يوميات بلد موبوء : كأن الموج تحتي 5

 

كان يا ما كان في قديم العصر والأوان، منذ عقود خلت، كنا مستبشرين بانتهاء عام عصيب وبداية آخر، عام يقفل عشرين سنة بعد الألفين ، عشرين سنة رأينا فيها أهوالا جسام وأحداثا أثقلت كاهل التاريخ بزخمها ووحشيتها،  كان يحذونا أمل دفين في أن هذا العام سيكون عام الخير، عام التغيير ، بدأنا نخطط ونرسم لمستقبل أجمل.

 

لا أخفيكم أن أعصاب الناس بدأت تتعرض لامتحان عسير فأغلبية البيوت في المدن الكبرى لا تتعدى أحيانا الــ 40 أو الــ 45 مترا مربعا تعيش فيها أسر بكاملها.لا أخفيكم أن أعصاب الناس بدأت تتعرض لامتحان عسير فأغلبية البيوت في المدن الكبرى لا تتعدى أحيانا الــ 40 أو الــ 45 مترا مربعا تعيش فيها أسر بكاملها.وبما أن روتين الحياة اليومية يُلزم الجميع بساعات طويلة خارج البيت والرجوع مساء للأكل والنوم فقط، فإن ضيق المكان لا يجثم على الصدور، لكن هذه الإقامة الجبرية التي لا يعلم إلا الله عز وجل كم ستدوم، جعلت هذه المساحة تضيق بساكنيها وبعاداتهم واحتياجاتهم واختلاف أذواقهم ورغباتهم، أضف إلى ذلك القلق والتوجس والخوف من مستقبل مجهول لا أحد يعرف ما يخبئه.قلق يذكي سعيره زخم الأخبار السيئة والطاقة السلبية التي تقذفها في وجوهنا قنوات التلفزيون التي رغم تنوعها واختلاف توجهاتها، توحدت كلها على خبرين لا ثالث لهما: المرض والموت.  أضف إلى ذلك كم هائل من الفيديوهات التي تحاصرنا من كل حدب وصوب، أغلبها يتكلم عن المؤامرة، والمؤامرة هذه، تارة من صنيع الأمريكان لضرب اقتصاد الصين وتارة من صنيع الفرنسيين والصين وأخرى من صنيع إله غاضب على أمة لم تتمسك بتعاليم دينها وأخرى من غضب الطبيعة التي أسأنا معاملتها، فضلا عن ذاك الزحف من البيولوجيين والعلماء والأخصائيين، كل يغني على ليلاه وكل يدلي بدلوه في بئر لا يعلم قراره إلا لله عز وجل، لكن الطامة العظمى هم فقهاء التداوي بالأعشاب، الذي ينصح بالعرعار وبالشيح والـذي ينصح بغرغرة الملح والليمون والآخر بطبخ “عصية سيدنا موسى” والقرنفل والقائمة تطول وتتشعب.تفنن ذوي الذمم الدنيئة في زرع الرعب والخوف والأكاذيب لتهويل الأحداث ونقل أخبار لا أساس لها من الصحة دون رحمة بالعباد وخاصة بنا نحن معشر المهاجرين الذين يتمزقون قلقا على ذويهم وفلذات أكبادهم. وأنا مثلي في ذلك مثلهم أعيش على وقع الأحداث وأتقفى أخبار أهلي هناك، تُرعبني حالة أو حالتين تم اكتشافها في خريبكة أو في سطات أكثر مما ترعبني صور آلاف التوابيت التي تنقل موتى ميلانو أو بيرغامو التي باتت تحرق أو تدفن في مقابر جماعية.ليس تحيزا لبلدي الأصلي وهذا بديهي ومشروع، بل هو وعي مني بالفارق في القدرة على مواجهة هذه الكارثة.فنظام الصحة العامة في إيطاليا هو من بين أحسن الأنظمة على الصعيد العالمي، بات القاصي والداني يعترف بنجاعته، بعد أن عرَى السيد كورنا كُبريات الدول من كساء العظمة التي كانت تبهر به العالم وكشف عن عورة مستشفياتها ووهن التغطية الصحية فيها أو انعدامها أصلا.فلي إخوة “عالقون” بالمغرب، لم يستطيعوا مقاومة الرغبة في عطلة بين الأهل والأحباب وقضاء فصل الربيع هناك وأكل “صيكوك” باللبن و”كراع الدجاجة” و”العشلوج” وتجاهلوا كل أخبار الشؤم التي كانت تروي فصول تراجيديا بدأت في شمال إيطاليا ولا أحد كان يعلم أين سيسدل الستار على آخر فصولها.باغتتهم قرارات تعليق الرحلات الجوية من وإلى إيطاليا وصدر الحكم الفصل. جُن جنوني خاصة وأن أصغرهم يعاني من أمراض مزمنة ويحتاج إلى رعاية صحية من نوع خاص، والعائلة جميعها تعيش على وقع دقات قلبه.أخذت أتقفى أخبار أي قرار تصدره وحدة الأزمات في وزارة الخارجية لإجلاء رعاياها العالقين في مختلف أرجاء المعمورة، وأخيرا وجدته. يجب أن يعودوا، مكانهم الطبيعي في بيوتهم وبين أبنائهم، في بلد يوفر لهم التغطية الصحية وكل أسباب العلاج إذا حصل شيء لا سمح الله.فإيطاليا رغم قساوة هذا الوباء اللعين إلا أنها تعاملت بحزم وجدية رغم الثغرات التي تعزى إلى استثنائية الوضع وأصبحت تجربتها في مراوغة هذ الوباء الأرعن، نموذجا يحتذى به وذلك باعتراف أبناء عمومتها في القارة العجوز، ولو على مضض، فهم كانوا ينظرون إليها نظرة تعالي وترتسم معالم السخرية على شفاههم كلما نطقوا باسمها في محفل من المحافل، كأنها آخر تلميذ في الصف.اتصلت بإخوتي فورا لأزُف لهم خبر أن السلطات خصصت ٤ طيارات لإجلاء رعاياها من المغرب.كنت على يقين بأنهم سيسارعون إلى حجز مقاعدهم على أول طيارة لكني فوجئت بصمت مذهل تلاه قرار بالإجماع على البقاء في بلادهم بين أهلهم وناسهم مهما كلف الثمن.أنهيت المكالمة وانتابني شعور بالغربة وبالضياع، فأنا “العالقة”…. بت سواد ليلي ساجية في سهاد. ما العمل يا إلهي؟ ماذا لو حصل أي شيء لي أو لهم؟ لا أحد سيرى الآخر، لا أحد سيكون سندا للأخر، لن أستطيع السفر لا جوا ولا بحرا ولا برا. سلمت أمري لله وغفوت وكأن الموج من تحتي.ورغم أنني كنت أحاول التماسك والتبات إلا أنني أجهشت في بكاء لم أعرف كيف أسكته، حين وقعت نقرة من نقراتي العصبية في اليوم التالي على فيديو يبث أغنية “بغيت بلادي” لمجموعة المشاهب. وزمجرت حين سمعت نعيق بوم في الفضاء الأزرق يقذف في وجوهنا نحن معشر المهاجرين حِمَم عقده الدفينة ويتجرأ على مطالبتنا بعدم الرجوع إلى بلادنا، ينزع عنا حق المواطنة بدون وجه حق وكأنها حكر على “قبيلة والديه”….حسبي لله ونعم الوكيل!!يتبع…

 

 


الكاتب : سعيدة صدقي

  

بتاريخ : 30/04/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *