التاريخ الديني للجنوب المغربي سبيل لكتابة التاريخ المغربي من أسفل 23- الكرامة الخارقة للعادة، الرأسمال الرمزي للحاج علي الدرقاوي الإلغي 3

تسعى هذه المقالات التاريخية إلى تقريب القارئ من بعض قضايا التاريخ الجهوي لسوس التي ظلت مهمشة في تاريخنا الشمولي، وهي مواضيع لم تلفت عناية الباحثين فقفزوا عليها إما لندرة الوثائق أو لحساسياتها أو لصعوبة الخوض فيها. ومن جهة أخرى فإن اختيارنا لموضوع التاريخ الديني للجنوب المغربي راجع بالأساس إلى أهميته في إعادة كتابة تاريخ المغرب من أسفل وهو مطلب من مطالب التاريخ الجديد الذي قطع أشواطا كبيرة في فرنسا.

 

إن الكرامة بهذا المعنى «تدل على أشكال من معاناة المجتمع وطلباته،كمثل المعاناة من الجوع وطلب العدل «انظر السبتي عبد الأحد، التاريخ والذاكرة ،ص101.) فقد عدها ابنه بحوالي خمسين كرامة ثبتت ثبوتا مؤكدا عن والده، وليس من صميم الموضوع وأهدافه هذه المقالات البحث في حقيقتها أو زيفها، فالتادلي يقر بجوازها عقلا ، « فإذا كانت المعجزات تختص بالأنبياء فإن الكرامات تكون للأولياء» على حد تعبير إمام المتكلمين «القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني». كما أن إمام الحرمين يجوز خوارق العادات، أما «الشهرستاني» فقد أخذ على عاتقه جواز الكرامة بالعقل، بل ذهب بها إلى حد اعتبارها معجزة، يقول : « واعلم أن كل كرامة تظهر على يد ولي فهي بعينها معجزة للنبي، إذا كان الولي في معاملاته تابعا لذلك النبي فكل ما يظهر في حقه فهو دليل على صدق صاحب شريعته، فلا تكون الكرامات قادحة في المعجزات بل هي مؤيدة لها، دالة عليها، راجعة عنها، عائدة إليها…». أما «التادلي» فاعتبر الكرامة تختص بأهل اليقين دون غيرهم إن الكرامات المتعددة التي تواترت عن الشيخ من شأنها إذن أن تزكي ولاية الشيخ وتزيد من قوة ونفوذ رأسماله الرمزي، ولكن في بعض الأحيان لا يمكن أن تستمد مشروعيتها إلا من طرف المخزن وممثليه من قواد وغيرهم، أو العلماء والأعيان كما هو الحال مع أسرة دار إيليغ بقبيلة تازروالت. لكن يمكن للولي أن يكتفي برصيده الصوفي الذي حصله بعد اعتكاف طويل ومداومة لا محدودة ومجاهدة طويلة في سبيل تحصيل العلم الظاهر والباطن -كما هو الحال مع شخصية علي الإلغي- وهو الرصيد الصوفي الذي يتم توظيفه لخدمة الجماعة كلما دعت الضرورة إلى ذلك، ويوظف كذلك لتبادل المصلحة مع المخزن . وهي قاعدة لا يمكن إسقاطها على جميع المتصوفة.
بالعودة إلى كتابات المختارالسوسي، يتضح أن الرجل نقل بالحرف الواحد الأهمية القدسية لأبيه والتي كانت نابعة من تجربته الصوفية وإلمامه بعلمي الظاهر والباطن، ومن خلال تتبع مسار هذا الولي الصالح أمكن لنا تحديد الرقي الروحي والالتزام الشعائري الصارم الذي كان يحدد منهجه وتربيته الصوفية، وهو ما جعل قبيلة «أيت عبد الله أسعيد» ترى في الشيخ «الحبل السري» الذي يصل أهلها بالله، فالعامة تخاطب الأولياء بلغة خاصة بهم لها دلالة ولها ما يبررها، حيث ينادى الشيخ باسمه مرفوقا بكلمة «سيدي» وهو ما يثبت أن القبيلة تعترف بشكل علني ونهائي غير قابل للنقاش بمكانة الشيخ الدينية وسلطتها ضمن التركيبة الاجتماعية لسوس، وهو ما جعله في نظر العامة إنسانا مباركا وليس أي شيخ يمكن أن يحظى بهذه القيمة ويعلو إلى هذه الدرجة، فجدارته واستحقاقه يظهران بالضبط لما يستكمل الولي ويثبت ظواهر ساحرة ومدهشة للعامة، هي ما يصطلح عليها صوفيا بخرق العادة. فالشيخ الذي يمتلك البركة هو القادر على تحويل الكائنات والأشياء ويأتي الخوارق والمعجزات ، وقد ثبت صحة الكرامة عقلا بالنسبة لعلي الإلغي وهو ما يزال مريدا عند شيخه «سعيد بن همو المعدري»، فالسوسي يحكي عن حلول الشيخ لما كان مريدا بقرية «أرزان» «برأس الواد» مع ثلة من زملائه فوجد أهل القرية يتذرعون إلى الله طالبين منه الإغاثة ففوض المريدون للشيخ مأمورية الدعاء إلى لله لينعم على القرية بالمطر فتحقق ذلك واعتبرأهل القرية ذلك كرامة من كرامات ولي لله الخارقة للعادة. ونفس الشيء فعله وهو مريد لما حل بجبالة وهي مسقط الدرقاوية الأم فأخرج الماء من باطن الأرض فاندهش المريدون الذين كانوا معه . ونجد المختار السوسي من جديد يدافع عن أبيه ويثبت ولايته ويحاول أن يشير بطريقة أو أخرى أنها مستمدة من مرجعية روحية محضة بعيدا عن إجازات الشيخ أو إذنه، خصوصا وأنه دافع عنه في أكثر من مقام والشيخ لا يزال في ريعان الإرادة الصوفية، فأثبت الابن أن الأب ظهرت عليه علامات الصوفي المتجرد إلى الذات الإلهية وكأنه غوث أو قطب صوفي أكبر. وبهذا وصفت المصادر التقليدية الشيخ خلال هذه الفترة بالصفات التي وصف بها الشاذلي أو الجزولي أو المتأخرين كسيدي أحمد التيجاني وسيدي العربي الدرقاوي .


الكاتب : ربيع رشيدي

  

بتاريخ : 21/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *