النظرة الأخيرة

كانت تتمشى مع صديقتها مها حين مرت بجانب الحي الذي يسكن فيه، فرأت مجمعا والناس تبكي، فعرفت في حينه أن هناك فقيدا في ذاك المنزل الذي يجتمع حوله الرجال، وشخصان اثنان يقفان أمام الباب يستقبلان المعزين عرفت هيام واحدا منهما، شاب في مقتبل العمر، أسمر البشرة، قصير الشعر، متوسط البنية، رمقت صديقتها قائلة:

– أعرف ذاك الشخص، هو قريب علاء، إذن، فالفقيد أحد أقربائه، لكن لا أراه بينهم، سوف أذهب أستفسر عن الميت فربما… ؟ يسايرك شك في كل شئ صديقتي ,هيا فلنذهب اللهم ارحم موتانا… وما دخلك أنت حتى تسألي .
– قلت سأذهب، وأقدم التعازي، و سأسأل عن الميت فربما …آه، صديقتي، إني شديدة الخوف، لقد أخبرني أنه مريض، والآن مرت ثلاثة أيام ولا خبر عنه، حتى هاتفه لايزال مغلقا… أرجوك، مها، فلتأت معي حتى يطمئن قلبي
– ما عساي أفعل؟
– مجنونة أنت، يا هيام، كعادتك, وكلت أمري لله، سأذهب معك علّ النار التي في قلبك تنطفئ.
اتجهت الاثنتان لدار المأتم، لم تقصد هيام الشاب الذي عرفته، بل قصدت الرجل الكبير بجانبه، فخاطبته بحزن: عظم لله أجركم عماه، لكن هل يمكن أن أعرف من الفقيد؟ هذا إذا لم يكن هناك أي إزعاج !
– أجرنا وأجركم واحد، بنيتي، إن الفقيد ابني وفلذة كبدي.-
أصابتها في تلك اللحظة قشعريرة، وكأنها أحست بشئ غريب، فأعادت سؤاله:
– هل يمكن أن تقول لي اسم الشخص أرجوك ؟.
كانت علامات الحزن تبدو على الأب، لكنه كان يجيبها عن كل ما تسأله إياه، وفي تلك اللحظة، حين أجابها عن سؤالها ناطقا اسم حبيبها، لم يحس إلا وقد حلت بها هستيريا بكاء، لم يفهم الرجال من حولها شيئا، لكن صديقتها كانت تحاول جاهدة أن تهدئ من روعها دون جدوى. التفتت بعدها هيام لوالده وهي تشده من قميصه قائلة والدموع لا تجف من مقلتيها اللتين اشتعلتا دون نار.
– أرجوك يا عمي، أريد رؤيته، كيف له أن يذهب دون وداعي؟ لقد وعدني بأننا سنبقى معا وسنموت معا، أرجوك، يا عمي، أريد رؤيته. لم يفهم الأب في بادئ الأمر سبب بكائها إلا حين بدأت بالكلام ..أمسكها من ذراعها مخاطبا إياها وقد تسببت له في إخراج دموعه التي كبتها منذ الصباح .
– هل أنت حبيبته هيام ؟
– بل قل زوجته المستقبلية، أو كنت سأكون، لأنه رحل بكل بساطة، لقد أخبرني أنه سيعرفني على أهله قريبا، وانظر، ها أنا قد تعرفت عليك بدونه.
– لقد تحدث لي عنك كثيرا، وكان ينتظر اليوم الذي ستصبحين زوجته .
– إنه خائن، يا عمي، كيف له أن يدعي أنني زوجته المستقبلية وهو لم يكلف نفسه حتى التفاتة لتوديعي؟
– أرجوك، يا ابنتي، كفي عن قول هذا الكلام، إنه وقت رحيله، لقد رحل غصبا عن الجميع، إن الله أراده بجواره
فلتتوقفي عن البكاء، ليس أنت فقط من لم يودعها، بل أنا أيضا رحل دون أن أراه .
– لكنه ابنك، على الأقل كنت معه قبل رحيله ولو بساعات، كانت كلماتها تخف شيئا فشيئا، فقد أعياها البكاء، حتى كادت تسقط أرضا، غير أن والد المرحوم أمسكها وأجلسها على كرسي بجانبه، وطلب من ابن أخيه، وهو الشاب الذي عرفته بين الجمع أن يحضر لها الماء الذي رفضته قائلة :
– أريد رؤيته الآن. يجب ذلك !!
– للأسف، لقد قمنا بغسله، وقد قرب موعد أخذ جثمانه إلى المسجد، فعادت الدموع لتنزل من جديد وهي تمسك يدي والده كالطفل الصغير الذي يطلب من أمه شوكولاطة قائلة:
– أرجوك، يا عمي، إنه لم يودعني حتى، فاسمح لي برؤيته، أرجوك، يمكنكم إعادة غسله من جديد، أرجوك، يا عمي، لا يزال يفصلنا عن صلاة العصر ساعة أخرى، أرجوك، إني أريد رؤيته. كانت الكلمات تبدو مخنوقة في حلقها لا تكاد تخرج بسهولة، ولصعوبة الموقف، كان لزاما على الأب أن يذهب بها إلى حيث يوجد علاء الذي ما إن رأته حتى سقطت على ركبتيها ترثي فراقه، فقبلته على جبينه بعدما ودعته ورأته للمرة الأخيرة مبتسما ضاحكا كأنه طفل نام بعدما أعياه اللعب، وغادرت البيت بهدوء لم يعهده فيها أحد، ومقلتاها مغرورقتان و قد زادتا إشتعالا. غادرت بذاك الهدوء الذي لم يفهمه حتى الأب نفسه، الأب الذي لم يستطع أن يستوعب صمتها وانحباس الحروف في حلقها، وكأنها ليست هي هيام التي كانت تصرخ قبل قليل، فتلاشت من أمام عينيه بنفس السرعة التي ظهرت بها في البداية.


الكاتب : هند جوهري  (أميرة السراب)

  

بتاريخ : 17/07/2017