كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ 23- مراكش وأول مستشفى عسكري في القصر الملكي «الدار البيضاء» بها سنة 1912

كيف دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ وضمن أية ظروف، وفي أية سياقات؟ وأين بنيت أول مؤسسة استشفائية حديثة بالمغرب؟ من بناها وما هي الأدوار التي لعبتها؟. تلكم بعض من الأسئلة التي تحاول هذه الحلقات، ضمن فسحة رمضان 2020، أن تجيب عنها.
والغاية، ليست فقط تتبع خريطة ميلاد «خدمة الصحة العمومية» ببلادنا، وكيف تم رسمها منذ 1910 ميلادية، بل تقديم معلومات تفسر كيف أن صدمة الإستعمار التي جعلت المغربي (في النخبة وفي المجتمع) يصطدم مع الحداثة الصناعية والإقتصادية والسياسية، التي غيرت من وعيه لذاته وللآخ رين وللعالم.. كيف أنها حققت ذلك ليس بالضرورة فقط عبر المدفع والرشاش والرصاص، بل أيضا من خلال نوعية الخدمات المدينية الجديدة التي جاءت مع المستعمر. وليس اعتباطا ما قاله في إحدى رسائله إلى قيادته العسكرية العامة بباريس، الماريشال ليوطي (أول مقيم عام فرنسي بالمنطقة التي احتلتها باريس من التراب المغربي)، حين خاطبها قائلا: «أرسلوا لي 4 أطباء، سأعيد إليكم 800 عسكري».
إن ما سأحاول تتبعه معكم هنا، هو قصة ميلاد خدمة الطب الحديث بالمغرب، من خلال قصة ميلاد العديد من المؤسسات الطبية بمختلف المدن المغربية من الدار البيضاء حتى أكادير، مرورا بالرباط، فاس، مكناس، مراكش، ابن أحمد، سطات، خنيفرة، الخميسات، وجدة، قلعة السراغنة، الصويرة، آسفي، الجديدة، القنيطرة، سلا وغيرها كثير. معززا بصور نادرة تنشر لأول مرة بالصحافة الوطنية المغربية. وأيضا كيف ولدت الصيدلة بالمغرب ومعهد باستور وطب الأسنان والطب النفسي والعقلي والطب المدرسي… إلخ.
هي رحلة في جزء منسي من ذاكرتنا الجماعية، كما صنعها الإحتكاك مع الحداثة من خلال بوابة الطب والصحة العمومية. والمناسبة شرط كما يقال، ونحن نعيش عصر مواجهة جائحة عالمية مثل وباء كورونا. (للإشارة كل الصور التي تنشر ضمن هذا البحث التاريخي مؤخوذة عن كتاب حفظ الصحة والجراحة بالمغرب الصادر سنة 1937 عن مصالح حفظ الصحة بالمغرب).

 

يطول الحديث كثيرا عن مراكش، وقصة دخول الطب الحديث إليها، ليس فقط لأن تاريخها عال علو وسمو قمم جبال الأطلس الكبير التي تحرسها (وتزودها بالماء الزلال)، بل لأن جزء من الإحتلال العسكري الفرنسي للأرض المغربية من الشرق (احتلال وجدة من قبل قوات عسكرية قادمة من وهران بقيادة الجنرال ليوطي، سنة 1907)، قد تم بسبب مقتل طبيب فرنسي بمدينة صومعة الكتبية يوم 19 مارس 1907، الدكتور موشان، الذي سيحمل أول مستشفى مدني كبير بالمدينة اسمه سنة 1913. ليس هذا فقط، بل مراكش هي أساسا الفضاء المديني الذي أبدع فيه المغاربة في مجال الصحة العامة، منذ العهد الموحدي، من خلال إنشاء أول مستشفى متعدد التخصصات (ضمنها حتى الطب العقلي والنفسي) بالعالم، سنة 1184 ميلادية، بمنطقة سيدي إسحاق، بقرار من السلطان أبو يوسف يعقوب المنصور، والذي تم مؤخرا هدم ما تبقى من سور قديم له بالمدينة وإزالة لوحة تذكارية به، بدعوى توسعة طريق ما وتعبيدها.
بالتالي، فإن لمراكش ذاكرة طبية راسخة، قديمة وعتيقة، حيث برز فيها فطاحلة من الأطباء مغاربة ومغاربيون وأندلسيون، مثل محمد الشريف الزكراوي، أبوإسحاق الداني البجايي، محمد المالقي الغرناطي، عبد الملك إبن زهر الإشبيلي، وعبد الله المالقي ابن البيطار. وبسبب ماضيها السياسي والعلمي والتجاري الكبير، وبسبب أيضا من موقعها الجغرافي الإستراتيجي للتحكم في كامل الجنوب المغربي، فقد كانت رهانا هائلا عند المستعمر الفرنسي، بذات القوة التي كان محور فاس – تازة رهانا كبيرا آخر عنده. هكذا، فإنه بالتوازي مع اندلاع مواجهات فاس العنيفة في شهري أبريل وماي 1912، كانت مراكش والجنوب المغربي الأمازيغي والصحراوي مشتعلان أصلا منذ شهور، حيث برزت حركة مقاومة مسلحة صاعدة من تلك الجغرافيات المغربية، بقيادة الشيخ الهيبة ماء العينين (واحد من أبناء الشيخ ماء العينين الشنقيطي الموريتاني، مؤسس مدينة السمارة بالصحراء الغربية للمغرب ومؤسس الزاوية المعينية بتزنيت وبها توفي ودفن سنة 1910), وهي حركة تمكنت من احتلال مراكش وبدأت الزحف نحو الدار البيضاء والرباط في بداية شهر شتنبر 1912. لكنها ستتلقى ضربة قاصمة بمنطقة سيدي بوعثمان عند مشارف الرحامنة، يوم 7 شتنبر 1912، حين انهزمت قوات الهيبة ماء العينين (بسبب خدعة عسكرية وظفت فيها فرقة من الغوم السينغاليين المسلمين) أمام القوات الفرنسية القادمة من الدار البيضاء بقيادة العقيد موجان.
حين دخلت تلك القوات الفرنسية إلى كامل مراكش يوم 10 شتنبر 1912، بقيادة القائد سيمون، الذي هو من ضباط العقيد موجان، كان من أول قراراتها إنشاء نواة لمستشفى طبي عسكري، اختير لها فضاء تاريخي هام، شمال غرب حدائق أكدال العريقة (لا تزال قائمة منذ 8 قرون وتعتبر أقدم حديقة حية بالعالم من قبل منظمة اليونيسكو، وهي ثرات عالمي)، هو قصر “الدار البيضاء” الذي بناه السلطان مولاي الحسن الأول سنة 1879، وقد كان قصرا فخما وكبيرا، شكل مقر القيادة المركزية للهيبة ماء العينين. ومما تؤكده وثيقة رسمية للطبيب العسكري الفرنسي ريمري، فإنه قد افتتح ذلك المستشفى يوم 27 شتنبر 1912، أي أسبوعين فقط بعد احتلال القوات الفرنسية للمدينة، وعين مديرا له الطبيب العسكري الملازم أول الدكتور ديلماس. وحين زاره الماريشال ليوطي سنة 1915، أصدر قرارا إداريا بصفته المقيم العام بالمنطقة التي تحتلها فرنسا من الأراضي المغربية، يحول ذلك القصر الملكي إلى مستشفى عسكري بصفة رسمية ونهائية. فكان بالتالي، أول مستشفى عسكري فرنسي افتتح بالمغرب داخل بناية جميلة، كبيرة، بحدائق واسعة غناء، بقاعات فسيحة ونظيفة، عكس باقي المستشفيات العسكرية الفرنسية الأخرى بمدن الدار البيضاء وفاس والرباط ومكناس، التي ولدت في خيام أو بنايات خشبية في البداية أو قصبات قديمة. مما منح له أن يتوفر منذ انطلاقته على أجنحة طبية متعددة، تطلب تجهيزها جهدا يسيرا، مما سرع من انطلاق خدماته الإستشفائية، منذ شهر أكتوبر 1912، مع مواصلة تجهيزه بآليات حديثة في المسافة الزمنية بين 1915 و 1917، بعد صدور قرار الماريشال ليوطي المشار إليه.
سيطلق عليه، منذ شهر أكتوبر 1912 إسم “مستشفى ميزون نوف” تكريما لذكرى الطبيب العسكري الفرنسي “ميزون نوف” الذي سقط صريعا بمراكش، بعد إصابته بعدوى التيفويد يوم 6 أكتوبر 1912. ولقد تم تجهيزه في بحر 5 سنوات فقط بأحدث الأجهزة الطبية حينها، مكنت من التوفر على قاعات جراحة حديثة ومعقمة، قاعات للتحليلات المختبرية، قاعة مختبر تحليلات بيولوجية وكيميائية، قاعة الراديولوجي، وقاعة الأشعة فوق البنفسجية، مع أجنحة تخصصية متعددة، شملت الطب العام والطب الباطني والأمراض الصدرية وطب العيون وطب العظام وطب الأسنان. أي أنه أصبح في فترة زمنية قصيرة مستشفى مركزيا شاملا لكل التخصصات، بفريق طبي ضخم ووازن، ضم 9 أطباء عسكريين رئيسيين و25 ممرضا و 46 مساعدا. وأصبح مجاله الجغرافي يغطي كل الجنوب المغربي، من الرحامنة شمالا حتى وارزازات جنوبا ومن دمنات شرقا حتى الصويرة وأكادير غربا (للإشارة لم يعد هذا المستشفى العسكري موجودا اليوم بمراكش، بعد قرار الملك الراحل المرحوم الحسن الثاني استعادة القصر الملكي “الدار البيضاء”، وبني مستشفى عسكري جديد أطلق عليه إبن سينا جنوب محطة القطار في الطريق إلى منطقة تارغة).
كانت مراكش حينها تضم ساكنة كبيرة، تعتبر الأكبر بين كل المدن المغربية (أكثر حتى من فاس)، بلغت في سنة 1915، ما مجموعه 165 ألف نسمة، ضمنهم حوالي 142 ألف مغاربة مسلمون وأكثر من 19 ألف مغاربة يهود و 2120 أروبيا، يضاف إليهم 1115 عسكريا فرنسيا. فتم بالتوازي مع افتتاح أول مؤسسة طبية عسكرية بها، إنشاء سنة 1913 مصلحة “حفظ الصحة العامة”، التي عملت مع نواة إدارية جنينية للمصالح البلدية على مواجهة الكثير من أعطاب النظافة بالمدينة، والشروع في خلق بنية تحتية للخدمات الصحية العامة، من أجهزة رقابة صحية ومؤسسات للتعقيم عمومية، وشبكة جديدة للماء الشروب وشبكة للصرف الصحي، بغاية مواجهة كل مصادر تفشي الأوبئة والأمراض المعدية. كانت مراكش حينها تسجل دوريا موجات من أوبئة الملاريا والجدري والتيفويد، مثلما بها نسب عالية جدا من مرض السل (خاصة السل اللمفاوي وسل العظام) وأيضا من مرض الزهري الجنسي، بسبب النسبة العالية بها من دور الدعارة و”النزاهة”.
كانت الآلية التدبيرية الإدارية الخاصة بمراكش مختلفة عن باقي المدن المغربية، من خلال قرار الإقامة العامة بالرباط التعاون مع واحد من كبار قواد الجنوب والأطلسين الكبير والصغير، المدني لكلاوي وشقيقه التهامي لكلاوي (وهما من قبيلة كلاوة الأمازيغية الوزكيتية بشرق الأطلس الكبير). وهو التعاون الذي سيخلق بنية إدارية مزدوجة مدنية وعسكرية، فرنسية ومغربية، وفرت اليد العاملة المطلوبة لتنفيذ كل مشاريع “حفظ الصحة العامة” بالمدينة. وهي المشاريع التي ستلعب دورا مؤثرا في مواجهة الكثير من الأمراض بها، مثلما ساهمت في الوصول إلى امتلاك خريطة صحية للمدينة والجهة بكاملها، في بحر 5 سنوات، كانت جد مهمة في الإستراتيجية الطبية التي تم تنفيذها هناك، ابتداء من سنة 1913، أدت إلى ميلاد شبكة واسعة من المستشفيات والمراكز الصحية والمستوصفات، بتخصصات متعددة، في المسافة الزمنية بين 1913 و1919.
مثلا، في مجال الماء الشروب وحده، وجدت القوات الفرنسية المحتلة، حسب وثيقة للدكتور آدريان بورتو (مدير مصلحة حفظ الصحة والطبيب الرئيسي لمستوصفي محاربة داء السل ومرض الزهري الجنسي)، أن مدينة مراكش تتوفر على تقنية لتوزيع الماء الشروب ضاربة في القدم منذ قرون، فعالة وهامة، لكنها في الكثير من الحالات غير محمية دون تسرب بعض الأوبئة والأمراض إليها (خاصة التيفويد). فقد كانت المدينة تتوفر على مصادر مياه قادمة من أعالي الأطلس الكبير على مسافة 11 كلمترا جهة أكدال، عبر 3 خطارات كبيرة، تزود 77 مسجدا بالماء و 24 حماما عموميا و 98 نافورة ماء موزعة على كامل أحياء ودروب المدينة. وكانت تلك المياه تعبر العديد من الحفر (آبار لخلق قوة الدفع)، لم تكن جميعها تتوفر على شروط السلامة الصحية. فكانت من المعارك الكبرى التي انخرطت فيها مصالح “حفظ الصحة” بمراكش، هي أخد زمام المبادرة التدبيرية لتلك الشبكة الهائلة من توزيع الماء الشروب، التي كانت تابعة للأحباس، بكل ما كان يصاحب ذلك من توترات بتأويلات تفسيرية دينية تقول بتحريم اقتراب الأجنبي غير المسلم من ماء الخطارات الذي يزود المساجد ويكون ماء طاهرا للوضوء (فاقتراب الأجنبي غير المسلم منه يكون سببا لنجاسته). فكان ذلك معركة تدبيرية، لعبت فيها اليد الإدارية المحلية الجنينية للقائد المدني لكلاوي وشقيقه التهامي لكلاوي الدور الحاسم بمنطق القوة والإكراه. لكنه شكل المقدمة الإيجابية صحيا لمراقبة الماء الشروب بكامل المدينة من خلال تنظيف كلي للخطارات وللآبار المرتبطة بها وللسواقي الحاملة للماء. ومع اتساع الأحياء الأروبية الجديدة خارج أسوار مراكش العتيقة، شرع في البحث عن مصادر مياه جديدة تحت الأرض، حيث تمت عمليات حفر 25 كلمترا جنوب المدينة على طريق أكادير (بمنطقة بوزوغار ومدشر غريش)، مكنت من اكتشاف فرشة مائية عززت من الصبيب المائي للمدينة الذي وفر لها 300 لترا في الثانية من الماء الشروب الصحي بينما هي لا تستهلك أصلا في سنة 1925 سوى 65 لترا في الثانية.
سيتم أيضا بالتوازي، في المسافة الزمنية بين 1913 و 1925، إنجاز 82 كلمترا من مجاري الصرف الصحي (وهو رقم ضخم)، و 56 كلمترا من شبكة الماء الشروب، وتم القضاء نهائيا على كل المزابل العمومية المنتشرة بالمساحات الفارغة داخل وخارج أسوار مراكش، وإنشاء مطرح عمومي للأزبال مراقب من قبل المصالح البلدية. مثلما تم تحديد خريطة كل البحيرات المائية الراكدة، وتمت معالجتها لمحاربة أسباب الأوبئة المتسببة فيها.


الكاتب : لحسن العسبي

  

بتاريخ : 21/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *