تأويل مغاير لتوطيد سلطة الدولة المرابطية 2/2

تأثرا بالحمولة الفكرية لافتتاح كرسي عبد الله العروي للترجمة والتأويل بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط بتعاون مع معهد العالم العربي بباريس يوم الخميس 9 (يناير) 2020، ازداد فضولي لقراءة تاريخ التطورات السياسية التي ميزت المغرب قراءة تاريخانية محاولا التأمل في الوقائع الهامة وارتباطاتها بمنطق ممارسة السلطة داخليا وخارجيا. وعليه، سأحاول من خلال التطرق إلى التجربة المرابطية التفكير من جديد لإبراز تأثيرات متطلبات الدولة (الاستقرار والوحدة والقوة والتنمية) في الاستراتيجيات الظاهرة للنخب الحاكمة التي تتطلب تفكيرا أعمق، أي تأويلا جديدا، لخطط تحقيق الأهداف العميقة المبطنة التي تسعى إلى توطيدها بتعاون مع باقي النخب الوطنية ذات الشرعية السياسية الترابية والعقائدية والفكرية. كما أبرز أن ميولي الجديد هذا أثار في ذهني إشكالية جديدة تتمحور حول حاجة شعوب الحاضر إلى شعبة جديدة قد نسميها «التاريخانية والهندسة الاجتماعية» (قد تتطلب 6 سنوات من التكوين الجامعي أو الهندسي)، تندمج فيها شعب التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع والأنتروبولوجيا والترجمة … وذلك من أجل الاستثمار في كشف الحفريات الحقيقية التي ستمكن بلادنا من إثبات وترسيخ حقائق جديدة في تراثنا الحضاري والثقافي، وبالتالي تحويل المعرفة العلمية للتاريخ إلى مقوم أساسي للذكاء السياسي والرفع من مستوى سداد ونجاعة فعل الدولة والمجتمع على السواء. إن ما تعيشه بلادنا اليوم في سياق التيه الإيديولوجي العالمي يسائل الدولة المغربية والنخب المجتمعية في شأن المرور إلى مرحلة متقدمة جدا تخلق القطيعة نهائيا مع التماهي في التعاطي مع الجانب التاريخي سطحيا، وتنعش الحماس المؤسساتي لتطوير مصادر الشرعية السياسية للنخب بما يستجيب لمتطلبات المرحلة.

 

كما أن تطور الأحداث ما بعد عبد لله بن ياسين، الذي كان معروفا بحبه للحياة وميله الخاص للنساء (كان مزواجا مطلاقا وقيل أنه يقوم بذلك شهريا) ينم وكأن منطق الازدواجية في الحكم وتوزيع الأدوار لا زال منطقا سياسيا نافعا جدا لتوطيد الحكم وتوسيعه. فوفاة القائد المالكي، دفعت أبي بكر، الذي تم تعيينه بعد قتل أخيه يحيى، إلى البحث عن نائب له يتقاسم معه الحكم للحفاظ على وحدة الدولة الشاسعة. هكذا، في سنة 460 هجرية، امتد حكم المرابطين، تحت قيادة أبي بكر بن عمر، ليشمل الإمارة الشاسعة، بحيث قام بنفس السنة بالزواج من زينب النفزاوية لما تتوفر عليه من سمعة ومكانة متميزتين داخل أغمات وفي نفوذ المصامدة. لقد أبرز الحاجة إلى ترسيم نائب له من نفس عائلته مغتنما فرصة علمه بخبر مزعج، وهو منهمك بالإشراف بنفسه على بناء العاصمة الجديدة لدولته مراكش لحل مشكل اكتظاظ السكان في أغمات، مفاده تجرؤ الجداليين على الهجوم على اللمتونيين، وإعلانهم فض الوحدة التي وطدها عبد الله بن ياسين. لقد أقر حاجة البلاد إلى نائب له قبل التوجه بنفسه إلى الصحراء معللا ذلك بقولة ابن خلدون الذي اعتبر البلاد الصنهاجية قاعدة عسكرية وموطن عصبية. كما دعم قرار تكليف نفسه بهذه المهمة بعلاقة المصاهرة التي تجمعه معهم نظرا لكون أمه صفية كانت حرة جدالية ولها شأن لديهم. لقد أعطى مهمة اختيار النائب لأشياخ لمتونة وإلحاحه على بطانته لعدة مرات لكن بدون جدوى. لقد أعطى الانطباع وكأنه نسي يوسف لأنه كان غائبا بالرغم من كونه قائدا عسكريا كبيرا، ولمتونيا، وذا خصال حميدة، وأحد أبناء عمومته، وكانت له مكانة هامة لديه. كما برز بشكل واضح في معارك عزو درعة وسجلماسة وسوس، بحيث ارتفع شأنه وأصبح قائدا عاما للجيش المرابطي. وعندما وصل إليه تذكر بأنه الرجل المناسب فاختاره لذلك، ونال هذا الاختيار ارتياحا كبيرا لدى جميع أفراد البطانة. ولإعطاء المكانة التي تتوفر عليها إمارة المسلمين، اصطحب أبا بكر معه ثلثي الجيش ليترك ليوسف الثلث المتبقي فقط.
أما الأدلة التي ترجح فرضية وجود منطق آخر وراء الأحداث الظاهرة لتولي يوسف النيابة عن أبي بكر رسميا، فهي متعددة. لقد قرر أبي بكر تطليق زينب النفزاوية المتمرسة في دواليب الحكم المرابطي بطلب منها كما يدعي، وطلب من يوسف الزواج منها. وبدعم من زوجته ضاعف يوسف من جهوده، فأكمل بناء قصر الحجر ومدينة مراكش، وأعطى أهمية بالغة لتوطيد علاقاته الودية مع القبائل المجاورة لأغمات ومراكش، وواصل التوسع العسكري نحو الشمال والشرق، وأقام دار السكة لسك النقود، وأغدق بالأموال على شيوخ القبائل، وقوى من جهاز حراسته الشخصية بألف ومائتين وأربعين رجلا من عبيد السودان والأوروبيين من الأندلس، وأعطى لبلاطه مظهرا فخما. كما استقبل رؤساء القبائل من زناتة والمصامدة وغمارة وأشياخ القبائل البربرية وبايعوه بالرغم من كونه نائبا لأمير المسلمين فقط ….. في نفس الآن، وبشكل غير مفهوم، حافظ يوسف على سك العملة المرابطية باسم أبي بكر. وعند عودة أبي بكر منتصرا ومصلحا للمشاكل التي تسبب فيها الجداليون، أبان عن شكوكه في تصرفات ابن عمومته، وأبان يوسف بدوره عن حزنه وغمه الشديدين، مظهرا تمسكا شديدا بمنصبه واستعداده للدفاع عنه بالحرب والقوة العسكرية. وتزكية لهذا الوضع وتقبله في نفوس الرعية، اختار أبي بكر النزول خارج أغمات وكأنه شاكا في طمع ابن أخيه يوسف، ودعاه من هناك لعقد لقاء بينهما بحيث قام باستدعاء كل أشياخ لمتونة وأمراء الدولة وكبار الشخصيات المرابطية المكونة للمجتمع السياسي المحيط بهما، وكذا لأمراء المصامدة والكتاب والخاصة ليكونوا شهودا على اللقاء، أي شهودا لتنازل أبي بكر ليوسف عن الحكم، وبالتالي تمكينهما في الأخير من الشرعية التي ستساعدهما على بسط سلطتهما السياسية على كل البلاد (أي سلطة الدولة المرابطية تحت قيادة اللمتونيين). وفعلا كان، بعد تسليم أبي بكر هدية كبيرة، فرح يوسف وعاد إلى مراكش، وعاد عمه أبي بكر فرحا بهذا الإنجاز إلى المجال الصنهاجي وأقام بأغمات. لقد ساد الاطمئنان لدى الطرفين جراء ما منحته هذه الخطة من شرعية سياسية لتقاسم السلطة بينهما، تقاسم أساسه الوفاء لرمز دولتهم القائد السياسي والروحي عبد لله بن ياسين وترسيخا لتراثه.
لقد أصبح للمرابطين بمقتضى هذه الاتفاقية حاكمين، الأول في الصحراء (أبي بكر) وهو الحاكم العام على جميع مجال السيادة المرابطية والثاني في المغرب (يوسف) معترفا بشرعية الأول وسلطته، لتظل النقود المرابطية، رمز السيادة السياسية، تضرب بسجلماسة وتحمل اسم أبي بكر بن عمر. لقد مارس البطلان السلطة بإخلاص وبدون أي اختلاف كبير بينهما إلى أن توفي أبي بكر. وبترجيحي لهذه الرؤية في بلورة استراتيجيات إعداد خطط لممارسة السياسية عند حكام المرابطين دفاعا عن وحدة الوطن وسيادته وقوته، تبقى حسب الروايات التاريخية الأخلاق السياسية لرجالات الدولة المذكورين أعلاه عالية جدا. لقد كان أبي بكر شديد التأثر بالفقيه المالكي عبد لله بن ياسين، ويكن له احتراما وتقديرا كبيرين. كما أكدت المعلومات التاريخية المتاحة المتداولة أن أمير المسلمين كان يتمتع بسمعة طيبة وبشخصية صالحة وورعة. في نفس الوقت كان يوسف يوصف بالطيب والحسن إلى درجة قال فيه الغزالي “لقد سمعت عن طبقة من ثقة المغرب الفقهاء وغيرهم من سيرة هذا الأمير أكثر لله في الأمراء أمثاله”. أما على مستوى الحياة العامة والقضاء، فبعدما اشتكى أحد القضاء للأمير عن اعتراض بعض أصحاب النفوذ على أحكامه، أعطيت الأوامر الصارمة من يوسف لكل المرابطين بالخضوع والامتثال لأحكام القضاء بحيث وسع من سلطاته بجعل القاضي مصدر قرار في عزل العمال. كما كان التشاور في شأن قضايا الدولة والمصلحة العامة واسعا ويتم بحكمة وتبصر كبيرين. إن مرحلة توطيد الحكم جعلت أبي بكر لا يفكر بتاتا في خلق مؤسسة “ولي العهد”، بل ركز على توطيد الازدواجية والمشورة في الحكم من خلال عملية اختيار نائب الأمير.


أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *