أفلام غيرت العالم 10 – مقاطعة هارلان

هناك تعريف شائع يقول بأن السينما هي إعادة ترتيب الوعي في عقول الجمهور، فالسينما ليست فقط مرآة تعكس ما يجري في المجتمع بل أيضا أداة لإعادة تشكيل المجتمع.
فإذا كانت السينما، ككل الفنون، أداة للتعبير عن رؤية معينة اتجاه الواقع، إلا أن تأثيرها على الناس أقوى من كل أدوات التعبير الفنية الأخرى، حيث استطاعت، منذ ظهورها، أن تشكل قوة مؤثرة في الرأي العام، قوة قادرة على تكوين أو المساهمة في تكوين رؤية مشاهديها لهذا العالم وأن تؤثر بشكل ملحوظ في تغيير نظرتنا للواقع بمختلف تجلياته.
ضمن هذا الاتجاه تميزت أفلام عديدة، بكون تأثيرها كان أقوى من غيرها حيث انها كذلك قادت إلى تغيير قوانين، سياسات، سلوكيات وأفكار، كان العديد منها يعتبر من المسلمات، وبذلك تتضح القدرة الفائقة للسينما على تغيير الواقع والوعي الإنساني.
في هذه السلسلة مجموعة من الأفلام التي، بفضل جرأتها، ثرائها الفني وعمقها الإنساني، استطاعت أن تساهم بشكل كبير في تغيير العالم إلى الأفضل.

 

يعتبر الفيلم الوثائقي “مقاطعة هارلان”، Harlan County، من أهم الأفلام الأمريكية التي تناولت كفاح الطبقة العاملة، وعمال المناجم على الخصوص، وكان له تأثير كبير على تشكيل وعي العمال الأمريكيين منذ عقد السبعينات من القرن الماضي، وإدراكهم لأهمية النضال من أجل تحسين أوضاعهم الاجتماعية.
في سنة 1973، اندلع إضراب لعمال مناجم الفحم في مقاطعة “هارلان” التابعة لولاية “كنتاكي” الأمريكية، حيث طالب العمال من الشركة المالكة للمناجم التوقيع على اتفاقية جماعية تضمن تحسين شروط العمل، من بينها الكف عن استعمال بعض الألغام التي تؤثر على صحة العمال، بالإضافة إلى الزيادة في الأجور وغيرها من المطالب الضرورية للعيش الكريم، غير أن الشركة رفضت كل هذه المطالب، لتبدأ معركة بين الطرفين.
مع اندلاع الإضراب، أرسلت قناة تلفزية في نيويورك بعثة صحافية إلى مقاطعة “هارلان” لإعداد روبورطاج حول الموضوع واذاعته في نشرة الأخبار كما جرت العادة.
الصحافية الشابة، باربرا كوبل التي كانت ضمن البعثة الصحافية، وعند وصولها إلى البلدة حيث يعيش العمال، ستصاب بالصدمة، عندما ستقف على الأوضاع المزرية والمأساوية التي يعيشها عمال المناجم وعائلاتهم، في منازل خشبية متهالكة، الأجور تكفي بالكاد لتسد الرمق، أوضاع لم تكن تتوقع انها موجودة في الولايات المتحدة، فقررت ان تواكب مع العمال هذه المعركة، وأن تنقل إلى كل أنحاء البلاد ومختلف دول العالم الوجه الآخر للولايات المتحدة، الصورة القاتمة التي ظلت غائبة أو مغيبة عن الرأي العام.
هكذا ستقرر “باربرا كوبل” أن تعيش مع العمال وتصور ظروف عيشهم وإضرابهم البطولي الذي سيستمر 13 شهرا. كانت السلطات الأمريكية تواجه إضراب العمال بمختلف أنواع القمع والتضييق، وغالبا ما كانت تصف إضراباتهم بأنها ذات أهداف شيوعية لتأليب الرأي العام ضدهم، غير أن عمال مقاطعة “هارلان” سيصمدون ويتحملون كل هذه الضغوط، ووجدت السلطات نفسها مضطرة للتخفيف من قبضتها لأن كاميرا الصحافية الشابة والشجاعة كانت تسجل كل تفاصيل هذه المواجهة، وهو ما منح العمال غطاء كانوا في أمس الحاجة إليه، ونتيجة لكل ذلك حقق العمال مطالبهم.
أما النتيجة النهائية لهذه التجربة الفريدة فكانت الفيلم الوثائقي “مقاطعة هارلان” الذي أخرجته “باربرا كوبل” اعتمادا على مئات الساعات من التصوير، والذي نقل، في صورة حية وبأسلوب فني رائع واحدا من أشهر إضرابات عمال المناجم الأمريكيين، وهو الفيلم الذي سيفوز بأوسكار أفضل فيلم وثائقي سنة 1976.
حظي الفيلم بإقبال جماهيري غير متوقع وأشاد به النقاد والإعلام، وساهم بشكل كبير في تشكيل وعي جمعي لدى الطبقة العاملة، بمدى أهمية الإضراب كسلاح من أجل تحقيق المطالب الاجتماعية وتحسين ظروف العمل والمزيد من الحقوق، مما جعل هذا الفيلم يتبوأ مكانة مهمة كواحد من الأفلام التي لعبت دورا في تغيير الواقع نحو الأفضل.


الكاتب : عزيز الساطوري

  

بتاريخ : 06/05/2020

أخبار مرتبطة

يقدم كتاب “ حرب المئة عام على فلسطين “ لرشيد الخالدي، فَهما ممكنا لتاريخ فلسطين الحديث، بشَـن حـرب استعمارية ضد

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *