إن اللغة تحمل سلطة اجتماعية محايثة لها، وهي تتخذ مظهرا بريئا يتمثل في منظومة القواعد الفعلية والنحوية والتركيبية، وبتعبير آخر إن اللغة كمؤسسة اجتماعية لها استقلال عن الأفراد الناطقين بها، وباعتبار أن لها قواعدها الضابطة لنظامها الصوتي والمعجمي والنحوي، وهكذا فاللغة كنسق تتكون من بنيات كالبنية الصوتية، والنحوية والمعجمية، إذ من خلال هذه البنيات يمكننا رصد مظاهر سلطة اللغة والبحث عن التمييز الذي يقوم على النظرة الدونية للمرأة، فعلى المستوى المعجمي سنجد حضورا قويا للتفريق بين الجنسين، فإذا وقفنا مثلا على المعجم العربي، فإننا سنلاحظ أن كلمة امرأة مشتقة من فعل “مرأ ” أي طعم، ومن هنا تواجهنا صلة المرأة بالطعام، ويقال مرأ فلان مرءا أي صار كالمرأة ، وتجمع المرأة على غير أصلها فيقال نساء ونسوة، بدل ” مرآت” ، والنساء تعني المناكح، ومن هنا تواجهنا صلة المرأة بالجنس .
لقد لعبت كذلك البنية النحوية العربية دورا أساسيا في ترتيب الجنسين وتصنيفهما، فإن كان التمييز بين الجنسين ظاهرا على المستوى المعجمي وعلى المستوى النحوي، فإننا سنعاين هذا التمييز كذلك على المستوى الصوتي، فالأصوات تقوم بوظيفة التأكيد على المنطقة التي ينتمي إليها المتكلم، فبالنسبة لنطق ” القاف ” القريب من الهمزة غالبا ما يدل على أن متكلمه أنثى، كما أن خاصية ترقيق الأصوات بصفة عامة هي خاصية نسوية.
إن أهمية المستوى الصوتي تكمن في تحديد نوعية المتكلم وتمييزه بل احتقاره في بعض الأحيان ” صوته كصوت المرأة ” ،” الكلمة هي الرجل ” ، ” ما عندك كلمة كالمرأة ” ، ” الكلام مع الرجال لا مع العيالات “.
وهكذا فاللغة العربية ليست أداة للتواصل فقط بل فيها تنطوي أبعاد الوجود الإنساني العربي، إنها تعتبر مدخلا أساسيا لفهم واقع الدونية الذي تعاني منه المرأة وتكتوي بناره، فأن نتكلم إذن ليس هو أن نتواصل بل أن نسود ونسيطر، إن اللغة لا تنتج تواصلا بل تنتج علاقة، علاقة سلطة وسيطرة .
ويظهر أن المحافظين وشيوخ الأيديولوجية السلفية والإخوانية متشبعون بالموروث الثقافي التقليدي الذي يحتقر المرأة ويكرس دونيتها، من هنا عندما يتكلمون اللغة أو تتكلمهم اللغة، فإنهم يخاطبون المرأة بفحولة جنسية وفحولة معرفية وسياسية، وهذا ما يدل عليه انفجار اللاشعور البنيوي والمكبوت الأصولي في خطابهم، إنها قناعات تعكس موقفا ذكوريا من المرأة .
إن المحافظين، إذن، يلعبون ” لعبة” الذكر، وهذه اللعبة كما تؤكد على ذلك الثقافات القضيبية الرجالية الفحولية، تتمثل في تلقين وحقن دماغ الذكر بأن يكون شديدا عنيفا، بطلا مقداما وكل مشتقات السيطرة كالعنف والبطش، لذا تنسب هذه الثقافة الذكر إلى الحكمة والعقل، وفي مقابل هذا الاحتفال الطقوسي بالعقل والحكمة والشدة والمبارزة، تشترط على الأنثى ثقافيا الميوعة والنعومة والانفعال والعاطفة والرومانسية، إنها تدفع المرأة إلى مناطق الانفعال، الشعر، الشعوذة، الزينة، التبرج، الكبد …أما حكمة السيطرة على الانفعالات وقتل جواسيس النفس فهي أقدس من أن تمارسها المرأة، ويفسر بعض المفكرين المعاصرين هذا الموقف الذكوري بإرجاعه إلى ما يسميه بريان اسلي ” عقدة هشاشة القضيب “.
وهنا نسجل بأنه لا بد من مراجعة ومساءلة الموروث الثقافي الذي ما زال يرقد في الخطاب التقليدي الأصولي، تقول سيمون دي بوفوار: ” إن المرأة لا تولد امرأة ولكنها تصبح كذلك ” ، وتماشيا مع الخطاب الديبوفواري، يمكن القول إن الرجل لا يولد رجلا ذكرا وإنما يصبح بالثقافة كذلك، والتحديد الذي يعطيه رايلي لمفهوم الذكر والأنثى إنما هو بالأساس يعتمد المتواليات من النعوت التي تنسب إلى كل منهما، وفقا للثقافة: المهد، البيئة، الأسرة، السياسة …الثقافي هو الذي لطف ما سمي ويتسمى الجنس اللطيف، وهو الذي أوجد الخشونة لدى الجنس الخشن، أما الطبيعة فلا يبدو أنها جنسوية، أي تفاضل بين الجنسين .
وبعبارة أخرى فالطبيعة لم تنتصر للرجل ضد المرأة، ولكن الرجل، انطلاقا من وعيه الفحولي للعالم، هو الذي ذكرن الذكر وذكرن المعرفة وذكرن العلم وذكرن السياسة …وفي المقابل أنثن الطبيعة وأنثن المرأة وأنثن العاطفة وأنثن القلب ” كلنا يلعب لعبة الذكر والأنثى، لقد تعلمناها من المهد “.
إن التشريط الثقافي، حسب لغة هيرسكو فيتس، هو الذي يمسرح الحياة بعد توزيع الأدوار، وفق معايير سلوكية حفاظا على مصالح المتحكمين في قواعد اللعبة وواضعي شروطها، ومن يفعل ذلك غير الساسة ؟ وكل من لا يلعب لعبة الإسلاميين ” يفرد إفراد البعير المعبد ” فينسب للشرك والمروق حينا وإلى الهرطقة حينا آخر وإلى الفساد والخيانة حتى…
المحافظون التقليدانيون يتصورون أن كل شرور الكون تأتي من النساء، وأن الحل هو عزل النصف الآخر من المجتمع في انتظار منعه وسجنه في المنازل قريبا !
هاته العقلية المتخلفة، والتي لا ترى في المرأة إلا الوعاء الجنسي الصالح لتفريغ المكبوتات، والتي نتصور كل مرة أننا تخلصنا منها والتي تظهر لنا في هاته الومضات أو ” الفلاشات ” المرعبة، هي عقلية تعيش معنا وتحلم لنا بمجتمع على مقاسها وهواها، تضع فيه النساء قرب الأطفال وقرب المتخلفين عقليا، وتعتبرهن ناقصات عقل ودين، وتؤمن أنه يحق لنا أن نضيف إليهن عبارة ” حاشاك ” كلما ذكرناهن، وهذه العقلية لها مشكل مع نصفها السفلي الذي لا تستطيع له إشباعا ولا تعرف له ترويضا سويا، ولا تملك أدوات التحكم العاقلة فيه، وهو ما ينعكس على نصفها العلوي ويصعد لها مباشرة إلى المخ، ويدفعها دفعا نحو هاته التخيلات المرضية .
مشكلتنا مع هؤلاء المتخلفين ستدوم طويلا بسبب عدم القدرة على التحكم في عضو من أعضاء جسدنا يعوض العقل في التفكير، ويدفعنا دفعا كل مرة إلى النزول إلى هذا الحضيض، ومناقشة ما اعتقدنا ونعتقد وسنظل على الاعتقاد ذاته أن البشرية السوية والحضارة السليمة قد تخلصت منه بشكل نهائي وتام، بأن وجدت السبل السوية للتعايش معه وفق الحرية الفردية ومسؤوليته على ما يرتكبه ويقترفه ويقوم به في حياته دون مساس بالآخرين.