أفلام غيرت العالم 11- سارق الدراجة

هناك تعريف شائع يقول بأن السينما هي إعادة ترتيب الوعي في عقول الجمهور، فالسينما ليست فقط مرآة تعكس ما يجري في المجتمع بل أيضا أداة لإعادة تشكيل المجتمع.
فإذا كانت السينما، ككل الفنون، أداة للتعبير عن رؤية معينة اتجاه الواقع، إلا أن تأثيرها على الناس أقوى من كل أدوات التعبير الفنية الأخرى، حيث استطاعت، منذ ظهورها، أن تشكل قوة مؤثرة في الرأي العام، قوة قادرة على تكوين أو المساهمة في تكوين رؤية مشاهديها لهذا العالم وأن تؤثر بشكل ملحوظ في تغيير نظرتنا للواقع بمختلف تجلياته.
ضمن هذا الاتجاه تميزت أفلام عديدة، بكون تأثيرها كان أقوى من غيرها حيث انها كذلك قادت إلى تغيير قوانين، سياسات، سلوكيات وأفكار، كان العديد منها يعتبر من المسلمات، وبذلك تتضح القدرة الفائقة للسينما على تغيير الواقع والوعي الإنساني.
في هذه السلسلة مجموعة من الأفلام التي، بفضل جرأتها، ثرائها الفني وعمقها الإنساني، استطاعت أن تساهم بشكل كبير في تغيير العالم إلى الأفضل.

 

هناك مشهد في السينما، كل من شاهده إلا وظل عالقا في ذاكرته واثر فيه بشكل يصعب وصفه: طفل صغير يشاهد من بعيد عدد من المارة يطوقون والده وينهالون عليه ضربا وصفعا فيهب لينقذه وهو يبكي، يترك المارة الوالد ينصرف، فيبتعد وهو في أقصى درجات القهر والعجز غير قادر على حبس دموعه فيمسك ابنه بيده مواساة ويواصلان السير وسط جموع المارة حتى يختفيان..طبعا إنه فيلم “سارق الدراجة” للمخرج الايطالي الكبير ” فيتوريو دي سيكا” الذي أنتج سنة 1948 ويعتبر واحدا من أفضل الأفلام في تاريخ السينما.
يتحدث الفيلم عن إيطاليا ما بعد الحرب العالمية الثانية، بلد مثخن بالجراح، والفقراء يجهدون للبحث عن لقمة العيش في صراع قاسي من أجل البقاء، والمحظوظ هو من يحصل على فرصة عمل مهما كانت. في هذه الظروف يتمكن انطونيو من الحصول على واحدة، كمكلف بلصق بوستيرات الأفلام في مختلف أرجاء المدينة، لكن هذا العمل يتطلب ان يتوفر على دراجة هوائية، والدراجة التي يتوفر عليها سبق له ان رهنها ليعيل اسرته..يخبر انطونيو زوجته بالأمر فتقرر بيع اثات البيت لتفك رهن الدراجة فهذه الفرصة لا تعوض وإلا لن يجدوا ما يسدون به رمقهم.
يتوجه انطونيو الى العمل مزهوا فقد حقق مراده، وسيتمكن من إطعام عائلته وضمان العيش في ظل هذه الاوضاع الصعبة، لكن ما أن يبدأ حتى يسرق أحدهم دراجته، ضمانته الوحيدة، أمله الوحيد في الانعتاق من الفاقة والعوز.
هكذا ستبدأ رحلة الأب بحثا عن دراجته المسروقة، رفقة ابنه “برونو” لمدة 24 ساعة، في العاصمة روما، مدينة بلا قلب ولا شفقة، الكل يتربص بالكل، الاغنياء لا يأبهون بالفقراء، الضعفاء ومن تنقصهم الحيلة، لا مكان ولا فرصة لهم، رحلة برع المخرج، في تصوير مراحلها المليئة بالالم والشقاء، خلدها كوثيقة حية لواحدة من أشد مراحل البلاد قتامة، وفي الأخير عندما يعجز الأب عن استرجاع دراجته، سيجد نفسه مضطرا لأن يصبح لصا بدوره، فيسرق دراجة، لكن سرعان ما ينتبه مالكها فيتعقبه ومعه جموع من المارة فيوقفونه وينهالوا عليه بالضرب امام ابنه الذي سيتعاطفون معه ويتركون والده ينصرف بعد أن كانوا يريدون اقتياده الى مركز الشرطة، وينتهي الفيلم بمشهد من المشاهد الخالدة والاكثر تعبيرا عن القهر والذل الذي يتعرض إليه الانسان بسبب الفقر .
فيلم “سارق الدراجة” مقتبس عن رواية لـ “لويجي بارتوليني” كتب له السيناريو المخرج “فيتوريو دي سيكا” والسيناريست “سيزاري زافاريتي” واخرون، ويعتبر من أهم أفلام الواقعية الجديدة في إيطاليا، الموجة التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية مع “روبيرطو روسيليني” في فيلم “روما مدينة مفتوحة” سنة 1945، ويصنف الفيلم ضمن العديد من قوائم التصنيف كواحد من افضل الأعمال في تاريخ السينما ، وقد صور بالكامل في ديكورات طبيعية، في شوارع وحواري روما، واعتمد المخرج على ممثلين غير محترفين، وعلى رأسهم “لامبرطو ماجيوراني” الذي قام بدور الاب، و”انزو ستايولا” الذي قام بدور الابن، وبرع الاثنان في تقمص دورهما بشكل مذهل، علما ان المخرج رفض عرض شركة إنتاج أمريكية التي اقترحت الممثل الامريكي الكبير “غاري غرانت” للقيام بدور الأب .
كان للفيلم دورا كبيرا في تصوير حالة البؤس والشقاء التي يعاني منها العديد من الإيطاليين في مرحلة ما بعد الحرب، ودفع بالحكومة الايطالية إلى الاهتمام أكثر بمشكلة العاطلين عن العمل وإيجاد فرص عمل لهم وتفعيل دور النقابات العمالية لحل مشاكل العمال، واعتبر مرافعة إنسانية، عابرة للاجيال، ضد الفقر والظلم، وتحفة سينمائية وفنية أكدت على الدور الريادي للسينما في التعبير عن الواقع والإسهام في تغييره.


الكاتب : عزيز الساطوري 

  

بتاريخ : 07/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *