23في الحرب كما في الكتابة، يقال لامتلاك السفح، وجب السيطرة على الجبل. من هو سيد الجبل؟
الجواب، يضع قارئ “يوميات مُعلِم في الجبل” للمؤلِف عز الدين الماعزي، أمام ذاكرة ورقية، محكي الذاكرة، البوح، الطفولة، آمال مهنة التدريس وألمها، واللعب الساخر، ذلك الضحك المقاوِم للألم ومغامرة الدخول إلى مغارة فريواطو بالتعبير البوزفوري، نسبة للأستاذ أحمد بوزفور. إنه النسق القصصي/ المغارة، (التي تقول عنها الحكايات إن الكثيرين ممن دفعهم الفضول إلى سبر أغوارها الداخلية، فدخلوا… ولم يخرجوا أبدا)، إذن، هل من صعدوا الجبل … لم يهبطوا أبدا؟
“يوميات معلم في الجبل” الجزء الثالث، جاءت باعتبارها سيرورة سردية، لتعيد خلق عوالم فنية، محكي الجبل:
-الذاكرة: ذاكرة فردية/ جماعية: الحزب، النقابة، المهنة…، الوطن الأم، هذه الذاكرة بتعبير لوتمان: ( هي أشبه ما تكون بمُوَّلِد يعيد إنتاج الماضي من جديد. أي إنها قادرة على تحويل كل السيرورات التي نقلها إلينا الفكر من الماضي.)
-الفراغ: فراغ الفضاء والذات/السارد (فارغ حد التفاهة، فارغ إلا منك قلت للطاولة التي تشبهني..)المجموعة القصصية، ص.41.
-الغربة، المعاناة، والنضال، عزلة غابرييل غارسيا ماركيز.
-السخرية: الضفادع البريّة، الشهادة الطبية النفسية، الشاي البائت، الحذاء الأسود، السلم الإداري، ممتلكات النقابة، برغوث الموعاليم، الوطن الحزين…، إلخ.
هذه الكتابة الساخرة، نجدها تُشيّد تصويرا كاريكاتيريا يتشاكل والصور الفنية التشكيلية، وفق تناغم الكتابة اللغوية والكتابة التصويرية، من خلال تقنية تقابل الفني التشكيلي ومضمون محكي اللغة الطبيعية التخييلية، هذا الانسجام التصويري اللفظي يختزل عوالم التعليم الصامتة، طقوس الكتابة الإبداعية وسؤال التنظير، الذراع الثانية من بين الأذرع السبعة للأمن القصصي بتعبير ذ. بوزفور، إنها الذراع النقدية، وصف الكتابة القصصية: (الكتابة هي درجة من الامتلاء الداخلي، هي قلق لغوي خلف انزياح ثقيل من الذات وأوتاري تنصت وتتزعزع) م، ق، ص،82.
نسق الكتابة:
يُحيل هذا النسق على تنظيم طقوس الكتابة وشعرية الفضاء – الجبل- وأيضا التنظير لها إبداعيا، إنه نسق، بنية سردية جمالية، تتمفصل بين تحولات بسيطة: وصف خارجي للفضاءات، الشخصيات، وتحولات كبرى تتطور والمحكي الذاتي- النفسي، “زحزحة الحجر الذي تقبع تحته الحشرات … وبدون زحزحة الحجر، فلن تكون هناك كتابة، لأن تلك الحشرات هي الشيء القصصي، هي الخاص/ الجديد/ الفاعل.” قال:أ.بوزفور.
يمكننا أن نتدرج في قراءة يوميات معلم في الجبل، من خلال قراءة تطمح إلى مقاربة النقاش الإيديولوجي، الذي يتمظهر من خلال جُمَل المحكي: سياسيا،دينيا، ثقافيا، اجتماعيا..،إنها نسق منمذج نمثل لها بالآتي:
ذاكرة جماعية – نظام _ معرفة _ اللا- نظام؛
إيديولوجيا _ وزارة التعليم _ ثقافة _ اللا- ثقافة = الفوضى.
هذه الإيديولوجيا: الحزب/ النقابة، تستبين والتناص مع نصوص وشخصيات وأغاني متنوعة ثقافيا، حضور تناصي نمثل له بالمحكي القصصي المعرفي أو الموسوعي نسبة لأمبيرتو إيكو، “الكاتب الموسوعة”، (… حين نتناول موضوعا تربويا تختلط الرؤى وتكبر زوايا النقاش ليتطور إلى السياسي والنقابي، الكثير منا يحتمي بالأغاني… أداوي جرحي ب “أحمد قعبور وسعيد المغربي”… تصبح الأغنية هي الدواء لجروحنا وآلامنا المتعددة والكتب أيضا)ص،23-24.هذه المعرفة الموسوعية تتوارى خلف وجودية سارتر، وشعرية محمود درويش (لا شيء يوجعني على باب القيامة) ص،55، سميح القاسم، أحمد مطر، أحمد المجاطي ( بالرغم من أني من عشاق ومحبي ديوان “الفروسية” لأحمد المجاطي وقصيدته، حروف، التي تمنيت أن أكون كاتبها)ص،24. وأيضا حضور معرفة سردية روائية من خلال أعمال غابرييل غارسيا ماركيز، مائة عام من العزلة، خريف البطريك، وقصص زكريا تامر، كما نجد حضور الموسوعة السنيمائية (لكي يوقف الألم أتذكر رقصة بطل فيلم ” الرقص مع الذئاب” غموض اللحظة يولد أسئلة شائكة..)ص،55؛ إذن، نسق كتابة “يوميات معلم في الجبل”، نجدها تشيد أيضا تواصلا، رسالة تشتغل من خلال قانون التكرار، تكرار تيمة الجبل، حيث، نجد الجبل يتكرر على طول الخمس عشرة قصة، أي بمجموع ثمان وخمسون مرة، هذه التعددية تتنوع دلاليا بين الجبل باعتباره فضاءً جغرافيا وتارة أخرى باعتباره تيمة تخييلية، انزياح مجازي: (جبل يتثاءب برأسين وعيني.. آه..عيني تخدش الزوايا وهو يرفع رأسه على ظهر الخرائب، أحس بذاتي أكبر من ذات البياض وهل في الوجود بياض، قلت.. (…) أشكو القسوة من العالم ولا شيء غير الوحدة القاتلة. أنا وحيد في البياض أنا وحيد)ص،55.
البناء الذهني للفضاء : الجبل.
هذا الجبل، باعتباره مَخزنا للدلالات الأسطورية اللامتناهية، من خلال عوالم المحكي القصصي، يوميات معلم في الجبل، حيث يمكننا تناولها قراءةً، باعتبارها آلية الانتقال من واقع معيشي ملازم للشخصية الورقية السارد، ومنفتحة على تأويلات دلالية لا تنضب، و لا يرغب السارد في الإفصاح عنها، من خلال التُّهمة التي هي المهنة في علاقتها بالتنظيم النقابي، (بالكتابة أطمح أن يهبني الكلام تحقيق الكثير من الرغبات المكبوتة داخلي، لن أفصح عنها طبعا.. (…) هل أفضحها الآن؟) ص،35. إذن، ثنائية المهنة ( التعليم) / الفضاء (الجبل)، تتيح لنا إمكانية تتبع مسالك المعنى في مقابل الآخر المسرود له باعتباره اللامعنى، ثنائية تقوم على الصراع بين الذات والفضاء الجبل، من سيضحك على الآخر؟ (فاضحكْ يا صاح في الجبل أو ليضحك عليك الجبل في مملكة الجبل.) ص:6.
إن البوح والشفافية الداخلية التي تصور لنا حجم مقاومة الشخصية في تطلعها إلى هزم الفراغ والعزلة والانتصار للقيم الكونية، التحرر والعدالة و التسامح واحترام الإنسان، نجدها تتمظهر كاريكاتيريا، سخرية الملفوظ اللغوي، ذات ساخرة / موضوع مسخور منه، (سيدي الوزير المحترم/ محتويات النقابة/ الرابيل/ دراجة سي محمد/ الموعاليم/ المدير/ المفتش/ صابون الكف…)
محكي الجبل
إن التدرج القصصي في يوميات معلم في الجبل، يمكننا أن نطلق عليه “محكي الجبل”، إنها الآلية التي تصيغ إنتاج نصوص تخييلية سردية، وتنمذج دلالات متوالية ولا نهائية من خلال ثلاثة أنماط بنيوية بارثية، نسبة لبارث:
-الصفات النفسية والسيرية والمزاجية والاجتماعية للشخصيات المشاركة في المحكي (السن، الجنس، الصفات الخارجية، الوضع الاجتماعي أو السلطوي..)
-الوظائف: وظائف الشخصيات، المسندات، العوامل: الذات/الموضوع/ المساعدون/ المعاكسون.
-الأفعال السردية، دينامية السرد، في علاقة مع زمن المحكي.
وعليه، إن الجبل باعتباره نسقا دلاليا أسطوريا، نجده يتخذ تمظهرات عديدة منفتحة على التأويل، كتب ذ. بوزفور نقلا عن فرناندو أرابال: ( نادراً ما حدث لي وأنا أقترب من الجبل أن رأيتُ على جانبيه كلمة ” جبل”). إذن، لماذا الجبل؟ هل هو سمكة همنغواي؟ (… و “السمكة” ” هي هذا الجبل”. لكي أتخلص منه يجب أن أكتب وأكتب حتى أملأ أوراق صخره بمداد أزرق). ص،7. (أنظر إلى الجبل وكأني أنظر إلى قطعة ما … هل من الممكن أن يكون امرأة؟ … الجبل في صورة امرأة تهبني قوة وصبرا ونبيذا أبيض.. وماء) ص، 38. وفقا لقانون التكرار، الذي يحضر على طول المحكي القصصي، نجد دلالات الجبل تتضح على أنها امرأة/ كتابة، إذن، هي لعبة الكتابة وفق قانون تمطيط الجملة الكبيرة: يوميات معلم في الجبل. يقول رولان بارث في مؤلفه، التحليل النصي: ( إن المحكي على مستوى معين، أشبه بالجملة. ومبدئيا يمكن تمطيط جملة إلى ما لا نهاية)، وعليه، جاءت نصوص القاص، عز الدين الماعيزي، وفق سيرورة لا متناهية بدءًا من الجزء الأول وصولا إلى الجزء الثالث، فصحيح يمكن للسارد أن يختم أجزاء مجموعته القصصية ويقفلها، وأن يضع نقطة نهاية بنيات محكياته القصصية، لكن، وحتى إن صحًّ القفل والختم معاً، وهذا لن يتحقق، فالقارئ سيكون أمام بنيات لا نهائية تأويلية، باعتبار أن التأويل سيرورة لا متناهية. كما ان المهنة –مهنة التدريس وثنائية الأمل والألم هي التي تقول لا، إنها شهرزاد الجبل، ( تحية لكن ولكم أيها الجنود الذين يلعنون الظلام ويطهرون الأرض من الفساد يعبثون بغبار الطباشير ويعبثُ بهن وبهم الزمان..) ص، 91.