الباحث والأستاذ والمفكر عبد اللطيف كمال في مبحث جديد
انطلقنا في هذه العمل من إقرارنا بحاجة ثقافتنا ومجتمعنا لروح الأنوار ولمختلف القيم التي ترتبط بالحداثة والتحديث، من أجل مزيد من ترسيخها في قلب التحولات الجارية في عالمنا. ولا يتعلق الأمر هنا بفلسفة الأنوار في أبعادها المرتبطة بزمن التأسيس، التي بدأت إرهاصاتها الأولى في عصر النهضة في القرن السادس عشر، وتواصلت إلى نهاية القرن الثامن عشر، بل إن قيم الأنوار اتسعت وتطورت في سياق الانتقادات التي طالت مبادئها وقيمها، بعد ذلك وطيلة القرن العشرين وإلى يومنا هذا، الأمر الذي منح مشروعها امتدادات ووضع أمام بعض مبادئها تحفظات ومراجعات، حيث اغتنت وتطورت وحصل كثير من التنسيب الإيجابي لبعض مبادئها ومقدماتها. الأمر الذي مكَّن المشروع الأنواري من رسم حدوده، كما مكَّنه من مواصلة مساعي تطوير أفقه ومنحه صلابة نظرية.
لا نتجه في المحور الأول من عملنا، لبناء ما يمكن أن يدرج ضمن نمط من أنماط التاريخ لفكر الأنوار، بل إننا نروم أساساً الوقوف أمام أبرز السمات التي ميزت عصر الأنوار في الفلسفة الحديثة، وذلك لاقتناعنا بصعوبة هذا المسعى وانفتاحه على إشكالات ترتبط بالفلسفة والسياسة والتاريخ، وبحكم أن الموضوع ما زال يتمتع براهنيته سواء في الفلسفة الغربية أو في الفكر العربي المعاصر. وسنوجه عنايتنا نحو إبراز ما نعدّه أهم دروس فلسلة الأنوار، لنتمكن في سياق هذا العمل، من معرفة أشكال تلقيها في فكرنا، الأمر الذي يتيح لنا الاقتراب من السياقات التاريخية والنظرية التي تجعلنا نتطلع اليوم، إلى إعادة بناء قيمها في عالم متغير.
نشأت حركة التنوير في الفلسفة واتخذت منذ بداية تشكلها على أيدي الموسوعيين من الكتَّاب والفلاسفة في فرنسا، شكل الفعالية الاجتماعية الهادفة إلى مواجهة مجموعة من القيم والخيارات الدينية والسياسية، وعكست في نصوص كتابها ما يعبر عن أنماط من المجابهة، بين أنماط من الوعي الجديد الرافض لكثير من التقاليد الدينية. وقد تشكلت وتطورت مبادئ وقيم التنوير في أوروبا القرن الثامن عشر، وبرزت بوضوح في كل من فرنسا وألمانيا، وإن كانت إرهاصاتها الأولى قد ظهرت قبل ذلك في بريطانيا. وقد تواصل انتشارها واتساعها في جهات أخرى من العالم ابتداء من القرن التاسع عشر.
انخرط التنويريون في مشروع فلسفي يتوخى أولاً وقبل كل شيء، إنجاز نقد شامل للمجال الديني، وذلك باعتماد سلطة العقل كما تبلورت وتطورت في الفلسفة الحديثة. ولم يتردَّد فلاسفة الأنوار في مخاصمة مختلف التقاليد التي بناها اللاّهوت في العصور الوسطى، وقد تعززت خياراتهم في الفلسفة بفضل ما واكبت من ثورات وتحولات في أوروبا الحديثة، حيث اقترن مشروعها الفلسفي بثورات الفيزياء والفلك والرياضيات، وارتبط ذلك بالتطور الذي عرفته الجامعات والصناعات في الغرب الأوروبي خلال القرنين الثامن والتاسع عشر.
كان من نتائج الثورات العلمية، بدايات التخلص من كثير من التصورات والتقاليد اللاهوتية في مختلف المعارف، في اللغة وفي التاريخ وفي كيفيات النظر إلى الطبيعة وموضوعاتها. وتمنحنا مواد الموسوعة التي أعدت في أفق الأنوار إطاراً عاماً، لمعرفة المسارات التي عكست أشكال تجاوز المعرفة الجديدة لمنطق العقائد الدينية السائدة وانتصارها للعقل والعقلانية، وقد أصبحت بفضل خياراتها المذكورة من أبرز مرجعيات الفكر الغربي المعاصر.
نريد أن نوضح هنا، أن فلسفة الأنوار لم تتبلور في أنساق فلسفية على شاكلة فلسفات ومذاهب القرن السابع عشر، إنها لم تنتج منظومات مماثلة لما عهدناه في الديكارتية والهوبزية وفي فلسفة سبينوزا. ومقابل ذلك،عمل فلاسفة الأنوار على تركيب جملة من المعارف المفتوحة على الحياة والقيم، متوخين من وراء ذلك، القيام بدور اجتماعي يروم نشر الأفكار المساعدة في عملية إشاعة قيم العقل والنقد، إشاعة وتعميم التنوير. وقد بُنِيَّت ورتَّبت كثير من معالم التنوير باعتباره أفقاً في النظر، يتوخّى مواجهة التقاليد والطقوس المهيمنة في المجتمع وفي الثقافة، وذلك بالشكل الذي يُقلِّص من درجات قصور الإنسان أمام ذاته وأمام الطبيعة والتاريخ. وتمثلت الفتوحات الكبرى لفلسفة الأنوار في العناية البارزة التي أولتها لقضايا الإنسان والتاريخ والتقدم.
عندما نتحدث هنا عن الأنوار وقيم التنوير، فإننا لا نتحدث عن قيم جاهزة مغلقة وتامة، قدر ما نشير إلى جملة من المبادئ العامة التي تخص البشر في التاريخ. صحيح أن مفهوم الأنوار يحيل إلى مرجعية فلسفية محدَّدة، إلا أنه لا أحد يستطيع أن يقطع باكتمال مشروع الأنوار والتنوير في أوروبا موطن تبلوره الأول، ولا في باقي مجتمعات المعمور، وقد سعت في أغلبها إلى امتحان قيم الأنوار في سياقات تاريخها المحلي والخاص، الأمر الذي أنتج كما هو معلوم، جملة من التصوُّرات المركبة لعمليات الاستيعاب المتعدِّد لقيم التنوير خلال مراحل التاريخ المعاصر.
نتصوَّر أن التنوير في الفكر والسياسة، كما رُكِّبًت أسئلته ومفاهيمه ونصوصه الكبرى في الغرب الأوروبي خلال القرون الأربعة الماضية، وإن أفضى إلى جملة من النتائج المتناقضة، فقد ساهم في خلخلة كثير من اليقينيات. لقد ظل في روحه العامة مجرد أفق في النظر، مستوعب لجوانب من تحولات الفكر والسياسة كما حصلت في التاريخ. إنه ليس عقيدة، وقد بلورت فلسفات التنوير جهوداً في النظر إلى الطبيعة والإنسان والدين،مختلفة في كثير من أوجُههاعن تلك التي رسخت أنماطها أشكال الفكر السكولائي، التي سادت في فلسفات العصور الوسطى.
وُسِم القرن الثامن عشر بعصر النقد، بحكم انخراط فلاسفته وكُتَّابه وأُدبائه في مشروع نقدي شامل في المجالين الديني والسياسي. وإذا كنا نعرف الهيمنة التي كانت للدين في أوروبا طيلة العصور الوسطى، وإلى حدود مرحلة الإصلاح الديني في عصر النهضة، وخاصة في مجالات القيم والمعرفة والسياسة، أدركنا اتساع مجالات النقد.
نقف على الملامح العامة لفكر الأنوار في أعمال ﭭﻭلتير (1694-1778) وديدرور (1713-1784) ودالمبير (1712-1778) وروسو (1712-1778) وغيرهم من الموسوعيين، وقد استوعبت مقالة ديدرو عن الكتاب المقدس في الموسوعة، وتضمنت جرداً لأبرز خطوات النقد الضرورية لفحص الوحي وسياقاته التاريخية واللفظية، وذلك من أجل نقد تجليات اللاّهوت النصية. لم يقتصر النقد على الفكر الديني والسلطة السياسية المستبدة، بل ذهب أبعد من ذلك، فبرزت المعالم الكبرى لحقوق ومواثيق خارج دائرة الحق الإلهي ووصاياه، وأخلاق لا علاقة لها باللاّهوت، وسياسة تتوخَّى تحويل الرعايا إلى مواطنين، إضافة إلى خطوات أخرى تُعْنَى ببناء مبادئ جديدة في مجالات التربية والتعليم.