، وكلما حلّت هذه الذكرى التي اقترن إسمُها بالبحّار المغامر كريستوفر كولومبُوس الجِنْوِي ( نسبةً إلى مدينة جِنوَة الإيطالية) ، مثلما اقترن فتح الأندلس بالبطل طارق بن زيّاد، وبعد انصرام هذه القرون، تقف القارة الأمريكية محاولة إسترجاع أنفاسها، والتئام جراحها الغائرة، وتضميد جسدها الواهن المكلوم مستحضرةً أفظع مظاهر الاستعباد والاستبداد، وأبشع علامات التعسّف التي تعامل بها الغازي الأوروبّي الأبيض مع سكان البلدان الأصليّين ومع ثروات الطبيعة ، والبيئة، والكنوز الحضارية والعمرانية المتوارثة الضاربة في القِدم لدى السكّان الأصليين.
استياء وعِتاب
يرى الباحث البوليفي «خايمي باث ثامورا» : «أنّ تاريخ القرون الخمسة الماضية، أيّ منذ أن هبط كريستوبال كولومبوس على أرض العالم الجديد يشكّل أبرز نقاط التحوّل والدّمار في تاريخ البيئة على ظهر كوكب الأرض،كما أنّ ضحايا تلك الاكتشافات ما صاحبها من تظلّموا قسوة بالغين ما انفكوا يتساقطون ب الملايين حتّى الآن، رغم أنه في المقابل وفي أعين الشعوب الأوروبية المعاصرة هي عندهم علامات تحضّر وتمدين، وأمارات إشراق وتنوير بما يسمّى اكتشافهم المجحف للقارّة الأمريكية الجديدة».
ويرى الباحث البوليفي كذلك «فيكتور هيغو كارديناس» من جهته: «أنّ الاحتفالات التي يقيمها الأوربيّون عادة في هذا التاريخ احتفاء بهذا الحدث ليست سوى نقطة سوداء، ووصمة عار على جبين البشرية، فهو وبكلّ المقاييس تسجيل لتاريخ الغزو، والهلاك، وبداية حقبة استعمارية حالكة للقارة الأمريكية الجنوبية، فهذا الحدث – في نظره – جلب معه جحافل الجنود، والمغامرين، والتجّار الإسبان، والبرتغاليين، كما جلب الموتَ والدمارَ للملايين من أبناء الشعوب والقبائل الأصلية التي نشأت، وترعرعت، وعاشت على أراضي وجزر القارة الأمريكية منذ عهود سحيقة من التاريخ، تضافُ إلى تلك المظالم أنواع شتّى من ألوان القمع، والذلّ، والمهانة التي لحقت بأبناء الأجيال التي تمكّنت من النجاة من مقاصل، وسيوف، ومدافع، وأنفاط الغزاة الجدد البيض»، ويشير نفس الباحث: «أنّ هناك ما بين 60 و 70 مليون هندي من السكّان الأصليين ممّن قطنوا، وسكنوا الأراضي الشاسعة الممتدّة من ألاسكا إلى أطراف القارة اللاّتينية الجنوبية تمّت إبادة معظمهم بمختلف وسائل القمع، والاضطهاد، والوحشية التي لم تعرف البشرية مثيلاً لها من قبل، في تلك المذابح الجماعية التي بدأت منذ وصول الغزاة الأوائل ضدّ السكّان الأصليين. أمّا أبناء القبائل الذين تمكّنوا من الفرار والنفاذ بعيدًا عن تلك المذابح مثل قبائل «اليانومامي» في البرازيل، وقبائل «اللاّكاندون» في المكسيك فقد تعرضوا عمليات المطاردة، والطرد والمتابعة إلى أطراف هذين البلدين ليقيموا فيها تجمّعاتهم السكّانية بعد أن سلبوا كافة حقوقهم كمواطنين ،وبنفس النمط الذي تحيا به قبائل الهنود في مناطق الشمال والوسط والجنوب من القارة اللاّتينية الجنوبية ما فتئ يعصف بهم الفقر، والعوز، والخصاصة، يسحقهم البؤس والتعاسة والتهميش». ويضيف «فيكتور كارديناس»: ‹إنّه من المُحزن ،والمُؤسف أن نشهد اليوم مساحات شاسعة من أراضي القارة الأمريكية،و الجزر المحيطة بها وقد تحوّلت إلى أراضٍ جرداء خالية من مظاهر الحياة الطبيعية والبشرية منع ليظهرها. ولو عاد كريستوبال كولومبوس إلى الحياة من جديد بعد تلك القرون الخمسة العِجاف، فلن يستطيع التعرّف على ذلك العالم الجديد الخلاّب الذي وصفه في دفاتر يومياته بالأراضي الخصبة المليئة بالغابات الكثيفة، والبحيرات الواسعة الصّافية، والأغصان المورقة التي تنوء بثمارها من فواكه لم يعرفها الإنسانُ الأوروبيّ من قبل.. واليوم بعد أن دمّرا لغزاة أبرزَ وأجملَ مظاهر الطبيعة التي وصفها كولومبوس في مذكّراته، أصبحت معظم المناطق جرداء قاحلة مثلما حدث في جزر هايتي،كما دُمّرت في السّلفادور ما يقرب من 98 في المائة من غابات، وأدغال.. وحيثما توجد مناطق مزروعة بالغابات الآن تخلو فيها شجرة واحدة من أمراض الخواء التي أصابت تجويفها الداخلية، وهي الظاهرة التي تشهد الغابات في مختلف مناطق قبائل «لاكاندون» في المكسيك على سبيل المثال وفي سواها من أصقاع هذه القارّة المترامية الأطراف».
لقاء الثقافات: الإسبانية والعربيّة والهنديّة الأصليّة
يرى بعض المؤرّخين المُنصفين في أمريكا اللاّتينية وفى أوربا ومن العرب والأجانب على حدٍّ سواء كذلك أنّه من الأخطاء التي يقع فيها بعض الكتّاب والباحثين في مجال ما يُسمّى باكتشاف العالم الجديد قولُهم – بعد أن أجازُوا مصطلح « لقاء» بدل «اكتشاف» للتخفيف من وطأة وثقل ما حدث فى تلك التواريخ من مظالم وتجاوزات – : بأنّ هذا اللقاء كان بين عالمين أو ثقافتين اثنتين وهي الإسبانية والهندية الأصلية ، وهذا حيف بيّن، وخطأ واضح، وأنّه من الإنصاف القول أنّ هذا اللقاء كان بين» ثقافات ثلاث» وهي الأوربية، والأمريكية الأصلية إلى جانب الإرث العربي الزاخر والتأثير العميق للثقافة الإسلامية التي استقدمها معهم الإسبان الذين وفدوا على هذه الديار زرافاتٍ ووحدانا بُعيد الاكتشاف، يُضاف إلى ذلك الهجرات المتوالية والمتعاقبة التي حدثت فيما بعد بشكلٍ متواتر غير منقطع حيث أطلق على هذه الأراضي المكتشفة بـ»إسبانيا الجديدة» أو «العالم الجديد» .وإسبانيا الجديدة هذه لم تقم سوى على إشعاع وآثار حضارة مزدهرة حتّى وإن صادفت نهايتها السياسية مع بداية الاكتشاف إلاّ أنها كانت لمّا تزلْ قائمةً في مختلف مظاهر الحياة وداخل الأنفس والعقول ذاتها.
ففي ذلك الإبّان، أي بعد تاريخ 12 أكتوبر 1492 لم تكن الرقعة الجغرافية الإسبانية والبرتغالية خالية من العرب والبربر المسلمين، فمنهم من استقرّ بهما متخفياً ومنهم من هاجر وفرّ بجلده، وهناك من آثر البقاء متظاهراً باعتناق الكاثوليكية، والذين نجوا وبقوا سُمّوا بالموريسكييّن، فقد كان منهم أمهر الصنّاع، والمهندسين، والعلماء ،والمعلمين والمهندسين ،(العُرفاء ج. العريف)، وخبراء الرّي والفلاحة والزراعة والبستنة، بل لقد ظلت مسألة تسيير العديد من المرافق الحيوية في البلاد ليس في الأندلس وحسب (جنوب إسبانيا) بل وفي مناطق أخرى من شبه الجزيرة الإيبيرية خاصة في شمالها الشرقي والغربي (البرتغال) بيد العرب المسلمين. وهناك وثائق تؤكّد هذه الحقائق التاريخية، فكيف والحالة هذه ألاّ يحمل الإسبانُ الذين هاجروا إلى العالم الجديد معهم هذه « التأثيرات «..؟ بل قد يصل بنا التساؤل والقول بأنّ هناك من المسلمين المغلوبين على أمرهم من هاجر مع أفواج المهاجرين الإسبان، وإلاّ من أين جاءت هذه الدّور ذات الباحات،والساحات، والنافورات العربية التي بنيت في العديد من بلدان أمريكا الجنوبية ..؟ و من أين جاءت هذه الأقبية، والأقواس والعقود والشبابيك والمشربيات العربية؟ بل والأبعد من ذلك هذه الكنائس التي كانوا يبنونها غداة وصولهم ويظهر فيها الأثر العربي والإسلامي بوضوح ،بل لقد استعمل بعضهم الخطّ العربي المحتوي على أشعار وحِكم وآيات قرآنية إعتقاداً منهم أنها من علامات الزينة في البيوتات الكبيرة والقصور في إسبانيا وفي مختلف البلدان الأمريكية الجنوبية ، وتعلو وجهَ المرء (العربي) ابتسامة ممزوجة بالرضى والمرارة معاً عندما يجد بعض تلك الأشعار، والآيات القرآنية والحِكَم والمأثورة ، والأقوال المشهورة وقد وُضعت مقلوبة على تلك البلاطات أو الرخامات أوالزلّيج !.
أدب المنفىَ
داخل الوطن
من المعروف أنه كان لهؤلاء الموريسكيين أدب سرّي أو ما كان يطلق عليه بـ « أدب المنفى داخل الوطن» وهو أدب مؤثّر وبليغ يسمّى باللغة الإسبانية الخاميادة أو الخاميّة(Aljamiada) بمعنى (العجميّة)، وقد أطلق عليه هذا النعت لأنه أدب مكتوب انطلاقاً من اللغة الإسبانية ولكنه يستعمل حروفا ًعربية، وكان الإسبان من ناحيتهم يطلقون هذا اللفظ على اللغة القشتالية المحرّفة بمزجها بكلمات عربية، وكان يتكلّم بها عرب، وأمازيغ إسبانيا في آخر عهدهم بالأندلس، ولمّا خشي الحكّام الكاثوليك على هؤلاء من التكاثر، أو استعادة النفوذ قرّر الملك فيليبّي الثاني أن يصدر ظهيراً أو مرسوماً ظالماً بين 1609-1614 بطرد آخر المسلمين من إسبانيا. ويشير الباحث الإسباني « لوبث بارالت» : « أنّ هذا القرار الدرامي المُجحف الذي اتخذه فليبي الثاني كان سبباً في إثارة جدلٍ هائج ما زال يُسمع صداه حتّى اليوم» .وإذا كان هذا يحدث في القرن السابع عشر (1614) أي 122 سنة من وصول الإسبان إلى ما أطلق عليه ب «العالم الجديد»، فإنّ ذلك يدلّ الدلالة القاطعة على أنّ إسبانيا عندما « اكتشفت» أمريكا كانت لمَّا تزلْ واقعةً تحت التأثير العربي الإسلامي، وأن العادات، والتقاليد و غير قليلٍ من الأعراف وفنون المعمار، وأسماء الحِرف، والمهن، والصناعات والابتكارات، والآلات البحرية، والعسكرية، والفلاحية وعشرات الآلاف من المسمّيات كانت عربية أو على الأقل تنحدر من جذرٍ أو أصلٍ أو أثلٍ عربيّ، وهي التي استُعملت في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية وظلّت مُستعملة بها ولا تزال إلى يومنا هذا. ويتحدّث الباحث المكسيكي « مانويل لوبث دي لا بارا « في بحث له طريف تحت عنوان «عام 1492» عن التأثير العربي في الحياة الإسبانية بشكل عام خلال هذا التاريخ فيشير: « أن حرب استرجاع غرناطة دامت 11 سنة، وانتهت بانتصار الملكيْن الكاثوليكييْن( إسابيلا وفرناندو) في الحمراء في 2 يناير 1492 وكان وضع ذلك حدّا للوجود السياسي العربي الطويل في إسبانيا الذي يرجع إلى 711 م ، إلاّ أنّ الوجود الفعلي للعرب والبربر في شبه الجزيرة الإيبيرية لم ينته عام 1492 .ففي غرناطة وحدها كان لمّا يزل يعيش حوال 4 ملايين من السكّان في حين كانت هناك 6 ملايين تتوزّع على باقي إسبانيا والبرتغال، والقسط الأكبر من هؤلاء السكّان كانوا من العرب والبربر، وكان معظمهم يعمل في الفلاحة والصناعة وتربية المواشي. وكانت لديهم ثروات هائلة من أراض خصبة بفضل علومهم الفلاحية الواسعة ومجهوداتهم، وشاءت الأقدار أو الصّدف أنه في نفس ذلك التاريخ من القرن الخامس عشر بدأ عصر الاكتشافات الجغرافية الكبرى التي أضيفت على إثرها قارة جديدة إلى خريطة العالم بعد رحلة كولومبوس التاريخية حيث انهارت مفاهيم الفلسفة الجغرافية القديمة، ونظراً قرب، بل والتلاقي المسافة الزمنية بين سقوط غرناطة وهذا الاكتشاف (نفس السنة 1492 ) فإنّه لا يمكن بحال من الأحوال النظر إلى اكتشاف أمريكا بمعزلٍ أو بمنأىَ عن التأثيرات العربية الإسلامية التي كانت حديثة العهد، والتي كانت لمّا تزلْ تفعل فعلها واضحاً في المجتمع الإسباني على الرّغم من انهيار الحكم السياسي في الأندلس».
التأثير العربيّ
غداة الاكتشاف
تؤكّد الباحثة المكسيكية السورية الأصل الراحلة إكرام أنطاكي في كتاب لها بعنوان «الثقافة العربية أو الثقافة الثالثة» مدى تأثير الحضارة العربية في عملية اكتشاف العالم الجديد، وهي تسمّي أو تصف هذا الجانب المؤثّر بـ ‘الثقافة الثالثة’ وتعني بها الثقافة العربية الإسلامية التي تعتبر من مكوّنات شعوب أمريكا اللاتينية بدون منازع، وقد تفضلت مشكورة وأهدت لي هذا الكتاب الرّصين خلال عملي كقائم بأعمال السفارة المغربية فى المكسيك أوائل التسعينيات من القرن الفارط،.
تشير الباحثة (المكسيكية السورية) رحمها الله في كتابها القيّم عن هذا الموضوع بالحرف الواحد: «إنّ المكتشفين وصلوا إلى المكسيك (وباقي بلدان هذه القارّة) مستحضرين معهم ثمانية قرون من الوجود العربي والتأثير الإسلامي في إسبانيا، وإنه في كل لحظة كانوا يستعملون الكلمات العربية أو التي هي من أصل عربي وهي ما زالت موجودة ومنتشرة في هذه الربوع إلى الآن’.وهكذا فإنّ كتاب «الثقافة الثالثة» هو كتاب ثقافة وفن يضمّ العديد من الصّور التي تقدّم الدليل على الغاية من وضعه من غير استعمال خطاب مضخّم ،إنه كتاب يعالج تأثير العرب في المكسيك وبالتالي في باقي بلدان أمريكا اللاتينية بالخصوص في ميدان المعمار ومختلف مظاهر الحياة الأخرى، وتقول المؤلفة في ذلك: «الحديث لا ينقطع عن التأثير الإسباني المكسيكي ويكاد لا يذكرون شيئاً عن الجذور الإسلامية العربية التي هي في الواقع أصل هذا التأثير». وتقول الكاتبة إنّ «اللقاء» الذي تمّ لم يكن بين ثقافتين اثنتين وهي الإسبانية والهندية الأصلية وحسب كما يقال من باب الحيف والشطط ، بل كان بين ثقافاتٍ ثلاث مضافاً إليها الثقافة العربية الإسلامية.وتؤكّد إكرام أنطاكي أنّ الذين قدِموا من إسبانيا استوطنوا المكسيك بعد وصول كولومبوس إلى العالم الجديد كانوا بعيدين عن الحضارة، وكانوا أقرب إلى الوحشية والهمجية، وانّ الجانب المشرق الوحيد الذي جاؤوا به معهم هو الإرث العربي الإسلامي، وقد طّعّم التأثير العربي في المكسيك بالهجرات العربية المتوالية التي حدثت فيما بعد حيث استقرّت العديد من الأسر العربية المترحّلة في هذا البلد، وما فتئ أولاد وأحفاد هؤلاء يرجعون بأبصارهم وأفئدتهم وضمائرهم إلى ماضيهم وأجدادهم وأوطانهم الأصلية وكلّهم فخر واعتزاز وإعجاب بهذا الماضي العريق.
شهادات
يشير الباحث المكسيكي «أدالبيرتو ريُّوس» في نفس السّياق: « أنه من العبث التأكيد على مصطلح «لقاء عالمين» أو ثقافتين إذ تبقى إفريقيا وآسيا بذلك خارج هذا المفهوم وهما شريكان في هذا الموضوع تاريخياً «. ويضيف الباحث: «من الصعوبة أن يفهم الإسبان لماذا لا تزال تلهمنا مواضيع الغزو وهم يزعمون أنه ليس لهم أمثال شبيهة بما حدث مع الرّومان والعرب بالنسبة لإسبانيا نفسها، ويجهلون أو يتجاهلون، أو ينسوْن أو يتناسوْن أنّ التاريخ الذي بدأ منذ خمسمائة سنة له معنى تراجيدي في حياتنا».
ويؤكّد الرّوائي المكسيكي الرّاحل كارلوس فوينتس من جهته في كتابه «سيرفانتيس أو نقد القراءة» في مجال التأثير العربي والإسلامي في إسبانيا والذي انتقل بشكل أو بآخر إلى القارة الجديدة : «أنه من العُجب أن نتذكّر أن الثقافة الهيلينية وكبار المفكرين الرّومان الضالعين عملياً في المناطق الأوربية استعادوا مواقعهم، وحفظت أعمالهم بفضل ترجمتها إلى اللغة العربية ،فضلاً عن العديد من الابتكارات العلمية والطبية في الوقت الذي كانت فيه أوربا مريضة ويتمّ علاجها بواسطة التعزيم والرقى والتعاويذ والتمائم «. ويضيف: «فعن طريق إسبانيا المسلمة أدخلت إلى أوروبا العديد من أوجه التأثيرات الهندسية المعمارية الموريسكية حيث أصبحت فيما بعد من العناصر المميّزة لخصائص الهندسة القوطية».
يشير الكاتب الأوروغوائي إدواردو غاليانو صاحب (أوردة أمريكا اللاّتينية المفتوحة) : «أنه ليس عيبًا أن يُحْتفَى باكتشاف أمريكا،ولكن ليس من أجل تكريم الملوك الكاثوليك الإسبان الذين أنشأوا محاكمَ التفتيش، والتعذيب، والتقتيل، والتنكيل المعروفين بعدم التسامح والجهل، بل فليكن هذا الاحتفال تكريمًا لبعض التقاليد الأمريكية القديمة جدًّا، وقيم، وعوائد الأمم التي عشقت الحرية، وتعلقت بالشّرف، والكرامة، وهامت بالطبيعة، إنّسان هذه المناطق من العالم كانوا يعيشون ويعملون جماعات في ما بينهم قبل أن يحدث «الاكتشاف» الذي جاء ولقّنهم الأنانية،و الكراهية، والأثَرة،و التشرذم، وحقّ المِلْكية، والجَشَع، وروائع أخرى..! أو أن يكون احتفالاً بهؤلاء الذين جاؤوا فاتحين مثل حالة البحّار «غونسالو غيرّيرو» الذي ظلّ تائهًا في أرض «المايا»، ثم سرعان ما انخرط في مجتمع الهنود، وتزوّج منه وكان له أولاد، وعندما علم (المكتشِف) «إيران كورتيس» بقصّة ذلك البحّار طلب منه الحضور فرفض، وآثر أن يظلّم **عأهله الجدد، وعائلته وأولاده،ولما كان عام 1536 وبعد معركة طويلة بين هنود الماي اوالغزاة، وبين العشرات من الجثث ظهر هنديٌّ ملتحٍ، هنديّ ذ وجلد أبيض، وقد شقّت جبينه رصاصة غاشمة، لقد كان «غونسالوغيرّيرو» الذي آثر أن يسقط مع مَنْ ارتاح إليهم، وأحسنوا وفادتَه، هذا الرجل هو أوّل غازٍ تمّ غزوُه، وكان هناك آخرون ظلوا في غياهب المجهول والكتمان والنسيان.
*كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم بوغوطا كولومبيا.