في التغيير والتنوير والشبكات 17- في الذكرى العاشرة لرحيل الجابري الجابري وتحديات الحاضر (1)

انطلقنا في هذه العمل من إقرارنا بحاجة ثقافتنا ومجتمعنا لروح الأنوار ولمختلف القيم التي ترتبط بالحداثة والتحديث، من أجل مزيد من ترسيخها في قلب التحولات الجارية في عالمنا. ولا يتعلق الأمر هنا بفلسفة الأنوار في أبعادها المرتبطة بزمن التأسيس، التي بدأت إرهاصاتها الأولى في عصر النهضة في القرن السادس عشر، وتواصلت إلى نهاية القرن الثامن عشر، بل إن قيم الأنوار اتسعت وتطورت في سياق الانتقادات التي طالت مبادئها وقيمها، بعد ذلك وطيلة القرن العشرين وإلى يومنا هذا، الأمر الذي منح مشروعها امتدادات ووضع أمام بعض مبادئها تحفظات ومراجعات، حيث اغتنت وتطورت وحصل كثير من التنسيب الإيجابي لبعض مبادئها ومقدماتها. الأمر الذي مكَّن المشروع الأنواري من رسم حدوده، كما مكَّنه من مواصلة مساعي تطوير أفقه ومنحه صلابة نظرية.

نفترض أن مجمل التركة النظرية لمحمد عابد الجابري، ما تزال في قلب معترك الصراع الثقافي المغربي والعربي، وكثير من التجليات الثقافية التي تملأ المشهد الثقافي والسياسي في مجتمعنا، ترتبط بالتحديات التي كان يواجه وهو يركِّب مفاصل ومحاور مشروعه في نقد العقل العربي. كما ترتبط بمعاركه السياسية والتربوية في المغرب، حيث كان منخرطاً في العمل السياسي ومهتماً بتطوير تعليم الفلسفة في المدرسة والجامعة المغربية.

مسار فكري متصل
بمعارك محدَّدة
كيف نفكر اليوم في المنجز النظري الذي ترك محمد عابد الجابري (1935-2010)، وذلك بعد مرور عقد من الزمن على وفاته؟، وكيف نتعامل مع خياراته الفكرية وأنماط حضوره السياسي بيننا؟ ونحن نطرح هذا السؤال، يحق لنا أن نتساءل أيضاً، ألا تُماثل متغيرات الراهن المغربي والعربي بكل ما تطرحه من إشكالات سياسية وثقافية، نفس القضايا والتحدِّيات التي واجه الرجل في العقود الأربعة الأخيرة من القرن الماضي، وأنجز في تفاعُل معها آثاره الكبرى، المتمثلة في رباعية نقد العقل العربي (1984-2000)، ومجموع مصنفاته واجتهاداته في الثقافة السياسية العربية، وانحيازه المُعْلَن لخيار توطين عقلانية التنوير في مجتمعنا وثقافتنا، واقتناعه الراسخ بأن باب الولوج إلى مجتمع وقيم الحداثة، لا يتم إلاَّ عن طريق نقد التقليد، أي نقد آليات اشتغال الفكر العربي. وإذا كان من حقنا أن نركِّب هذه الأسئلة، فمن واجبنا قبل ذلك، ألا ننسى أننا نواجه مواقف وخيارات وجهود باحث مفرد، ذلك أن الجابري لم يكن في يوم من الأيام رجل دولة، لقد كان مجرد مثقف ملتزم بخيارات فكرية وسياسية محدَّدة.
وقبل مباشرة التفكير في المضمرات التي تقف وراء الأسئلة التي سطرنا، نشير إلى أن مشروع الجابري في نقد العقل العربي، أثار في حياته وما زال يثير إلى يومنا هذا ردود فعل متناقضة. ونحن نرى في ردود الفعل التي أثار طيلة حياته مزايا عديدة، أهمها يتمثَّل في العناية الكبيرة بأعماله والحرص على توظيف بعض نتائجها وخلاصاتها، في مجال الصراع السياسي، وفي بعض مستويات السجال الأيديولوجي داخل تيارات الفكر العربي المعاصر، الأمر الذي يضفي على أعماله، سمات تنقلها من الجهد الفردي والاقتناع الشخصي، إلى جهد تحرص مؤسسات ومنظمات ثقافية عديدة على أن يكون عنواناً لمواقفها وخياراتها. ومقابل ذلك، نجد مواقف نقدية عديدة، تتجه لإبراز الطابع التوفيقي لخياراته وجهوده في الفلسفة وفي الموقف من التراث، مُظهرة أنماط المراوغة النظرية وصور التوظيف الأيديولوجي التي تحفل بها أعماله. وقد وجد بعض أصحاب هذا الموقف ضالتهم في مصنفاته الأخيرة، التي اعتنى فيها بالعودة إلى القرآن، فاعتبروا أن قراءته الأخيرة الصادرة في أجزاء بعنوان مدخل إلى القرآن الكريم (2006) وفهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول (2008)، تبرز جوانب من المنحى التقليدي في مقاربته وفي النتائج التي توصل إليها.
نجد بجوار المواقف التي وضَّحنا في الفقرة السابقة. مواقف أخرى، ترى أن أغلب آثاره تُبْطِن عكس ما تظهر، وأن ظاهر مواقفه التوفيقية في موضوع الموقف من التراث، يتجه في العمق لإعداد المجال الثقافي العربي لتوطين الحداثة وقيم العقل والنقد. كما أن بعض حواراته المجموعة في مصنف التراث والحداثة تفصح بجلاء عن خياراته ومواقفه أكثر من بعض أعماله. وقد حرصت كثير من التيارات السلفية على مخاصمة آثاره كاملة، ووظفت مواقعها الإلكترونية لإبراز الطابع المخاتل والمزدوج بل والمتناقض لهذه الأعمال. فأعمال الجابري في نظر هؤلاء، تمهِّد بطريقتها التوفيقية والمتدرجة لتوطين الحداثة والتحديث في ثقافتنا.
انتبه الذين كانوا يحرصون على متابعة أعماله والعناية بها، انتبهوا إلى معاركه الكبرى وإلى ثمارها في الفكر العربي المعاصر، من قبيل سجاله الهام مع الدكتور حسن حنفي في موضوع مشرق مغرب، على صفحات مجلة اليوم السابع في ثمانينيات القرن الماضي. كما انتبهوا إلى النقد الذي ركبه جورج طرابيشي وهو ينجز أربع مجلدات في نقد نقد العقل العربي. إلا أن معارك أخرى أكثر شراسة نشأت حول أعماله في المواقع الافتراضية، وتبنى أصحابها نقد أعماله من مواقع سلفية محدَّدة، فكيف ننظر اليوم إلى كل هذا وذاك، في ضوء المآلات البئيسة، التي تحدد اليوم السمات الكبرى لواقع المجتمع والثقافة العربية؟
نفترض أن مجمل تركته النظرية ما تزال في قلب معترك الصراع الثقافي العربي، وكثير من التجليات الثقافية التي تملأ المشهد الثقافي والسياسي في مجتمعنا، ترتبط بالتحديات التي كان يواجه وهو يركِّب مفاصل ومحاور مشروعه في نقد العقل العربي. كما ترتبط بمعاركه السياسية والتربوية في المغرب، حيث كان منخرطاً في العمل السياسي ومهتماً بتطوير تعليم الفلسفة في المدرسة والجامعة المغربية. وبناء عليه، سنواصل التفكير في سؤالنا، لعلنا نتمكَّن من إبراز بعض السِّمات العامة، لجهوده النظرية وخياراته السياسية في موضوع الموقف من التراث ومسألة التأخر التاريخي العربي.
يبدو لي أنه يصعب علينا أن نجد الطريق المناسب لمساءلة آثاره مجدداً، دون أن نكون على بيِّنة من مساره العام في الفكر وفي السياسة، وهما معاً يشكلان المجرى الذي احتضن مجموع منجزاته الفكرية في العقود الأربعة الأخيرة من القرن الماضي، في مغرب الاستقلال وفي قلب الوجه التقدمي والحداثي للحركة الوطنية المغربية، ثم وسط فضاءات ومؤسسات الثقافة العربية بكل ما لها من خصائص وسمات. ونعتقد أن كل تعامل مع آثاره لن يكون مفيداً حين نغفل ما ذكرنا، بل إننا نتصوَّر أن بعض سوء الفهم الذي لحق بعض أعماله، يعود إلى إغفال مرتكبيه للمنطلقات والمبادئ التي هندس وركَّب انطلاقاً منها مواقفه النظرية وخياراته السياسية.
يتسم المشروع الفكري لمحمد عابد الجابري أولاً، باقتناعه الراسخ بالوظيفة التاريخية للفكر والمفكر. وقد سمح له هذا الاقتناع برسم حدود معينة لمساره الفكري والسياسي. ويتسم مشروعه ثانياً، باهتمامه بإشكالات التحول السياسي في المغرب، في دائرة حركة اليسار، وفي إطار مشروع النهوض القومي الديمقراطي في أبعاده الثقافية والسياسية، حيث تقدم أعماله مداخل وحدوساً هامة في مجال مقاربة القضايا التي ذكرنا. ومن هنا إلحاحنا على أهمية الاقتراب من أعماله في ضوء ما ذكرنا. كما نفترض أن مساءلة أعماله اليوم في ضوء إشكالات الحاضر، يمكن أن تُبْنَى في ضوء المقدمات نفسها، فلم يكن بإمكان الجابري في تصورنا أن يفكر وينتج خارج مبدأ النجاعة في العمل السياسي والتحديث في المستوى الثقافي.

الجابري وتوسيع جبهة النقد
في الفكر العربي
نتصور أن أهمية رباعية نقد العقل العربي لا تبرز في النتائج والخلاصات التي توقف عندها صاحبها، بل إن قوتها بالأمس أي في زمن تركيبها وبنائها، وقوتها اليوم، حيث تتواصل حاجة المجتمع العربي إلى العقلانية والنقد، تَتمثَّل في إعلائها الصريح والواضح من قيم العقلانية والنقد في الثقافة المغربية والعربية. كما تتمثَّل في مواجهة صاحبها لفقهاء الظلام الذين يحتكرون المنتوج التراثي ويستعيدون معطياته بطرق تكرارية.
بذل الجابري في المصنفات الأربعة التي ركَّب بواسطتها معمار أطروحته في نقد العقل العربي، التكوين والبنية ثم العقل السياسي والأخلاقي، عملاً نظرياً تجاوز فيه القراءات التمجيدية للمنظومات التراثية. كما تجاوز فيه المواقف السلبية من التراث. وقد حاول توظيف نتائج وخلاصات قراءته في معارك الحاضر العربي، بالصورة التي تدعِّم في تصوُّره خيارات التنوير في فكرنا.
نختلف معه في النتائج التي وصل إليها، بحكم أن بعضها قد لا تكون محصلة للعدة المنهجية المستعملة في عملية بنائه لمشروعه، إلاَّ أن إشاعته لمطلب نقد الذات وتشريح تراثها، ساهم في تكسير أوثان عديدة هيمنت وما فتئت تهيمن على أنماط مقاربتنا لماضينا وحاضرنا. ومن هنا بالذات، فإننا نعتقد أن آثاره ومنجزاته تقترح علينا جملة من التصورات التاريخية للمساهمة في تخطِّي بعض أعطابنا التاريخية.
لا يندرج التفكير في التراث في أعمال الجابري ضمن خطة في البحث التاريخي الموضوعي (الوصفي والمحايِد)؛ فهذه المقاربة، لا تُعتبَر في نظره أمراً ممكناً، إذ لا يمكن استعادة الماضي في الحاضر بمحتوى الماضي، والنص التراثي لا يَهبُ نفسه للجميع بالمعنى نفسه، ذلك أن الدلالة اللغوية التي يتمظهر من خلالها، بالأمس واليوم حَمَّالة أوجه، سواء زمن النطق بها وكتابتها ثم تدوينها، أو في الأزمنة التي تليها، وهي أزمنة تترك بدورها ظلالها عليها وبجوارها.
تُعلن المقدِّمات المعتمدَة في مواقفه من التراث، ونقده لآليات عمل العقل العربي بعبارة صريحة، أن وعياً نقدياً جديداً بالتراث يُعدّ أوّلية مُلازمة لكل انفصال تاريخي عنه، ولا تكون الحداثة ممكنة في نظره دون إعادة بناء مقوِّمات الذات، بالصورة التي تحوِّل منتجات الحداثة وممكناتها إلى أفق طبيعي، في سياق تطوُّرها. إن قراءة التراث هنا أشبه ما تكون بعملية حفر تبحث لمقومات الحداثة عن تاريخ آخر، عن سياق آخر مخالف لسياقها الغربي الأوروبي، لكنه يمتلك في نظر الباحث كل العناصر التي يمكن أن تحوِّله إلى جذر آخر لها، إلى رافد فعلي من روافدها.
بناء على ما سبق، تُصبح مفاهيم التدرُّج والمرحلية، وضبط المكاسب وحصرها هي المفاهيم الأكثر تاريخية في نظره، وكل الاستعارات التي تبرز أهمية القطيعة وأخواتها في المواقف الأخرى من التراث، فإنها في نظره تصنع ما لا يُصنع مرة واحدة، أي إنها تصنع تحوُّلات مفاجئة وقطائع ممكنة، لكن مخزونات الذات التي لم تفتت ولم تذوَّب لتتلاشى بصورة متدرِّجة، تظل قابلة للتضخم وللتوظيف مجدَّداً، وأحياناً تظل قابلة للعودات المعاندة للطفرات والمواقف القسرية.


الكاتب : عبد اللطيف كمال

  

بتاريخ : 14/05/2020