يرتبط اسم المؤرخ الهولندي يوهان هويزنغا Johan Huizinga «ديسمبر 1872- 1 فبراير 1945» عند المؤرخين بقضايا وانشغالات التاريخ الوسيط الأوروبي.
هويزنغا مؤرخ وسيطي مُختص في تاريخ النهضة والتاريخ الثقافي الحديث، وكان قد اشتغل في تدريس التاريخ الأوروبي في كل من جامعتي غرونيغن وليدن في هولندا.
خلال أربعينيات القرن الماضي كان هويزنغا يتربع على عرش التاريخ في هولندا، بله كان مؤرخ هولندا الشهير الذي تترصده أجهزة القمع النازي. بدأ هويزنغا دراسته متخصصا في اللسانيات، لكن مع البدايات الأولى للحرب العالمية الأولى وجَّه اهتماماته نحو حقل التاريخ من خلال إنتاج أربعة كتب حول تاريخ العصر الوسيط الأوروبي، أولها حول «اضمحلال العصور الوسطى»، وثانيها حول «ديناميكية اللعب»، وثالثها حول «إراسموس الروتردامي»، وآخرها «في ظلال الغد».
يَظهر الإنسان الوسيطي من داخل خلال هذه الإنتاجات في جسد عارٍ، على حقيقته مُجرد من كل الأقنعة والاستيهامات. إنسان بنوازع وعواطف، بأفكار ومعتقدات لا تحيل على أي تفوق أو تميز…لا ينشغل هويزنغا بالحرب الكبرى بل يتقصد الكشف عن دوافعها وأشكالها، كما لا يهتم بالملوك والقادة بل بتصرفاتهم ومزاجهم السياسي، ولا يهتم بالدين إلا من حيث حضوره في حياة الأفراد، واستمرارية وثنيته في عصور التحول…ويكاد يكون تاريخ عصر النهضة الأوروبية مِحور جُلِّ اهتماماته التاريخية والفكرية، ويتجلى ذلك في مرجعين سالفين سبقت الإشارة إليهما: الأول بعنوان «اضمحلال العصور الوسطى» والثاني بعنوان: «ديناميكية اللعب». ومن خلالهما يُعيد هويزنغا توضيب شريط الأحداث حول فترة حساسة ومفصلية من تاريخ أوروبا، وهي فترة الانعطاف من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، وما ارتبط بها من تقدم ونهضة خلال القرنين 14 و15م وخاصة في كل من فرنسا وهولندا.
والواقع، لا يُمكن أن نقرأ هويزنغا من شُرفة التاريخ وفقط، بل من منظور أوسع يرتبط بالفيلسوف الاجتماعي الذي امتلك رؤية وخلفية واضحة، ودافع عنهما من خلال تعميق الحفر الأركيولوجي في المدونات والوثائق الرسمية.
يجتهد هويزنغا في كتابه «في ظلال الغد» حتى يحيط بالتساؤل الآتي: هل السيرورة الثقافية التي تمر منها الحضارة الغربية سيرورة تحول نحو الصدام والهمجية Barbisation؟ أوَ ليست مفاهيم السرديات الخادعة مثل العظمة وإرادة الأقوى وتفوق العِرق الأوروبي كلها تأتي من نزوعات رومانسية ساذجة لا علاقة بالعِلم؟
وإذا أردنا أن نتعمق كثيرا في نفسانيات المجتمع الأوروبي في فترة ما بين الحربين، يتوجب العودة إلى قراءة كتابه المعنون «في ظلال الغد» الصادر سنة 1936. صدر الكتاب باللغة الهولندية. والكتاب في حقيقته تصوير دقيق لـ «عالم ما قبل الحرب الكبرى»، وتوقف طويل عند قضية تراجع الذوق والفن والثقافة وميل الحضارة الغربية نحو الصبيانية وتقلب مشاعرها. ومن المعلوم أن نهاية الحرب العالمية الأولى كانت قد أشاعت بين المثقفين أحاسيس ومشاعر مرتبطة بسيكولوجية اليأس والتشاؤم على الشكل الذي يُمكن تعقبه في كتابات كل من سيغموند فرويد، كارل مانهايم، وكارل شميت…والحال أن هناك من قرأ كتاب «في ظلال الغد» من مُنطلق التأسيس النقدي لفلسفة ما بعد الحداثة التي ستظهر في صورة مكتملة مع المؤرخ الألماني أوزوالد شبنغلر في كتابه الشهير «تدهور الحضارة الغربية».
تتأسس فرضية الكتاب على توقع الكارثة التي قَوَّضت السرديات الحالمة، ورسمت عالما مُصابا بالجنون، وحضارة على حافة الانحدار أو توشك على ذلك…غداة نهاية الحرب الكبرى الأولى بدأت مساحة الشك تتمدد عند المثقفين، وبدت كل المفاهيم المُؤسسة للتميز الأوروبي في حالة عطالة…حكومات عاجزة عن أداء وظائفها، وأنظمة إنتاج جامدة، وقوى اجتماعية جَنَّ جنونها بالسلطة…في هذا السياق عينه يُنبهنا هويزنغا لما هو أفدح: «لا أحد ينتبه لضرر الروح بقدر ما ينتبه إلى ضرر الجسد».
يقرأ هويزينغا في أزمة الخميس الأسود لعام 1929 عرَضًا Symptôme لأزمة بنيوية، أو لنقل لتحول شمولي حاسم ومصيري صارت معه مُنجزات الحضارة الغربية محاطة بمخاوف مستمرة، نزاعات، صدمات، مخاطر، وحروب قادمة…
منذ عصر الأنوار جرى التأسيس لنظرية تفوق العِرق الأبيض، وشاع الاعتقاد بأن العالم يسير على هُدى التقدم والرفاه، لكن العكس هو الذي حدث، ذلك أن أزمة 1929 أشاعت من جديد روح التشاؤم واليأس من الحاضر والمستقبل، وبَشَّرت بالانهيار الشامل. لقد تجلَّت أولى التنبيهات لهذا التحول في ما كتبه المؤرخ الألماني أوزوالد شبنغلر في كتابه «تدهور الحضارة الغربية». شبنغلر بكان بحق جرس إنذار يُنبه إلى اقتراب الكارثة.
يربط هويزينغا هذا الوضع بأفول الروح النقدية وتضاؤل هامش احترام الحقيقة مقابل سيادة العقل الشعبي…ذلك أن العقل الشعبي يتحرك بروح رومانسية تجعله يغالي في تمجيد الذات وتأكيد تفوقها. لقد استهوت كتابات العالم الألماني شامبرلين Chamberlain ولودفيج شيمان L. Schemann ولودفيج والتمان L. Waltmann ولوتروب ستودارد L. Stoddard ذات النزعة العِرقية، كثيرا من الناس في فترة ما بين الحربين، وكانت هذه الكتابات تدعو إلى تمجيد الذات، ذلك أن المجتمع الذي يسمح للعداء العنصري بأن يتسرب إلى دواخله، بل ويشجعه، يظل غير مستوف لشرط الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة. لهذا، فكل تطبيق أو استعادة للنظريات العِرقية ينهض دليلا على تدني متطلبات الرأي العام إزاء الحكم النقدي.
وبالعودة إلى التاريخ، كان المجتمع اللاتيني في ما سبق يرى في نفسه تفوقه على باقي الشعوب، وكان يمدح صفاته الثقافية دون أن ينتبه إلى أخطائه. ولمّا كانت العلوم الاجتماعية تستحث الخطى من أجل كسب معركة التركيب، كان العقل الشعبي يفرض حضوره ويساهم في إضعاف الروح النقدية.
الحاصل، اتساع الفجوة بين الكتابة النقدية والفانتازايا العِلمية. انحرفت وظيفة العِلم وأُسيء استخدامه. صار العِلم وسيلة من أجل تأكيد التفوق والإمعان في الاستعباد، وانزاح العِلم عن مقصده، وعَلَت وظيفته التقنية على حساب وظيفته التعليمية…لقد صار العقل الحديث كما يقول هويزنغا عُرضة للسخافات، وصار الحديث عن فضائل الأنثربولوجيا البيولوجية التي تُقر بالتمايز بين التركيبات البشرية، يطغى على نظرة الغرب تجاه الشعوب المتخلفة.
حضارة الغرب حضارة مُثخنة بالكسور والجراح والأورام. نِطاقها يشيع قيم الكراهية وسوء الفهم مع ما يرافق ذلك من توسع لدائرة اللامبالاة بالحقيقة…غرب يدعو عَلنا لثقافة الكذب السياسي ويدافع عنه دون أن يراعي مشاعر أحد. وحيثما هناك كارثة، هناك أيضا مُمكنات للانعتاق والخروج من الكارثة، هناك أمل أو مساحة للأمل. يقول هويزنغا أمل وليس يقينا لأن اليقين صعب جدا. يتوجب على درس التاريخ أن يُعلم أبناءه التربية على الصبر. الصبر على الأمل الذي يجب أن يُشيد بالبناء والتفكير والكتابة والقيادة والعمل…حِكمة هويزنغا تقتضي العيش بتواضع، بدون انزعاج من الحماقة والعنف…
في ما سبق، ارتبط ركود الحضارات القديمة بثلاث عوامل: فشل وظيفي لجهاز الدولة وما يترتب عنه من انهيار الحدود وغزو الشعوب المجاورة أولا، وركود اقتصادي ثانيا، وتخلف ديني عن مسايرة روح العصر ثالثا…كما يمكن للهمجية أن تسود في مجتمع يتمتع بدرجة عالية من الكمال التقني. وحتى فترات التألق كانت دوما قصيرة، نادرا ما استمرت لأكثر من قرنين، فخلال ألفي عام الماضية، ومع الحضارة اليونانية في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، ومع الحضارة الرومانية في القرن الأول قبل الميلاد وبعده، ومع العصر الوسيط في القرنين 12 و13…عالمنا اليوم ، حسب تعبير هويزنغا، يُظهر قدرا من الجنون والفظاظة والقسوة.