ألحقت بقسم الملاحظة رقم 3 وسط خليط من التلاميذ الذكور المنتمين لمختلف التجمعات السكنية لأنزكان وضواحيها، فاستفردت بالمقعد الخلفي لحجرة الدرس بالطابق الأول للمؤسسة… استطلع وجوه أساتذتي الجدد الذين حرص كل منهم على مساءلتي عن اسمي ومهنة الوالد وموطني الأصلي ومساري الدراسي، وعلى فحص دفاتري ومقارنة مضامينها مع ما أنجزوه في الدورة الأولى. كانت ملاحظاتهم عادية وطفيفة ،ما عدا أستاذ الرياضيات الذي نبهني أن ما درسته في الدورة الأولى من المفروض أن يدرس في الدورة الثانية، وعكس ذلك صحيح. أحسست حينها أن حظي العاثر يتربص بي في كل مكان وحين. لم أتدبر أمري سوى بالصمت والترقب وتعليق الحل إلى أن يشاء الله. لم يكن لي أصدقاء من بين تلامذة القسم يمكنهم مساعدتي على تدارك ما فاتني في مادة علمية لا يسعف الحفظ وحده على استيعابها، وما كان لي قريب أو جار يقدم لي دعما لتجاوز تعثري… ولم أجرؤ عل الحديث إلى والدي بالموضوع لأنه لا حل له سوى التوبيخ والعقاب… ما زالت صورة كلب وزان ماثلة للعين. دفنت معاناتي بين جوانحي واختفيت في لجة مدرسة مكتظة أبحث عن بوادر صداقة هاربة. كلما بدا لي فتى يرتدي غير «الفوقية» التقليدية لأبناء سوس، ويتكلم غير تشلحيت، خلته من «الشمال» ،وحسبته صديقا محتملا. لم أتوفق في ما تبقى من السنة الدراسية من ربط علاقات متينة ترقى إلى الاطمئنان إلى الغير والتآلف معه … ربما لم تكن الحياة المدرسية نفسها تساعد على التواصل الحر بين التلاميذ… يأتون كل صباح من أحياء المدينة وضواحيها، زرافات ووحدانا، راجلين أو فوق دراجات هوائية متلاشية ، فيلجون حجرات الدرس عبر صفوف يخيم عليها الصمت تحت حراسة مدير حازم ومهيب، لا تفارقه مسطرة صقيلة من رصاص، ومساعدين أشداء يسكن التجهم محياهم. وما أن نلج الفصل الدراسي حتى يشرع المدرسون، وأغلبهم فرنسيون، في إلقاء الدرس بجدية وصرامة. أما فترات الاستراحة، فقد تقرر تلك السنة أن تخصص للصلاة الجماعية بساحة المدرسة التي فرشت حصائر بنية وزربية خصصت لمدير المؤسسة وأطرها الذين تبوؤوا الصف الأمامي وراء الفقيه/الأستاذ سي حوسني. كانت الصلاة إلزامية بالنسبة للمؤمنين والفاسقين والملحدين والزنادقة، لذا جعلها البعض منا فرصة للتنكيت، والتندر، ووخز من هو أمامه، وذر التراب فوق رؤوس الأتراب، وإتيان كل أشكال السلوك المنافية لما يتطلبه المقام من خشوع في الركوع والسجود. ذات أربعاء، ولجت حجرة الدرس بعد «صلاة» العصر، ففوجئت بسرقة «منجد الطلاب» من محفظتي التي رمي بها على الإسفلت بعد أن عبثت بمحتوياتها البسيطة أيادي شريرة، سألت أترابي عمن يكون العابث، فلم الق منهم سوى النظرات الشزرة، والإشارات النافية والمستغربة، والابتسامات الصاغرة، وأحيانا عبارات أمازيغية لا أفهمها وإن كانت واضحة الدلالات ضمن سياقها… شكوت الأمر للأستاذ «الباز»، فلم تجد شكواي في استرجاع منجد نفيس اشترته لي الوالدة مما وفرته من مصروف الأسرة، وجعلت منه مرجعا لإغناء قاموسي اللغوي وكتابا للتفرج على صور الحيوانات والطيور والأسماك، وحسبته مفخرة لي بين الأتراب. قلت لنفسي:
– ياويلتي، ما كنت لأترك محفظتي حتى ضاع مني مؤنسي ومنبع معرفتي.
لم تمر الحادثة دون عقاب، لكنه عقاب مختلف عما ألفته. كانت أمي هي من دحتني أرضا وأفرغت غضبها في كل أطراف الجسد، عضا وقرصا وصراخا. لم أبك، ولم يغضني عقابها الذي حسبته مستحقا ومناسبا للخطأ. قيمة القاموس (10 دراهم) لم تكن هينة إذ كانت توازي عشر راتب الوالد.
قبل نهاية السنة الدراسية بقليل انتقلت الأسرة من السكن الوظيفي بالثكنة إلى مسكن جديد ب «إرحالن « بالدشيرة، فكانت بداية مرحلة جديدة من حياة الفتى الجبلي: مراهقة، وفتوة، وشغب، وصداقات، وحب، ودموع، وقمار، وخمر، وجنس، وعقوق، وسياسة، وأحلام أخرى…
إنها الدشيرة البسيطة، الساحرة، البهية، والرائعة. هي مشتل الأحلام وأيك البدايات كلها… حين أستحضر فضاءاتها ، أراها دواوير ثلاث متباعدة، تربط بينها سراديب متربة تحفها حشائش وأشجار، وبينها بساتين التين والرمان، وحقول الذرة والفول، وبعض الخضر ، وأشجار برتقال وصفوف صبار. يتوسط كل بستان بئر، نصبت على جوانبه «ناعورة» ربط لصاريها حمار أو جمل لجلب الماء وصرفه في سواقي تروي المزروعات والأشجار. جوار البساتين البرية ضيعات عصرية تتوسطها فيلات على النمط الأوربي، أغلبها مهجورة. دور الدشيرة مزيج من بيوت واطئة قديمة، موادها من طوب وحجر، ومنازل حديثة، وإن كانت قليلة، شيدت على الطراز العصري من إسمنت وحديد. تنتهي كل السراديب للطريق الرئيسي الفاصل بين «إرحالن» جنوبا، و»تكمي أوفلا» شمالا… على جانبي الطريق، أحدثت متاجر لبيع الملابس والخضر، ومحل لبيع اللحوم، وآخر للميكانيكا ( يد الذهب) وثالث لإصلاح الدراجات إلى جانب «حلاق الشباب» و»مقهى المستقبل»، الذي يقابله من الجهة الأخرى، وعلى بعد أمتار «مقهى إرجا»؛ وبين المقهيين، طاحونة، ومستودع لبيع مواد البناء. بين الحقول والبساتين الفاصلة بين «الدشيرة» والحامية العسكرية، سوي على عجل حي قصديري منظم سيعرف باسم «دوار المعلم إبراهيم» نسبة لصاحب الأرض الذي تنبه قبل غيره لحاجة اسر الجنود الذين قدموا من وزان قبل خمس سنوات لسكن اقتصادي قريب من الثكنة، فبنى أكواخا متراصة في صفوف أربعة متقابلة وزودها بالماء والكهرباء، بعيدا عن سكان الدشيرة الأصليين، ليصير بمثابة «غيطو» لا يدخله إلا أبناء العسكر. وبين «الدشيرة» وإ»نزكان « ممران ضيقان وسط حقول وسواقي تتحول فصل الربيع إلى منتزه رائع للنساء صحبة أطفالهن، وفي الصيف إلى بيادر وملاعب متربة لكرة القدم، يقابلها على الجهة الأخرى للطريق الوطنية بين أكادير وآيت ملول الحي الأوربي المتميز بحدائقة العصرية وساكنته الأوربية وفندق البروفنسال المجاور لمركز الدرك.
ب»إرحالن» قطنت أسرة سي المهدي دارا عصرية تقاسمتها مع أسرة الرقيب الحسين. أصبحت المسافة إلى الإعدادية أقصر بكثير، فتخلصت من عبء دراجة لم تكن تلائمني، ومن أعطابها المتكررة، واستحسنت الذهاب راجلا صحبة أبناء الحي ممن يتابعون دراستهم بنفس المؤسسة، محاولا نسج أواصر الود مع بعضهم. نسير بين الحقول، ثم بين فيلات النصارى الذين تشد انتباهنا سياراتهم الفارهة وكلابهم النظيفة ونساؤهم الشقروات، ونعبر الكثبان الرملية إلى أن نصل المدرسة/ الإعدادية الواقعة على مشارف المدينة. صار طوق العزلة يتفكك ودائرة المعارف تتسع عبر بوابات متعددة.
كانت الدار الجديدة تقع وسط حي آهل بالسكان وقريب من الساحة الرئيسية للمدينة حيث يتجمع فتيان الدشيرة لممارسة لعبة كرة القدم جوار مدرسة السعديين الابتدائية. ++-دأبت رفقة أخي عبد النبي الذي اكتسب أصدقاء من بين زملائه بالمدرسة ذاتها على ارتياد الساحة، ومشاركة أترابنا اللعب والشغب، فشكلنا فريقا مختلطا من «أولاد العسكر» و»أولاد شلوح»، مما أتاح لنا الاختلاط بأبناء البلدة، والاندماج بهم، وتعلم لغتهم، والانغماس في تفاصيل حياة مدينة ناشئة.
في ذاك الزمن كان التلفاز من الكماليات التي لا يقدر على امتلاكها سوى وجهاء القوم أو «المبذرون» من الجنود، فحدث أن أحد ضباط الصف من أصل جبلي، يقطن بحي «لاشالي»، اشترى دون غيره أول تلفاز شاهدته في حياتي، فدأب «جبالة» على السهر جماعة ليلة كل سبت لدا صاحب الصندوق العجيب وزوجته الظريفة التي كانت تستقبل الجميع في بشاشة لم تذبل أبدا. نتفرج مختلطين على سهرات المدن التي كانت تتبارى في تقديم أجمل أهازيجها وأغانيها الشعبية. وكم كان يطربنا العروصي، والسريفي، والشيخة الحمداوية، وحميد الزاهر، وقشبال وزروال، والشيخة الحمونية، وبناصر وخويا. أفادتني تلك الليالي في استنشاق عبير جبالة وفي اكتشاف «أبناء البلد»، ومن ضمنهم «الصديق» الذي فارقته منذ سنين بغفساي بعد رحلة العودة من وزان. وأتاحت لي جلسات السمر تلك أن أكتشف أول طفلة شغلت مني الفؤاد دون أن يتجاوز اهتمامي بها نظرات خجلاء لم تعرها ابنة الدار اهتماما. عبر «الصديق»، تعرفت على كثير من أبناء الجنود، منهم من كان يتابع دراسته بنفس الإعدادية، ومنهم من كان بالمدرسة الابتدائية المجاورة صحبة أخي. صرنا نشكل حلفا جديرا بالاحترام: رهط من الفتيان المشاغبين الذين لا يتوانون في مهاجمة كل من تجرأ بالإساءة لأحدهم. يذهبون جماعة لسينما «كوليزي» كل أحد لمشاهدة أفلام «البنت» و»الولد»، وللتفرج على «الجانكو» و»الرينكو» والقوة الضاربة ل»صمصام» و»لويس دو فنيس» و «شارلي شابلين»، ويتوغلون أحيانا بين أدغال الغابة في اتجاه مصب نهر سوس، ويركبون مرة دراجاتهم الهوائية لاستكشاف سفوح الجبل، ويتسلون مرة أخرى بغزو دور النصارى وسرقة ما يصادفونه من لعب وأثاث بفناءاتها… ويلعبون الكرة في جل أوقات الفراغ… ويتحاكون الحكايات كلها ، الحقيقية والمتخيلة كل مساء، على درج باب منزل مهجور… لا يهابون مقارعة أي رهط آخر، ولا يتراجعون أمام أي خصم. لم نكن حشدا متجانسا في كل شيء، وإن كنا متضامنين، متحدين في مواجهة الغير. داخل الرهط، تشكلت زمر وفئات حسب الجوار والسن واختلاف الطبائع. زمرة الصقور الذين يعود لهم القرار وينهضون بدور الزعامة، وهم الأكبر سنا، وزمرة الأشرار الذين يتقدمون كل الحوادث «السيئة» ويحرضون عليها، وزمرة الحمائم الذين لا يتورطون إلا لماما في ارتكاب «الذنوب» صغيرة كانت أم كبيرة ويواظبون على الدراسة أكثر من غيرهم. لكن، مهما فرقت بيننا الحياة، كان يوحدنا الانتماء إلى مجتمع «أولاد العسكر»، ويجمع بيننا الشعور بأننا غرباء، والغريب للغريب حبيب.
أنهيت السنة الدراسية بنتائج جد متوسطة. نعم، انتقلت للسنة الأولى من التعليم الثانوي آنذاك، لكني لم ارض بما حصلته من نقط، لاسيما في المواد العلمية. أيقنت أنني تراجعت عما كنت عليه بمدرسة أولاد صالح تراجعا لا ينبئ بخير. بدا المستقبل غامضا وراودتني بدائل شتى، من أقربها إلى التحقق العودة إلى الجبل، والعيش بين أهله في أحضان الجدين.
تجرعت خيبة أملي في ذاتي. استغرقني شغب الصيف رفقة الأقران اللذين صاروا أصدقاء النهار والشطر الأول من الليل. نهيم بين جنان الدشيرة وساحاتها المتربة، نتسلى بقطف النبق وتسلق الأشجار والقفز فوق الكثبان والعوم بغدران الوادي. ونلعب الكرة … بلا توقف ولا تعب … نلعب حفاة في أي مكان.عند العشي نتفرج على مقابلات الكبار حتى مغيب الشمس.
ذاك الصيف زفت أختي إلى زوجها… كان حفلا بسيطا وحزينا. لم يحضر الحفل سوى الأقربون ، وما كان حفلا على الإطلاق. فتاة حسناء لم تتجاوز عقدها السابع عشر تهدى في موكب يتصنع الفرجة والفرح لعجوز أكلته التجاعيد وغزا الشيب ما تبقى من هامته الصلعاء وخرب التبغ الأسود منه النواجد. زواج لم أرضاه لأختي، ولم يرتضيه سوى أبي الذي ربما رأى في الزوج البغيض ما لم يره أحد دونه. حرصت على زيارة العروس في بيتها الجديد فكنت أجدها حزينة، كئيبة. إن استفسرتها، تفجرت رموشها دمعا، وهي ترجو ربها أن يخلصها من زواج لم يكن لها فيه رأي ولا مشورة. عاهدتها أن نعمل سويا من أجل الخلاص، مهما كان موقف الوالد، وأيا كان الثمن.
سارت الأيام مسرعة، بين لعب وتسكع وعراك وصلاة وحنين، إلى أن عدت إلى الثانوية. عدت معززا بكتيبة جديدة من أبناء الجند الذين انتقلوا تلك السنة إلى التعليم الثانوي صحبة أخي ع.ن. نسير زرافات في الغدو والرواح ،من الدشيرة إلى الثانوية الجديدة، التي شيدت على مشارف غابة كثيفة تتحول فصل الربيع إلى منتزه رائع. نسير متكاتفين، متآنسين، بين بساتين «تاغزوت». نتبارى في الشعر والنثر… طه حسين، وإيليا أبو ماضي، وجورجي زيدان، وتوفيق الحكيم، والمنفلوطي… والثقافة العامة من قبيل عواصم الدول ورؤسائها… دار السلام، وأديس أبيبا، وبيروت، ومودي بوكيتا، وجمال عبد الناصر ونهرو و… والأحداث التاريخية… واطرلو، والزلاقة، والأرك، وفتح عمورية، والحروب الصليبية، وصلاح الدين الأيوبي… وأسماء العلماء والمخترعين… باستور، وأديسون ،وكوبونيك… وغاليلي. مباريات حفزتنا على المطالعة والبحث والتنقيب في زمن شح مصادر المعلومة والمعرفة، وفي وسط سادته الأمية.
لربح الرهان والفوز بالجوائز الرمزية التي رصدت للمتفوقين، وهي حلويات «خمسة بريال»، وضعت معية أخي برنامجا للمطالعة وحفظ الأشعار والاطلاع على خريطة العالم وتاريخ الإنسانية، فعكفنا على قراءة ما استطعنا إليه سبيلا من كتب ومجلات و»أوراق».
كانت خزانة الوالد بكتبها الصفراء أول منهل وأقربه إلينا. قرأنا «الرحمة في الطب والحكمة»، و «الروض العاطر،» و»سيف بن ذي يزن»، و»أبو زيد الهلالي». فاكتشفت أسماء الفرج والقضيب جميعها، وتشكلت في مخيلتي كل مشاهد الجنس والجماع، وتبلورت في وجداني كل قيم البطولة والشجاعة والإباء، وكل ألوان العشق والتضحية في سبيل المحبوب، وترسخت في أعماقي كل القيم المثالية الجميلة المتسامية. استهوتني الأزلية وبطولات ملك حمير الذي تحدى الإنس والجن، فاستعبد «سعدون الزنجي» و»ميمون الهجام»، وسخر «عيروض» و»عاقصة» و»إرميش المخالف»، وهزم «برنوخ الساحر» و»الكاهنة»، واستصغر «سقرديس» و»سقرديون»، وفتح «مدينة النحاس» وساد «جزر الوقواق» و»بحر الظلمات». كانت أربع ليال متتالية كافية لمصاحبة سيف في ملحمة أسطورية حسبتها وقائع تاريخية حقيقية، فتفاعلت مع البطل الخير، الطيب، الذي عاش أهوالا يشيب لها الصبيان ، وصبر الصبر الجميل على ما لحقه من أذى السحرة والكهان، فانتصر بعون الله على الطغاة. وعلمت بأقوام «ياجوج» و»ماجوج» الذين سيزحفون يوما على الأرض ليجعلوها خرابا، وعلى البحار التي ستصير يبابا.
وكانت خزانة المؤسسة نافذة على عالم آخر من المعرفة. عبرها عشقت «النظرات» و «العبرات» و «النبي»، وحفظت لشعراء المهجر ومدرسة الديوان وغيرهم، أشعارا وأشعارا:
قال السماء كئيبة وتجهما قلت ابتسم يكفي التجهم في السما
لإيليا أبو ماضي.
لقيتها، ليتني ما كنت ألقاها تمشي، وقد أثقل الإملاق ممشاها
لمعروف الرصافي.
ما أكثر الإخوان حين تعدهم لكنهم عند النائبات قليل
لعلي بن أبي .طالب.
غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شاد
لشاعر المحبسين أبي العلاء المعري
… ومطالع قصائد كثيرة للمتنبي وأبي تمام والبحتري وحسان بن ثابت وغيرهم من فطاحل الشعر العربي القديم والحديث.
وجعلنا من قمامات النصارى ب» حي العصافير(cité des oiseaux) مرجعا لا ينضب لتقوية ثقافتنا الفرنسية. كلما مررنا بالحي، في الذهاب والإياب، تسابقنا لجمع ما بسلال القمامة من مجلات فرنسية ( باري ماتش)، وروايات مصورة لقصص غرامية بالأبيض والأسود. كنا نتناوب على قراءتها ليلا، وفي خلسة عن أهل الدار. قصص ألهبت مشاعري وحركت في نفسي رغبة جامحة لعناق أنثى شبيهة ببطلات الروايات وصور الحسناوات على صفحات المجلة الفرنسية ذات الورق الصقيل، بقدر ما نميت قاموسي اللاتيني لاسيما في موضوعة العشق والغزل المتهتك:
je t’aime !… je t’adore !…. mon amour !…
Embrasse-moi !…. mon ange !…. c’est vraiment terrible !
عبارات حارقة تذهب الوسن عن الجفون، وتغري بما يطفئ الحريق في الدواخل، تزيد من سعيرها مشاهد جسورة من العناق والقبل والنظرات الساحرة الولهانة بالحبيب، مقبلا كان أم مدبرا. كم من مرة أعدت قراءة الحوارات الغرامية حتى مطلع الفجر، وحفظت ما اعتبرته أروع كلام يمكن أن يخاطب به حبيب حبيبه. إن استعصى علي فهم لفظ أو عبارة، استعنت بقاموس من الحجم الصغير.
صارت القراءة غذاء يوميا للروح والعقل، وعالما للمتعة والسفر عبر أزمنة بعيدة وأصقاع بلا ضفاف … لا أنهي قصة أو مجلة حتى أظفر عن طريق الإعارة أو التبادل بكتاب جديد. وأضحت مجلة» العربي» مرجعا ثابتا، نوفر ما جادت به الظروف من سنتيمات، لاقتناء عدد الشهر. والحقيقة أن «العربي» أسهمت بقسط وفير في تنمية ثقافتي العامة بالنظر لتعدد موضوعاتها التي تناولت التاريخ والجغرافية والفنون والاكتشافات العلمية والأدب والتراث والمعمار. وكانت أعز موضوعاتها على نفسي تلك التي كانت بقلم رئيس تحريرها آنذاك أحمد زكي صاحب مقولات لم أنساها، بالنظر لعمقها وبيان لفظها: « كم من أمة سادت ثم بادت»… « وحدة الله تتراءى في وحدة خلقه»، فضلا غن استطلاعات لأنحاء مغمورة من الوطن العربي والعالم أجمع.
الثانوية بناية جديدة ، حديثة البنيان، فسيحة الجنبات، بها ملاعب وحلبة لألعاب القوى، ألحقت بها داخلية ولجها تلاميذ قدموا من أعماق سوس والصحراء. مدير المؤسسة، الأستاذ حجي، كهل وسيم وحازم، لا يتحدث سوى اللغة الفرنسية، حريص على الحضور إلى المؤسسة قبل الجميع ومغادرتها بعد الجميع. عند افتتاح الموسم الدراسي طاف على الفصول، فشجعنا على العمل الجاد والسلوك القويم، وأهاب بالأساتذة على بذل ما ينبغي من جهد للارتقاء بمستوانا الدراسي. لم تتغير مرفولجية قسمنا إلا قليلا، بينما شمل التغيير كل أساتذتنا. « أسندت مادة اللغة العربية لأستاذ شاب، قصير القامة، وسيم المحيا، بشوش على الدوام، يدرس على مهل ويشتغل بأريحية كبيرة. يقضي جل الوقت جالسا لمكتبه دون مكتفيا بتوزيع الأدوار بين التلاميذ. بقدر رقة سلوكة ومعسول كلامه ، كان شح تنقيطه للفروض والاختبارات. وتكفل باللغة الفرنسية والتاريخ والجغرافية (كانتا تدرسان باللغة الفرنسية) الحاج المهدي»لوكس»، ضابط فرنسي سابق، اعتنق الإسلام، وتزوج مغربية مسلمة، واختار أن يكون مغربيا, وأن يسهم في تربية وتعليم أبناء المغرب. عرف الرجل بدماثة أخلاقه وحبه للعمل، والتزامه بنظام انضباطي صارم، منذ أن كان أول مدير لإعدادية «بوزكارن» بالجنوب المغربي.يأتي الثانوية ممتطيا جواده، في هيأة فارس نبيل قادم من أعالي «لالوار». وفي سحنته ولباسه ومشيته بقايا ضابط مجد وقاس مع جنده. طويل القامة، شاحب البشرة، حاد النظرات، محب للعمل في نظام وانتظام، رحيم بالمستضعفين ممن «خانتهم الصحة» أو غدر بهم الزمن، شديد العقاب تجاه كل كسلان أو غشاش يفسد في الفصل ولا ينصت. الحاج «لوكس»، أطال الله عمره، نموذج بيداغوجي خاص ومتميز بوضوح أهدافه، ونجاعة أساليب التلقين والتبليغ والتدريب، وفي أنماط التتبع والتقويم، وفي أشكال الزجر والعقاب والتثمين والتشجيع. ألزمنا بإتباع توجيهات دقيقة تهم كتابة تاريخ كل درس وعنوانه ومحتواه مع وضع خطوط معدودة الخانات بينها، وترك هوامش إضافية بداية كل فقرة، واحترام علامات التنقيط وختم النص بخط النهاية. وويل لمن أصابه سهو أو غفلة. عندما ننتهي من حصة الإملاء، نضع أقلام الحبر جانبا، ونعوضها بأقلام الرصاص، فيصحح كل تلميذ ما ارتكبه من أخطاء، ويكتب بقلم الرصاص الكلمة الصحيحة بين سطرين، ثم يعد أخطاءه، ويسجل النقطة التي حصل عليها في الخانة المخصصة لذلك. بعدها يعيد الحاج لوكس التصحيح بالقلم الأحمر. إن اكتشف غشا يستشيط غضبا، فيكون نصيب من غش أو حاول ما تيسر من لكمات ترسل على عواهنها، مرفوقة بقولة صارت لدى أستاذنا لازمة:» انت تجر وأنا نجر حتى يتقطع الحبل». لكن الحاج لوكس حرص دوما على أن يبقي حبل المودة متينا مع تلامذته. نهاية كل حصة يطبطب على جبين من عوقب منا ويوصيه بالجد والاجتهاد، ويودعه بكلمته المعهودة: لا بأس. على يديه تعلمنا العمل الجاد ونظام الكتابة واستوعبنا قواعد النحو والصرف، وسافرنا إلى عالم «البِؤساء»: جان فالجان وكوزيت وكافروش. وعلى يديه حفظنا تاريخ المغرب على طريقة حفظ القرآن بجامع «غرس علي». لذلك أحببت الحاج لوكس وأحببت من خلاله لغة موليير، وكتابات فيكتور هيغو، وتعاطفت مع كوزيت ، تلك الخادمة الصغيرة التي ذاقت العذاب لدى آل تينارديي، ولم تنعم بمداعبة دمية. فسرت منذئذ عاشقا للأدب الفرنسي، وتلك حكاية سنأتي على تفاصيلها.
«مدام. غ»، امرأة عملاقة، هيأتها أقرب لهيأة «الكوبوي»، ترتدي بذلات على شاكلة الأزياء العسكرية لضباط الحرب العالمية الثانية، وتتدلى على صدرها سلاسل معدنية تزينها أحجار في لون اللبان والزمرد. غزت محياها تجاعيد لم تنفع كل مراهم العالم في إخفائها أو تليينها، ولم تزدها أظافرها الطويلة المصبوغة إلا ذمامة ما بعدها ذمامة. فضلا عن ذمامة خلقتها ، كانت أستاذة العلوم الطبيعية قاسية، ظلومة، تمقت المغاربة وتحتقر العروبة. تأتي الثانوية على متن سيارة فارهة تزيد من سرعتها كلما اقتربت من باب المؤسسة فتملأ الفضاء غبارا غير آبهة بمن حولها. تسير عبر الممرات بخطى عريضة، فتسمع طقطقات كعبي جزمتها من بعيد. ترمي بمفاتيح قاعة الطبيعيات من مسافة بعيدة اتجاهنا ونحن مصطفين أمام حجرة الدرس، فيكون على من تخلف منا التقاط المفاتيح وفتح الباب قبل أن تصله «عاقصة». وقد يكون سيء الحظ إن سقطت منه المفاتيح أو تأخر في إنجاز المهمة. تسمعه «عاقصة» أسوأ النعوت وتسخر منه طيلة الحصة، ولن تغفر له هفوته إلا إن أتاها مستقبلا بما تضيفه للمتحف الطبيعي الذي أنشأته داخل القاعة: حيوانات وطيور وزواحف محنطة، وجماجم وحوش وبشر ، ونباتات وطحالب وأصداف، وصخور ورمل وأسماك في كل الألوان، ومستحثات، وهياكل عظمية و…و… ودروس مكتوبة بخط رائع بكل الألوان على سبورات متلاصقة كست جدارين متقابلين… كنا نتبارى في تأثيث المتحف وتزيين الدفاتر بصور المخلوقات كلها بغية التودد لها والحصول على أعلى النقط … كانت الأستاذة مهووسة بالصور والكراسات المنمقة، وتميل لمن يسعى لخدمتها من التلاميذ… وما أكثر المتملقين الذين لم يجدوا غضاضة في التقرب ل «عاقصة» ولو عبر الوشاية. لم أسلم من شرها وسوء معاملتها خاصة بسبب إهمالي لدفتر الطبيعيات وعدم انضباطي لتعليماتها وإبداء تبرمي من غطرستها. كنت في الحقيقة أكرهها، وأنتظر يوما أرد لها فيه الصاع صاعين وأكثر… وهو شعور تقاسمته مع كثير من الزملاء.
لم يكن أستاذ الرياضيات أقل من «م.غ» فضاضة وقسوة. ولعل ما ميزه عنها ضعفه المعرفي البين وجهله الواضح بطرق التدريس، فكان يعوض عن تواضعه العلمي والبيداغوجي بالصراخ، وأحيانا بسلوك بهلواني لا معنى له. كان «م.ب» من بين الذين ألحقوا بالتعليم المغربي في إطار التجنيد الإجباري، ولم يسبق لهم أن درسوا ولم تتوفر فيهم المؤهلات المعرفية والتربوية لممارسة التدريس. كان قصير القامة، مدكوك البدن، ذا لحية كثة وشوارب تكسو الشفتين، معتدا بذاته ، مزهوا بعضلاته. يعجبه أن يتحدث عن ذاته بداية كل حصة، عن رياضة الريكبي التي كان يمارسها بفرنسا، وعن عشيقاته هنالك، قبل أن يلقي علينا درس الرياضيات مكتفيا بإعادة كتابة ما يضمه الكتاب من قواعد ومعادلات دون شرح ولا تفسير، وينهي الحصة بمطالبتنا بإنجاز سلسلة طويلة من التمارين. لذلك لم يقدر جل التلاميذ على مسايرته، فاكتفى بتعليم نفر من النجباء لا يتعدون أصابع اليد الواحدة. قلت لنفسي: « إذا عمت هانت». عزفت عن الرياضيات وربيبتها الفيزياء في حين تركز اهتمامي على مواد اللغتين العربية والفرنسية وعلى التاريخ والجغرافيا
أسندت اللغة العربية للأستاذ حسني رحمه الله، رجل وقور، طيب ورحيم، يرتدي جلبابا وطربوشا تقليديا وخفا من الصنع المحلي، ذو ثقافة عربية أصيلة. على يديه درسنا النحو والبلاغة والتفسير والحديث والشعر. ولعل أجمل ما كنا نقدره في أستاذنا، تسامحه وتساهله في تصحيح الفروض وتنقيطها. يخبرنا بيوم الاختبار، ويحدد موضوعه ومضمونه، مما كان ييسر على المجدين التحضير الجيد، وعلى الكسالى «التحريز» المتقن، فتأتي النتائج ممتازة. ومن طرائف أستاذنا الجليل، أنه إذا ما حصل أحدنا على 16/20 ، اعتبر النقطة ضعيفة وأوصاه بأن « يجتهد» أكثر. إن شكونا له صرامة غيره من الأساتذة الفرنسيين، زاد جوده ووعدنا بالمزيد، ولعنهم ودعا عليهم بالرحيل. كان للرجل حساسية مفرطة اتجاه الفرنسيين.
بداية السنة الموالية نفسها غادرني صنوي إلى الثانوية العسكرية بالقنيطرة تاركا وراءه فراغا لم يقو أخي الأصغر على ملإه. ودعته أمي بدموع الفرح، معتبرة ولوجه المدرسة العسكرية بداية مستقبل زاهر. في نفس السنة رحلنا إلى» تكمي أفلا» لنجاور أختي… سكنا دارا جديدة صحبة أسرة العياشي الطنجاوي وزوجته فاطمة. العياشي إنسان لطيف وصموت، لا يلج الدار بعد العودة من الثكنة مساء الا ليغادرها على عجل في اتجاه مقهى «ارجا» حيث يمارس لعبة الورق حتى ساعة متأخرة من الليل، يشاركه في لعبته زمرة من الجنود وبعض رواد المقهى الدائمين من سكان تكمي اوفلا…
بداية أكتوبر 1974، نزلت فاس طالبا بقسم الفلسفة. بدت لي المدينة فضاء رائعا لا نهاية له، فمنيت النفس باكتشاف علومها وحدائقها وأزقتهاالعتيقة. للمدينة في مخيلتي صورة باذخة رسمتها في مخيلتي أحاديث اهل بلدتنا الجبلية عنها: نساء غض، بيض، ضفائرهن من سندس وحناء، ترفلن في ثياب من حرير، وأخفاف من قطن ناعم، ورجال تقودهم بطونهم نحو متاجر الذهب والفضة، يرتادون جلابيب «الشعرة» وتزين هاماتهم طرابيش حمراء. وجامع كبير ذو سواري منقوشة ونافورات ماؤها اصفى من دموع الغوادي، إلى جوار ضريح ولي صالح تحكي أخبار السلف أنه مؤسس هاته الجنة…
نزلت فاس وانا لا أدري عنها سوى ما حكته ألسن الرواة، ولا أعرف من سكانها سوى أسرة عمي عبد السلام. استقبلتني الأسرة بحفاوة بعد فراق دام أكثر من عشر سنوات، حينما ودعنا وزان على متن شاحنة صفراء، حشرت فيه النساء والأطفال وما قدرنا على حمله من أثاث، في اتجاه دواويرنا الجبلية، في حين غادر الرجال وزان في موكب عسكري رهيب نحو السوس بلد السحر والأفاعي.
كان صباحا غائما… الرذاذ يناجي في حنو شجيرات التوت الناعمة… جنود يسرعون الخطى نحو الثكنة… وأطفال من الجنسين يسيرون في حبور نحو شارع السلاوي. صاحبت عمي عبد السلام حتى «باب الغول». دلني على الطريق المؤدي للجامعة وأوصاني بأن نلتقي عند الزوال…
«باب الغول» حي صفيحي يضم اكواخا بسيطة انتظمت في صفوف مرصوصة متقابلة على جوانب ازقة متربة. بعض الدور الواطئة تظللها أشجار التوت والكروم، إلى جانب بعضها الآخر أحدثت أحواض نعناع وبقدنوس وأزهار. بدا لي الحي بسيطا وهادئا، شبيها في هندسته وألوانه وتواضع دوره بحي «العادر» بوزان.
سرت تحت الرذاذ في اتجاه الحي الجامعي… انتصبت بعد مدخله الحديدي عمارة من أربعة طوابق يكسوها سقف من قرميد أحمر… يتوزع الحي إلى جناحين متلاصقين… طلاب وطالبات يتنقلون وحدانا وزرافات بين مرافق الحي ويتجولون في الساحات المجاورة، يتبادلون الأحاديث والابتسامات… يبدو أن بعضهم وبعضهن وصل للتو يحمل متاعه في صف طويل على باب أحد المكاتب… غير بعيد توجد كلية الآداب والعلوم الانسانية: عمارة من نفس الطراز وحركة دائبة للطلبة القادمين من أقاليم مختلفة. كنت وحدي… أمشي وحدي… أفكر وحدي… كل أصدقائي تركتهم هناك في سوس وضفاف المحيط، لم تبق الا ذكريات ووجهها القمري يضيء دروب المستقبل الذي تواعدنا على نسج ملامحه سويا رغم المسافات. كان علي أن أقرر وأختار وأدبر حياتي الجديدة في منفاي لوحدي. اتخذت ذاك الصباح قرارين، أولهما، الالتحاق بقسم الفلسفة؛ وثانيهما أن أقطن الحي الجامعي. الجامعة كما كنت أتصورها فكر وحرية وبحث عن الذات واستقلال عن كل سلطة، ويجب أن تكون إبحارا مع الذات نحو ضفاف مجهولة وساحرة…
سكنت الغرفة 228 بالطابق الثالث رفقة ثلاثة طلاب، ينحدر اثنان منهما من مكناسة الزيتون ويتابعان دراستهما بكلية الحقوق… كأنهما توأمان لا يفترقان الا لماما، يغدران الغرفة معا ويعودان بعد منتصف الليل في حالة سكر غير طافح، فيستغرقان في حديث لا ينتهي عن ذكريات مشتركة بالثانوية، وعن مغامراتهما العاطفية، وعن أساتذة درسوهما، وعن الكوديم (النادي المكناسي لكرة القدم) وأشياء أخرى… أما الطالب الآخر فما أن يلج الغرفة حتى يطفئ الأنوار ويسرقه النوم. حاولا المكناسيان استقطابي لعالمهما، ودعاني يوما الى ليلة خمرية خارج الحي. اعتذرت بلباقة، لا عفة ولا وقارا، وانما احتشاما من خواء الوفاض. ولأن الدراسة لم تنطلق بعد اخترت أن أتسكع عبر المدينة، فصرت أقضي ساعات طوال أتجول بين شوارع «دار دبيبغ الفسيحة»، من «ساحة فلورانس» الى «لا فيات»، وأواصل السير حتى مولاي عبد الله وجنان السبيل فالطالعة الكبيرة إلى أن أتيه بقيسارية مولاي ادريس. فضاءات متنوعة تعج بالنشاط، سحرتني صناعات حرفييها ورموش بنات الحارات المجاورة المتسللات عبر دروب ضيقة متجهات الى مدارس خارج الأسوار… فاس البهاء والرونق والأدب الرفيع، فيه يتنفس التاريخ وتتدلى من مكتباتها عناقيد المعرفة.
لم تطل أيام التسكع، إذ سرعان ما فتحت الجامعة ابوابها، فتغيرت وتيرة الحياة التي توزعت بين زيارات خفيفة لأسرة عمي عبد السلام بباب الغول وفضاءات الحي الجامعي ومحاضرات أساتذة سحروني بأسئلتهم العميقة ورحابة أفقهم العلمي ورزانة الأداء. هكذا بدا لي جمال الدين العلوي وهو يتحدث في هدوء يخفي حزنا عميقا عن الحكماء الأوائل واطروحاتهم حول نشأة الوجود وأصل الكون؛ ومحمد سبيلا في أحاديثه المغرية عن الفلسفة الحديثة وعن ديكارت وشكه المنهجي الذي كان معبرا ضروريا لاستعادة يقينه في العالم قطعة قطعة. لم يكن عدد طلاب الفلسفة يزيد عن المائة الا قليلا، فكان التعارف بيننا يسيرا والتواصل ميسرا. هكذا بدا لي انا القادم من الجنوب النائي والمتطلع لكسر طوق وحدته. تركت ذلك للأيام ومصادفاتها، وركزت اهتمامي على النهل من ينابيع المعرفة الفلسفية ، مسترشدا بتوجيهات أساتذتي الأجلاء.
في احدى امسيات نونبر البارد جلست وحدي جوار الباب الرئيسي للحي الجامعي بعد ان تناولت وجبة العشاء حين بادرني بالتحية زميل لي بقسم الفلسفة. بادلته التحية بأحسن منها، فجرى بيننا حديث عادي. تعرف كل منا على الآخر، عن اسمه وأصله ومساره واهتماماته. علمت أن الصافي ينتمي لمدينة بركان وأنه يقطن الغرفة 158، وبدا لي أنه منشغل بالسياسة، وأنه إنسان لطيف وودود ويدعو الى الاطمئنان. تكرر اللقاء مرات ومرات، صرنا لا نفترق. من خلاله تعرفت على وجوه كثيرة تنتمي في أغلبها للمنطقة الشرقية.