لم أكن أعتقد وأنا أطأ بلاد الساموراي، أن المطاف سينتهي بي محتجزا في حجرة صغيرة، لا تتعدى مساحتها 16 متر مربع، أنتظر مصيرا مجهولا، بعدما تأكد أنني خالطت الزميل يوسف بصور، صحافي جريدة الأحداث المغربية، حيث كنا نقيم في نفس الغرفة ونقتسم الأكل والشرب، وحتى التنقل، حيث كنا إلى جنب طيلة أيامنا الأولى بالعاصمة طوكيو، في أول مهمة رسمية لي خارج المغرب.
مرت على هذا الحال عدة أيام، أبحث فيها من معلومة ولو بسيطة، تشفي غليلي، وتريح أعصابي، التي توثرت إلى حد لم أعد فيه أطيق سماع كلمة «اصبر»، لأنني أصبحت أشفق على نفسي، رغم محاولات الزملاء الصحافيين، الذين ما فتئت اتصالاتهم تخفف عزلتي، وترفع معنوياتي.
تحليلة سلبية، لكن غير كافية
كانت نتيجة التحليلة التي أجريتها مساء الاثنين تشغل بالي، لأنها قد تكشف أمامي مجموعة من الحقائق الغائبة، حيث كنت أتوهم أن ثلاث تحليلات سلبية يمكن أن تطلق سراحي، وتعيد إلي حريتي المسلوبة.
كانت اتصالاتي مع الفريق الإعلامي، الذي رافق البعثة المغربية إلى طوكيو حول هذه النقطة فقط، لأن الجميع كان على أعصابه، سيما وأن نتيجتها يمكن أن تحسم مقامهم، غير السعيد، في هذا البلد، ولاسيما في زمن كورونا.
فجأة اتصل بي أحمد نعيم، المسؤول الإعلامي باللجنة الوطنية الأولمبية، ومدني برقم حساب إلكتروني وكلمة سر، وطلب مني إدخالهما في موقع خاص بالفحوصات الطبية المتعلقة بفيروس كورونا، كي أعرف نتيجة التحليلة. قمت بالعملية على عجل. كانت ضربات قلبي تتسارع، لأن درجة خوفي كانت عالية، كيف لا وأنا الذي قضيت ليلة بكاملها في غرفة تضج بكورونا، بعدما فرضت علي إدارة الفندق المبيت في نفس المكان مع الزميل يوسف بصور، الذي تأكدت إصابته بالفيروس التاجي مساء السبت.
أدخلت المعلومات، وكانت النتيجة ولله الحمد سلبية. استعدت هدوئي، وأخذت نفسا عميقا، علي أتخلص من كل الضغط الذي رافقني طيلة هذه الأيام.
على الفور ربطت اتصالي بالصديق إسماعيل علوي البوزكراوي، المسؤول الطبي بالبعثة المغربية بأولمبياد طوكيو، وأخبرته بنتيجة التحاليل. بدت عليه هو أيضا الفرحة، وقال لي هذه علامة خير، لكنه فاجأني عند سؤالي عن الخطوة المقبلة، بعدما قال لي بأنه توصل للتو برسالة عبر البريد الإلكتروني من اللجنة اليابانية المنظمة للألعاب، تعتبرني حالة يمكن أن تشكل خطرا، وبالتالي وجب التعامل معها تبعا للبروتوكول الصحي المعمول به في هذا البلد الآسيوي، والمتمثل في ضرورة الخضوع لحجر صحي مدته 14 يوما. كما قالوا في رسالتهم أيضا إنهم لا يأمنون عدم حصول مضاعفات داخل الطائرة، بحكم الارتفاع عن الجو، وغيرها من التبريرات التي تصب كلها في وادي الحجر الصحي الإجباري.
كانت دهشتي كبيرة، رغم أن بصيص الأمل كان قليلا، وآمنت حتى آخر لحظة بأن التحاليل السلبية ستشفع لي في إطلاق السراح، لكن إسماعيل عاد ليؤكد لي بأنهم داخل اللجنة الوطنية الأولمبية كانوا ينوون وضع المسؤولين اليابانيين أمام الأمر الواقع عبر إجراء ثلاث تحاليل تكون نتائجها سلبية، وبناء عليها أتوجه إلى المطار، لكنهم خافوا من أن تكون اللجنة المنظمة للألعاب قد تواصلت مع سلطات المطار في هذا الشأن، وحينها يمكن أن نقع في أزمة نحن في غنى عنها.
آمنت بقدري، وعدت إلى سريري، حيث استلقيت على ظهري، وحاولت عدم إعطاء الأمر أكثر من حقه، حتى لا أتأزم نفسانيا، لأن الوضع الذي كنت فيه لا يمكن أن يفضي إلا إلى نتيجة غير محمودة.
بقيت أبحث في هاتفي عن أي شيء يمكن أن يشغلني، ويمنعني من التفكير في هذا الوضع الذي قادني إليه قدري.
بعد فترة وجيزة اتصل بي السيد عصام برينسي، المستشار بالسفارة المغربية، وجدد دعمه لي، داعيا إياي إلى مهاتفته عند كل جديد أو طارئ، وبعدها كان اتصال آخر من السيد محمد حميمز، مدير الرياضات بوزارة الشباب والرياضة، بعدما أخبره الزميل نعيم بوضعيتي، حيث كانا في طريقهما إلى المطار، وعبر لي بدوره عن دعمه ومساندته، مؤكدا على أنه اتصل بمسؤولي السفارة، وطلب منهم الاهتمام بي إلى حين عودتي إلى المغرب.
غباء ياباني
قبل توجهه إلى المطار، أنهى الزميل نعيم تفاصيل نقلي من الغرفة/ الجحر إلى أخرى أرحب وأفسح، حيث أخبرني أن إدارة الفندق اشترطت عليهم مقابل تغيير الغرفة أن يسددوا فاتورة الخمسة أيام التي قضيتها بها، والغريب أن مقابلها المادي كان هو 100 يورو لليلة الواحدة، والحال أنها أسوء من غرف الفنادق غير المصنفة عندنا بالمغرب، وهي التي تتواجد بفندق من ثلاثة نجوم.
جاء وفد من اللجنة الوطنية الأولمبية إلى الفندق عند زوال يوم الأربعاء، وأنهى ترتيبات نقلي إلى الغرفة الجديدة، لكن إدارة الفندق رفضت انتقالي الفوري إليها قبل 72 من مغادرة الزميل يوسف بصور للغرفة المشتركة، التي كنا نقيم بها، حيث اعتقدنا جميعا أنها ستكون وجهتي، خاصة وأن مسؤولي الفندق بعثوا برسالة إلكترونية يؤكدون من خلالها على أنها ستكون متاحة بعد أن تخضع لتعقيم شامل، ومرور 72 ساعة على خروج الزميل بصور.
طالبوا مني الصبر هذه الليلة، وصباح الغد يمكنني الانتقال إلى الغرفة الجديدة، وهوما كان. عند المساء سيرن هاتفي، وسيكون المتصل هو رئيس البعثة المغربية، عبد اللطيف إيدمحما، الذي أبدى تعاطفا كبيرا معي، وسعى ما أمكنه إلى رفع معنوياتي، فكان حديثنا مطولا، وحميميا، تبادلنا فيه مجموعة من الأفكار، حيث أخبرته بأن هذه التجربة التي مررت بها هنا ستكون موضوع كتاب، أنا الآن بصدد خط سطوره الأولى.
أعجبته الفكرة، وطلب مني سبر أغوار التاريخ الياباني لمعرفة سبب هذا التطور وهذا الرقي الذي تعيشه هذه الدولة، العملاقة تكنولوجيا، والفقيرة موارد طبيعية، لأنها تستورد أكثر من 90 بالمائة من حاجياتها الضرورية. كما دعاني إلى اعتماد المقارنة بين ما شاهدته هنا مع ما نعيشه في المغرب، حتى يكون القارئ قد وقف على حجم الفوارق ويدرك أخطاءه، ويحاول تدارك ما فاته.
جرنا الحديث أيضا إلى بعض سلوكيات المجتمع الياباني، وفي مقدمتها الانضباط الكبير أمام القانون وعدم الاجتهاد فيه، وهو ما أكده لي إسماعيل علوي، عضو الطاقم الطبي للجنة الوطنية الأولمبية، حيث أخبرني أنه عندما حمل بعض الأدوية إلى الزميل بصور، في الفندق الذي يستكمل فيه العلاج، لم يتمكن من إدخالها له إلا بعد مشقة وجهد جهيد.
قال لي إنه تحدث مع شخص واحد في البداية، وأخبره بأنه لا يمكن إدخال أي دواء إلى المريض، وعندما تشبث بموقفه، وأصر على إدخال الدواء، وجد عدد مخاطبيه يزداد مع مرور الوقت واحتدام النقاش، حتى وصل إلى ستة، عجزوا جميعهم عن اتخاذ قرار، لأنه لابد من مسؤول أكبر منهم لتحمل المسؤولية.
رفض إسماعيل التراجع وصعد معهم، ليوافقوا في النهاية على أخد الدواء، الذي كان الزميل بصور في حاجة ماسة إليه لاستكمال العلاج، وكان عبارة عن فيتامينات ومضاد حيوي وأدوية تتضمن الباراسيتامول، لكنهم رفضوا تسليمها إياه قبل المساء، مؤكدين على أنه لا يحق لهم زيارة المريض أكثر من ثلاث مرات في اليوم، وهو ما رفضه المسؤول المغربي، قبل أن يتم القبول في النهاية وبعد مفاوضات ماراطونية.
ظهر لنا في المطار كيف أن المواطن الياباني لا يحق له الاجتهاد أمام النص القانوني. لقد عانينا عند الدخول أول مرة بسبب عدم تسجيلنا في تطبيق أوتشا، الذي توقف بسبب كثرة الضغط عليه من مختلف دول العالم، ما جعلنا نخضع لمراقبة مشددة بالمطار، لأن التعليمات التي أعطيت هناك كانت تتضمن شرط التسجيل المسبق بتطبيق أوتشا. وبقينا ننتظر الفرج لمدة فاقت الخمس ساعات.
إن من مظاهر رقي هذا المجتمع يبرز احترام الاختصاص، والالتزام بالتعليمات وعدم التزحزح عنه قيد أنملة، وهو ما بدا بالنسبة لنا كما لو أنه نوع من الغباء، لأن قوانين اليابان وصرامتها حولت المواطن إلى « روبوت»، ينفذ ما يطلب منه دون أدنى تفكير، لكنه اعتقاد خاطئ، لأن هذا المواطن ينفذ مهمته على أكمل وجه، مع أسمى قيم الأخلاق والأدب، كما أنه يبدع فيها ويتألق، لأنه يريد أن يثبت كفاءته أمام مسؤوليه.
وفي خضم هذا الحديث مع السيد إيدمحما، الذي استأذنني في إمكانية الاتصال اليومي بي، من أجل الاطمئنان على وضعي والحديث إلي، وهو ما رحبت به دون تردد، قال لي إن مشاهداته ووقوفه على سلوكات المواطن الياباني، خلال زيارته لهذه البلاد، بينت له أن الشعب الياباني عبارة عن خلية نمل، كل نملة تقوم بما يطلب منها على أكمل وجه، حيث يكونون في حركة دائبة، ولا مكان لديهم للوقت الضائع.
كورونا تغزو الأولمبياد
حرصت على ربط اتصالات دائمة ويومية مع الزميل يوسف بصور، حيث نتبادل الأفكار، ونرفع معنويات بعضنا البعض، مع كثير من المستملحات.
أخبرني بصور أن الفندق الذي يقيم فيه يتوافد عليه بشكل يومي العشرات من مصابي كورونا، قد يتعدون في اليوم الواحد 30 مريضا، عدد مهم منهم من العرب، حيث يتواجد إلى جانبه صحافيون وإداريون من دول الجزائر وتونس ومصر وغيرها من البلدان العربية.
وتشهد اليابان في هذه الأيام ارتفاعا كبيرا في عدد الإصابات اليومية بفيروس كورونا، حيث سجلت أول أمس الأربعاء رقما قياسيا في عدد الإصابات التي بلغت 4166 حالة، الأمر الذي دفع السلطات المحلية إلى دق ناقوس الخطر.
ورغم أن هذا الرقم يبقى مهولا في اليابان، التي كانت تسجل قبل انطلاق الأولمبياد أرقاما دون الألفي حالة يوميا، إلا أنه أقل بكثير مما يسجل يوميا بالمغرب، حيث سجلت يوم الأربعاء أكثر من 10600 حالة، في مجتمع لا يمثل سوى ثلث ساكنة هذا البلد الآسيوي.
ورفعت اليابان حالة التأهب في التعامل مع هذه الجائحة، في ظل توالي الأرقام المرتفعة، حيث أصبحت تخضع وسائل النقل لنظام التعقيم الذاتي عبر وضع أجهزة معدة لهذا الغرض، فضلا عن تعقيم محطات الميترو والحافلات العمومية، وسيارات الأجرة، بالإضافة إلى انتشار سوائل وأدوات التعقيم في كل مكان.